الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
في مالية الحقوق المعنوية (الابتكار)
قال ابن تيمية: حقوق الآدميين تقبل من المعاوضة والبدل ما لا يقبلها حقوق الله تعالى، ولا تمنع المعاوضة في حق الآدمي إلا أن يكون في ذلك ظلم لغيره، أو يكون في ذلك حق لله، أو يكون من حقوق الله
(1)
.
[ن - 1] الحقوق الفكرية
(2)
، أو الحقوق المعنوية أول من أقرها واعترف بها، ونظمها هو القانون الفرنسي، ثم انتقلت بفعل التأثر إلى القوانين العربية.
فإذا جاء الفقيه المسلم ليناقش هذه الحقوق في ظل هيمنة القوانين العربية
(1)
مجموع الفتاوى (31/ 232).
(2)
أطلق بعض القانونين على الحقوق المعنوية مصطلح (الحقوق الأدبية).
واختار الزرقاء رحمه الله أن يسميها (حقوق الابتكار) وعلل ذلك بأن اسم الحقوق الأدبية ضيق لا يتلاءم مع كثير من أفراد هذا النوع، كالاختصاص بالعلامات الفارقة التجارية، والأدوات الصناعية المبتكرة، وعناوين المحال التجارية مما لا صلة له بالأدب والنتاج الفكري، أما اسم (حق الابتكار) فيشمل الحقوق الأدبية كحق المؤلف في استغلال كتابه، والصحفي في امتياز صحيفته، والفنان في أثره الفني من الفنون الجميلة، كما يشمل الحقوق الصناعية والتجارية مما يسمونه اليوم بالملكية الصناعية كحق مخترع الآلة، ومبتدع العلامة الفارقة التي نالت الثقة، ومبتكر العنوان التجاري الذي أحرز الشهرة
…
الخ. انظر المدخل إلى نظرية الالتزام (ص: 32).
ولم يرتض بعض الفقهاء المعاصرين تسمية الحقوق المعنوية بحق الابتكار، قائلًا «بأنه أخص من المطلوب؛ لأن» الابتكار «يوحي بتخصيص هذه الحقوق بما فيه الابتكار والإبداع فقط، في حين أن الحق قد يترتب هنا وإن لم يوجد ابتكار سواء أكان في الأدبيات أم في الأسماء التجارية أم الصناعية أو نحوها، ولذلك نرى إبقاء هذا الاسم، وهو الحقوق المعنوية» . انظر بحوث في فقه المعاملات المعاصرة - علي قره داغي (ص: 400).
المتأثرة تأثرًا كاملًا بالقوانين الغربية فإنه إما أن تكون مرجعيته في بحثه مستمدة من الفقه الإسلامي، والذي لن يجد هذا الأمر محسومًا خاصة من خلال الفقه الإسلامي القديم. وإما أن تكون المرجعية في ذلك إلى القوانين العربية المستمدة من القوانين الغربية، وهذه القوانين نشأت في بيئة النظام الرأسمالي، وإطلاق سلطان الإرادة، والحرية الفردية.
فإذا حاول الفقيه تخريج هذا الحق على أحد الحقوق المقررة في الشريعة الإسلامية فإن اجتهاده سيكون من قبيل النازلة الفقهية؛ لأن هذا الحق لم يكن معترفًا به في العصور الإسلامية السابقة، وسيكون على الفقيه أن يقدم الحجة المقنعة في عدم اعتبار هذه الحقوق حقوقًا مالية مع قيام السبب طيلة هذه القرون من عصر الدولة الإسلامية. ولن تكون هذه الحقوق الفكرية مهما قيل عنها بمنزلة الحقوق التي جاء النص الشرعي باعتبارها وذلك كحق الشفعة، وحق الخيار، وحق الطلاق، وحق القصاص، وحق الحضانة والولاية، وحقوق العاقدين وغيرها من الحقوق المالية وغير المالية المنصوص عليها.
فإذا رجع الفقيه المسلم إلى تراثه في تعريف المال ليرى هل هذه الحقوق تدخل في مسمى المال؟ وبالتالي يصح أن تكون هذه الحقوق محلًا للمعاوضة؛ لأن ما ليس بمال لا يجوز بذل المال لتحصيله والمعاوضة عليه، وجدنا هناك خلافًا بين مذهب الحنفية وبين مذهب جمهور الفقهاء في بيان حقيقة المال.
فمذهب الحنفية يرى أن المال لا يقع إلا على شيء مادي يمكن حيازته وادخاره، وهذا الشرط عندهم أخرج منافع الأعيان؛ لأنها أعراض لا يمكن حيازتها وادخارها فالسيارة مال؛ لأنها شيء مادي محسوس يمكن حيازته وادخاره، بينما ركوب السيارة ليس مالًا عند الحنفية؛ لأنه لا يمكن حيازته وادخاره، وقس على ذلك سكنى الدار ونحوها.
فالحنفية يرون أن هذه المنافع ملك، وليست مالًا
(1)
.
وليس هذا هو الخلاف الوحيد بين الحنفية والجمهور في حقيقة المال، ولكن هذا هو الخلاف الذي يعنينا في مسألتنا هذه.
فإذا كانت الحقوق الفكرية كما يقول الشيخ علي الخفيف: «سلطة على شيء غير مادي، هو ثمرة فكر صاحب الحق، أو خياله، أو نشاطه، كحق المؤلف فيما ابتدعه من أفكار علمية، وحق الفنان في مبتكراته الفنية، وحق المخترع في مخترعاته الصناعية، وهكذا» .
فإذا كانت الحقوق الفكرية تقع على شيء غير مادي لا يمكن حيازتها وادخارها فإن الخلاف في ماليتها يجب أن يجري عليها كما جرى الخلاف في مالية المنافع بين الفقهاء المتقدمين.
والحق أن مذهب الحنفية مذهب ضعيف جدًا، وغير معمول به في عصرنا، وقد دلت الأدلة الكثيرة على أن المنافع من الأموال، وقد سبق تفصيل ذلك في بحث سابق.
وإذا ثبت أن المنافع من قبيل الأموال، فإن إثبات المالية لها لا بد من توفر شرطين: الإذن بالتملك. وجريان التمول.
قال ابن عبد البر رحمه الله: «المعروف من كلام العرب أن كل ما تملك وتمول فهو مال»
(2)
. فأشار ابن عبد البر إلى الأمرين معًا: التملك والتمول.
فالشرط الأول لمالية الشيء هو الإذن بالتملك. بمعنى ألا ينهى الشارع عن
(1)
سبق العزو إلى كتب الحنفية عند الكلام على مالية المنافع في مبحث ماض مستقل.
(2)
التمهيد (2/ 5 - 6).
تملكه، فما نهى الشارع عن تملكه، أو كان الشيء بطبيعته لا يقبل الملكية فلا يعتبر مالًا. فالأول: كالميتة والخمر، والدم، والخنزير، والأصنام. فقد نهى الشارع عن بيعها كما في حديث جابر المتفق عليه
(1)
، وبالتالي لا تعتبر مالًا بالإجماع.
والثاني: كالهواء، وحق التنقل، وحق إبداء الرأي، فإن هذه الحقوق لا تقبل الملكية فلا تعتبر مالًا.
فإذا نظرنا إلى الحقوق الفكرية فإنه لا يوجد نهي من الشارع ينهى عن تملكها، فالاسم التجاري، والعلامة التجارية وحق المؤلف والمخترع لا يوجد نص من الشارع ينهى عن تملكها، أو عدم إضافتها إلى أصحابها، أو جواز التعدي عليها.
الشرط الثاني لمالية الشيء: هو جريان التمول بين الناس، فلا يكفي كون الشارع لم ينه عن تملك هذه العين أن تكون مالاً حتى يجري تمولها بين الناس، ويعتاد الناس ذلك، وتصبح لها قيمة مالية عندهم.
وهذا الشرط متوفر أيضًا في الحقوق الفكرية، فإن الناس في عصرنا اعتادوا تمول مثل هذه الأشياء، وبذل المال فيها، والمعاوضة عليها.
إذا تقرر هذا نستطيع أن نقول: إن حقيقة المال يشمل الحقوق الفكرية باعتبارها من قبيل المنافع.
هذا الاستدلال على الحقوق الفكرية (المعنوية) على سبيل الإجمال، وسوف نتناول هذه الحقوق على سبيل التفصيل في المباحث التالية، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
* * *
(1)
صحيح البخاري (2082)، ومسلم (2960).