الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
في تعريف الإيجاب والقبول
عقد البيع لا يتم إلا إذا وجدت إرادتان:
إرادة باطنة: تعرف عند الفقهاء بالقصد (النية).
وإرادة ظاهرة: تعرف عندهم بالصيغة (الإيجاب والقبول).
والأولى: هي الأصل، والثانية دالة عليها.
فالنية وحدها لا تكفي. يقول الإمام الشافعي رحمه الله: «النية لا تصنع شيئًا، وليس معها كلام»
(1)
.
ويقول ابن عابدين: «البيع لا ينعقد بالنية»
(2)
.
فلا تعتبر النية وحدها شروعًا في البيع، أو النكاح، أو الإجارة أو الهبة، أو الوقف، أو الوصية، أو غيرهما من أصناف المعاملات؛ لأننا لا نعلم القصد المنوي، فلا بد من دلالة قولية أو فعلية على قصد الإنسان ونيته، ولا يغني أحدهما عن الآخر
(3)
.
(1)
الأم (4/ 115).
(2)
حاشية ابن عابدين (4/ 516).
(3)
يقول ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (3/ 105): «إن الله سبحانه وتعالى وضع الألفاظ بين عباده تعريفًا ودلالة على ما في نفوسهم، فإذا أراد أحدهم من الآخر شيئًا عرفه بمراده، وما في نفسه بلفظه، ورتب على تلك المقاصد والأحكام أحكامها بواسطة الألفاظ، ولم يرتب تلك الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة فعل أو قول، ولا على مجرد ألفاظ مع العلم بأن المتكلم بها لم يرد معانيها، ولم يحط بها علمًا، بل تجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم به، وتجاوز لها عما تكلمت به مخطئة، أو ناسية، أو =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= مكرهة، أو غير عالمة به إذا لم تكن مريدة لمعنى ما تكلمت به، أو قاصدة إليه، فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتب الحكم، هذه قاعدة الشريعة وهي من مقتضيات عدل الله سبحانه وتعال، وحكمته ورحمته، فإن خواطر القلوب وإرادة النفوس لا تدخل تحت الاختيار .... ».
ولا بد من تطابق الدلالة القولية أو الفعلية (الإرادة الظاهرة) مع قصد الإنسان ونيته (الإرادة الباطنة)، فإن اختلفت الإرادة المعلنة عن الإرادة الظاهرة، كما إذا أراد شخص أن يشتري شيئًا معينًا، فأشار إلى شيء آخر، وكما لو كتب التاجر على بضاعته خطأ ثمنًا أقل من قيمتها، فهل المعتبر الإرادة الباطنة، أو المعتبر الإرادة الظاهرة؟
وسيأتي إن شاء الله تعالى عند الكلام على البيع الصوري خلاف الفقهاء فيما إذا جاء اللفظ مخالفًا للمعنى الذي أراده العاقد، فهل المعتبر اللفظ، أو المعتبر المعنى؟
فقيل: المعتبر هو المعنى الذي قصده العاقد، واللفظ تابع للمعنى، وهذا مذهب الحنفية والمالكية وأحد الوجهين في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة.
وقيل: المعتبر اللفظ دون المعنى، وهو قول في مذهب الشافعية والحنابلة. وانظر أدلة كل قول في الباب المشار إليه، وسيأتي مسائل وتفريعات لهذه المسألة في باب اختلاف المتبايعين، سواء كان الخلاف على عين المبيع، أو على ثمنه، أو على اشتراط خيار فيه أو صفة بما يزيد الموضوع إن شاء الله تعالى وضوحًا.
وهناك قول وسط اختاره ابن القيم، أن هناك فرقًا بين القضاء وبين غيره، ففي القضاء العبرة بالإرادة الظاهرة إلا إذا قامت قرينة على الإرادة الباطنة، فيحكم بها.
فالمتكلم بصيغ العقود إذا قصد غير معناها نحو أن يقصد بقوله: أنت طالق، أي أنها طالق من زوج سابق، لا تلزمه هذه الصيغ فيما بينه وبين الله تعالى، وأما في الحكم فإن اقترن بكلامه قرينة تدل على ذلك لم يلزمه أيضًا؛ لأن السياق والقرينة تدل على صدقه، وإن لم يقترن بكلامه قرينة أصلًا، وادعى ذلك دعوى مجردة لم تقبل منه، انظر إعلام الموقعين (3/ 119) وما بعدها.
وكما اختلف أهل الفقه، أختلف أهل القانون، فتجد في القانون نظريتين:
نظرية الإرادة الظاهرة: حيث تعتمد في العقد على ألفاظ المتعاقدين، وليس على إرادتهما، فالمقدم هو المظهر المادي دون الإرادة الكامنة، وقد سادت هذه النظرية في التشريعات الألمانية، حيث ترى هذه النظرية أن الإرادة النفسية (القصد) شيء كامن في النفس، لا يجوز أن يكون لها أثر في القانون، وإنما الإرادة التي تنتج أثرًا قانونيًا هي الإرادة في =
وهذه الدلالة الظاهرة هو ما يسمى عند الفقهاء بالإيجاب والقبول، وقد اختلف الحنفية مع الجمهور في تحديد تعريف الإيجاب
(1)
، والقبول
(2)
.
= مظهرها الاجتماعي، لا في مكمنها، وهي تختلج في الضمير، ولا تأخذ الإرادة مظهرًا اجتماعيًا إلا عند الإفصاح عنها، فالعبر بهذا الإفصاح، إذ هو الشيء المادي الذي يستطيع القانون أن يحيط به، ويرتب أحكامه دون حاجة إلى البحث في هواجس النفس، وما تنطوي عليه من نيات.
ومع أن القانون الألماني يأخذ بالإرادة الظاهرة إلا أنه لا يعتد بها في مسائل مستثناة، منها: إذا صدرت الإرادة الظاهرة من عديم التمييز.
وكذلك لا يعتد بالإرادة الظاهرة في البيع الصوري، وسوف يأتي بحثه إن شاء الله تعالى في مسألة مستقلة، كما أنه يأخذ بالإرادة الباطنة في بعض حالات الغلط. انظر التراضي في عقود المبادلات المالية للدكتور الدريني (ص: 259)
والثانية: نظرية الإرادة الباطنة: حيث تعتمد في العقد على إرادة المتعاقدين، وليس على ألفاظهما، فمادامت إرادة المتعاقدين هي التي تخلق الالتزام، فيجب البحث عن هذه الإرادة، وما مظهر التعبير عنها إلا دليلًا عليها، فإذا قام دليل على أن المظهر المادي (اللفظ أو الفعل) لا يتفق مع الإرادة النفسية فلا بعبأ بالمظهر؛ لأنه المظهر مجرد عرض، والنية هي الجوهر.
وسادت هذه النظرية بصفة أساسية في التشريعات الفرنسية، وأخذ بها القانون المصري واللبناني. انظر نظرية العقد - السنهوري (1/ 167)، النظرية العامة للالتزام - د توفيق فرج، الدكتور جلال العدوي (ص: 83).
(1)
. الإيجاب لغة من وجب الشيء يجب وجوبًا بالضم: إذا ثبت ولزم. واستوجبه: استحقه. ووجب البيع جِبة كـ (عدة) وأوجبت البيع، فوجب، وأوجب لك البيع أو أوجبه هو إيجابًا. انظر لسان العرب (1/ 793)، تاج العروس (2/ 463)، مختار الصحاح (ص: 295).
(2)
. والقبول لغة: من قبل يقبله قبولًا،، وقَبَلت بفلان وقَبِلت به،
وقَبِلْتُ الْعَقْدَ أَقْبَلُهُ مِنْ بَابِ تَعِبَ قَبُولًا بِالْفَتْحِ وَالضَّمُّ لُغَةٌ حَكَاهَا ابْنُ الأعْرَابِيِّ،
وَقَبِلْتُ الْقَوْلَ: صَدَّقْتُهُ. وَقَبِلْتُ الْهَدِيَّةَ أَخَذْتُهَا.
وَقَبِلَتْ الْقَابِلَةُ الْوَلَدَ: تَلَقَّتْهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ قِبَالَةً بِالْكَسْرِ، وَالْجَمْعُ قَوَابِلُ وَامْرَأَةٌ قَابِلَةٌ وَقَبِيلٌ أَيْضًا. وَقَبِلَ اللَّهُ دُعَاءَنَا وَعِبَادَتَنَا وَتَقَبَّلَهُ. انظر لسان العرب (11/ 536)، المصباح المنير (ص:488).
فقيل: الإيجاب: ما يذكر أولًا من كلام أحد المتعاقدين، ولا فرق بين أن يقع الكلام من البائع أو يقع من المشتري.
والقبول: ما يذكر ثانيًا من الآخر، وهذا مذهب الحنفية
(1)
.
وقيل: الإيجاب: هو اللفظ الصادر من قبل البائع، كقول البائع: بعتك، أو ملكتك أو نحوهما.
والقبول: هو اللفظ الصادر من المشتري، كقوله: اشتريت، أو قبلت، أو تملكت، وهذا مذهب الجمهور
(2)
.
وهذا الكلام خلاف اصطلاحي ليس له أثر فقهي اللهم إلا فيمن يخالف في تقدم القبول على الإيجاب في بعض الحالات، فمن جعل الكلام الأول هو الإيجاب مطلقًا سواء صدر من البائع أو المشتري لا تأتي مسألة تقدم القبول على الإيجاب في تفريعاته، ومن جعل القبول هو لفظ المشتري خاصة، تكلم في مسألة تقدم القبول على الإيجاب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيان حكمه مفصلًا في مباحث مستقلة.
* * *
(1)
. فإذا قال البائع: قد بعتك هذا المتاع والمشتري قال: اشتريته أو قال المشتري: اشتريت منك هذا المتاع بكذا فقال البائع: وأنا قد بعتك إياه فكما أن كلام البائع في الصورة الأولى إيجاب وفي الثانية قبول، فكلام المشتري في الصورة الثانية إيجاب وفي الأولى قبول أيضا. انظر: حاشية ابن عابدين (4/ 506 - 507)، والمادة (101) من مجلة الأحكام العدلية، وتبيين الحقائق (4/ 3).
(2)
انظر في مذهب المالكية: مواهب الجليل (4/ 228)، حاشية الدسوقي (3/ 3)، حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب (2/ 139).
وانظر في مذهب الشافعية: البيان في مذهب الإمام الشافعي (5/ 15)، روضة الطالبين (3/ 338).
وانظر في مذهب الحنابلة: المبدع (4/ 4)، وكشاف القناع (3/ 146)، المغني (4/ 4).