الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دليل القائلين بأن حق المؤلف ليس حقًا ماليًا:
الدليل الأول:
أن حق المؤلف حق معنوي، وليس عينًا، ولا يجوز الاعتياض عن الحقوق المعنوية المجردة.
ويجاب:
بأن دعوى أن الحقوق المجردة لا يجوز الاعتياض عنها بمال ليس محل إجماع، وإن سلم هذا فلا يسلم أن حق المؤلف من الحقوق المجردة كحق الشفعة وحق الخيار، وحق إبداء الرأي وحق الشورى وحق التنقل، وحق التعاقد بالعقود المشروعة، وغيرها من الحقوق المجردة التي لا تقوم بمحل، ولا تتقرر في ذات، وإنما ثبتت لدفع الضرر، بخلاف حق المؤلف الذي ثبت أصالة لصاحبه، وليس فقط لدفع الضرر عنه، وكان استحقاقه قائمًا على بذل جهد فكري، ووقت زمني، وما كان كذلك جاز أخذ العوض عليه.
الدليل الثاني:
أن حق المؤلف حق معنوي، والمالية لا تثبت إلا لما يمكن حيازته وادخاره.
ويجاب:
بأن حصر المال فيما يمكن حيازته وادخاره ليس مسلمًا، بل المال كل ما له قيمة شرعية، وأمكن الانتفاع به انتفاعًا مباحًا، وقد قدمنا في فصل سابق الأدلة على أن المنافع من الأموال، وأن الأموال ليست محصورة في الأعيان فقط.
الدليل الثالث:
أن التأليف كان موجودًا في عصور الإسلام المختلفة، ولم يطالب المصنفون
لهذه الكتب بحقوق مالية، ولو كانت مالًا لوجد من يطالب بها، فدل على أنها ليست مالًا، ولم يعرف هذا الحق في الشرع، وإنما مصدر هذا الحق هو القانون، وهناك فارق كبير بين أن يقر بهذا الحق الشرع، وبين أن يقر به القانون الوضعي، والذي نشأ في بيئة النظام الرأسمالي، والذي لا يدخل في حسابه أن أحدًا يبذل جهده في التأليف لا يبتغي إلا وجه الله والدار الآخرة.
ويجاب عن ذلك:
لا نسلم أن مصدر هذا الحق هو القانون، وأن الشرع لم يتعرض له، فهناك نصوص شرعية كثيرة تدل على أن أخذ الأجر على التأليف سائغ شرعًا، كالإذن بأخذ الأجر على الرقية، وجعل التعليم مهرًا في النكاح، وأخذ الأجر على التحديث، وقد أوردناها في أدلة القائلين بالجواز فانظرها هناك، وعلى التسليم بأن مصدر هذا الحق هو القانون، فإن هذا لا يعني أن هذا الحق لا تقره قواعد الشرع.
وأما كون هذا الحق لم يقم في المجتمع الإسلامي رغم نشاط حركة التأليف في القديم فله أسباب كثيرة جدًا، ذكرها بعض المحققين في هذا الشأن، منها:
السبب الأول:
قد بينا في فصل سابق أن التمول مرده إلى العادة والعرف، فإذا اعتاد الناس تمول شيء صار مالًا، وإذا ترك الناس تمول بعض الأعيان فقدت ماليتها.
قال ابن عابدين: «والمالية تثبت بتمول الناس كافة أو بعضهم»
(1)
.
وقال في المبسوط «وإنما تنبني المالية على التمول»
(2)
.
(1)
حاشية ابن عابدين (4/ 501).
(2)
المبسوط (5/ 40).
ومن أبرز الأمثلة على ذلك دود القز، فقد مر عهد طويل في بعض البلاد، والناس لا يرون لدود القز أي جدوى، إذ لم يكونوا يقبلون عليه بأي محاولة استفادة، إما لجهلهم بما فيه من المزية المعروفة، وإما لجهلهم بسبل الوصول إلى هذه المزية فيه، ومن ثم فلم يكن التعامل به مشروعًا فلما تبدلت الأحوال وتنبه الناس إلى ما فيه من مزية وتمرسوا بسبل استخراج الحرير منه تغير الحكم، فأصبح التعامل به مشروعًا، بل أصبح مصدرًا من مصادر الثروة والتجارة»
(1)
.
وإذا ثبت أن التمول مرده إلى العادة والعرف، فلقد أصبح العرف في هذا الزمن في بلاد الناس كافة تعتبر حق المؤلف حقًا ماليًا، لا يجوز الاعتداء عليه.
السبب الثاني:
أن الكتاب مهما عظمت فائدته المعنوية، ومهما كان محل رغبة عالية من جماهير الناس، فإن القيمة المالية التي يمكن أن تقدر تلك الفائدة بها تذوب وتختفي إزاء قيمة الجهد الكبير الذي كان الناس يبذلونه في سبيل رصد هذه الفائدة وتسجيلها، بحيث تبدو قيمة النسخ مساوية أو أغلى من قيمة المضمون العلمي أو الفكري للكتاب ......
ولهذه المسائل نظائر معروفة في حياتنا اليوم، وهو أننا كثيرًا ما نتأكد من وجود معادن ثمينة داخل بقعة من الأرض التي في حوزتنا، غير أن السعي إلى استخراج هذه المعادن وتصفيتها يتطلب من الجهد والتكاليف ما قد يربو ثمنه على قيمة تلك المعادن ووجوه الاستفادة منها .. ولا ريب أن قيمة تلك المعادن تضمحل وتذوب إزاء الجهود والصعوبات التي تقف في طريق استخراجها،
(1)
مجلة مجمع الفقه الإسلامي - العدد الخامس - الجزء الثالث (ص: 2402).