الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدليل الثاني:
(ح-3) ما رواه البخاري من طريق أبي الزناد، عن الأعرج،
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. ورواه مسلم
(1)
.
فأفاد وجوب اجتناب المنهي عنه، وتصحيحه يدل على عدم اجتنابه، وهذا مخالف لنهيه صلى الله عليه وسلم.
الدليل الثالث:
«إذا كان الأمر يقتضي الصحة، فالنهي نقيضه، والنقيضان لا يجتمعان، فيكون النهي مقتضيًا للفساد.
وأجيب:
بأن الأمر يقتضي الصحة شرعًا، لا لغة، فاقتضاء الأمر للصحة لغة ممنوع، كما أن اقتضاء النهي للفساد لغة ممنوع»
(2)
.
الدليل الرابع:
لا نعرف أن الشيء صحيح، أو باطل إلا بالأمر والنهي، ولم يأت في كلام الشارع أن هذا العقد صحيح، أو فاسد، أو هذا شرط، أو ركن، أو واجب، وإنما هذه عبارات أحدثها الفقهاء، وإنما الشارع دل الناس بالأمر، والنهي، والتحليل والتحريم.
(1)
البخاري (7288)، ومسلم (1377).
(2)
إرشاد الفحول (1/ 499).
والصحابة، والتابعون، وسائر أئمة المسلمين كانوا يحتجون على فساد العقود بمجرد النهي كما احتجوا على فساد نكاح ذوات المحارم بالنهي المذكور في القرآن واستدلوا على فساد نكاح المطلقة ثلاثا بقوله:{فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وكذلك استدل الصحابة على فساد نكاح الشغار بالنهي عنه وكذلك عقود الربا، وغيرها. فعلموا أن ما نهى الله عنه فهو من الفساد، وليس من الصلاح؛ فإن الله لا يحب الفساد فلا ينهى عما يحبه، وإنما ينهى عما لا يحبه فعلموا أن المنهي عنه فاسد، ليس بصالح وإن كانت فيه مصلحة، فمصلحته مرجوحة بمفسدته. وقد علموا أن مقصود الشرع رفع الفساد، ومنعه، لا إيقاعه، والإلزام به فلو ألزموا بموجب العقود المحرمة لكانوا مفسدين، غير مصلحين، والله لا يصلح عمل المفسدين كل من عمل بمعصية الله فهو مفسد، والمحرمات معصية لله، فالشارع ينهى عنها ليمنع الفساد ويدفعه. ولا يوجد قط في شيء من صور النهي صورة ثبتت فيها الصحة بنص، ولا إجماع فالطلاق المحرم والصلاة في الدار المغصوبة، فيها نزاع وليس على الصحة نص يجب اتباعه فلم يبق مع المحتج بهما حجة.
لكن من البيوع ما نهي عنها لما فيها من ظلم أحدهما للآخر: كبيع المصراة والمعيب وتلقي السلع والنجش ونحو ذلك ولكن هذه البيوع لم يجعلها الشارع لازمة كالبيوع الحلال بل جعلها غير لازمة، والخيرة فيها إلى المظلوم، إن شاء أبطلها، وإن شاء أجازها؛ فإن الحق في ذلك له والشارع لم ينه عنها لحق مختص بالله، كما نهى عن الفواحش بل هذه إذا علم المظلوم بالحال في ابتداء العقد، مثل أن يعلم بالعيب، والتدليس، والتصرية ويعلم السعر إذا كان قادمًا بالسلعة، ويرضى بأن يغبنه المتلقي جاز ذلك فكذلك إذا علم بعد العقد، إن رضي أجاز وإن لم يرض كان له الفسخ
وهذا يدل على أن العقد يقع غير لازم، بل موقوفًا على الإجازة إن شاء أجازه صاحب الحق، وإن شاء رده، ولا يقال: إن صحة هذه العقود بعد إجازة من له الحق دليل على أن النهي لا يقتضي الفساد، بل يقتضي الفساد إن أراد صاحب الحق ذلك، وإن تنازل عن حقه فله ذلك.
وكذلك الصلاة في الدار المغصوبة والذبح بآلة مغصوبة وطبخ الطعام بحطب مغصوب وتسخين الماء بحطب مغصوب كل هذا إنما حرم لما فيه من ظلم الإنسان، وذلك يزول بإعطاء المظلوم حقه، فإذا أعطاه بدل ما أخذه من منفعة ماله، أو من أعيان ماله، فأعطاه كراء الدار، وثمن الحطب، وتاب هو إلى الله من فعل ما نهاه عنه، فقد برئ من حق الله وحق العبد، وصارت صلاته كالصلاة في مكان مباح والطعام بوقود مباح والذبح بسكين مباحة، وإن لم يفعل ذلك كان لصاحب السكين أجرة ذبحه، ولا تحرم الشاة كلها وكان لصاحب الدار أجرة داره، لا تحبط صلاته كلها لأجل هذه الشبهة وهكذا إذا أكل الطعام، ولم يوفه ثمنه، كان بمنزلة من أخذ طعامًا لغيره فيه شركة، ليس فعله حرامًا ولا هو حلالًا محضًا، فإن نضج الطعام فلصاحب الوقود فيه شركة وكذلك الصلاة يبقى عليه اسم الظلم، ينقص من صلاته بقدره، فلا تبرأ ذمته كبراءة من صلى صلاة تامة، ولا يعاقب كعقوبة من لم يصل، بل يعاقب على قدر ذنبه وكذلك آكل الطعام، يعاقب على قدر ذنبه، والله تعالى يقول:{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:7، 8] ولا يؤخذ من ذلك مطلقًا بأن النهي لا يقتضي الفساد
(1)
.
(1)
انظر الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 138).