الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الثاني
في رجوع الموجب
[م - 68] ناقشنا في المسألة السابقة الأثر المترتب على نظرية تحديد مجلس العقد، في تأخر القبول عن الإيجاب ما دام المتعاقدان في المجلس، ولم يعرضا عن العقد، وفي هذه المسألة نناقش أثرًا آخر، وهو رجوع الموجب عن إيجابه في مجلس العقد قبل صدور القبول، فالسؤال:
هل يكون الإيجاب ملزمًا قبل صدور القبول، أو يحق لمن صدر منه الإيجاب الرجوع عن إيجابه ما دام لم يقترن بالقبول؟
وقبل الإجابة على هذا السؤال، ينبغي أن نعلم أن المفاوضات لا تعتبر إيجابًا، وذلك أن الإيجاب في بعض العقود يمر بمراحل من المساومات والمفاوضات، لأن طبيعة المعاملة تحتاج إلى أناة وإمعان نظر، فما يعرض في المفاوضات لا يعتبر إيجابًا.
كما أن عرض شخص التعاقد دون بيان لشروطه كأن يعرض منزلًا للبيع دون بيان لثمنه، أو بضاعة دون بيان ثمنها، فإنه في هذه الحالة لا يتعلق الأمر بإيجاب بات، وإنما بمجرد دعوة إلى التفاوض، فإذا انتهى الأمر إلى اتفاق بين الطرفين حول شروط العقد وقيمة المبيع تحول إلى إيجاب كامل قائم، فإذا ارتبط بقبول مطابق متصل تم العقد.
فإذا قطع أحد الطرفين المفاوضات قبل وصول الأمر إلى إيجاب بات فلا مسؤولية عليه، وليس لأحد أن يطالبه بأن يبين سبب هذا العدول، فقد يكون السبب أنه لم ير داعيًا لإتمام الصفقة، أو أنه رأى أن إتمامها ليس في مصلحته، أو أن الشخص الذي يتعامل معه لا يناسبه لسبب من الأسباب، أو أن شخصًا
آخر عرض عليه صفقة أفضل، فإذا عدل أحد الطرفين عن مفاوضاته فلا مسؤولية على من عدل، ما دام لم يصل في مفاوضته إلى حد الإيجاب الجازم
(1)
، فإذا انتهت مرحلة المفاوضات، وعرض صاحب السلعة إيجابًا جازمًا، فهل له أن يرجع عن إيجابه قبل صدور القبول من الطرف الآخر؟
[م - 69] اختلف الفقهاء في هذه المسألة:
فقيل: للموجب حق الرجوع عن إيجابه قبل أن يتصل به القبول، وهذا مذهب الجمهور
(2)
.
(1)
انظر نظرية العقد - السنهوري (1/ 239).
(2)
جاء في مجلة الأحكام العدلية (مادة: 184): «لو رجع أحد المتبايعين عن البيع بعد الإيجاب، وقبل القبول بطل الإيجاب، فلو قبل الآخر بعد ذلك في المجلس لا ينعقد البيع مثلًا، لو قال البائع: بعت هذا المتاع بكذا، وقبل أن يقول المشتري: قبلت: رجع البائع، ثم قبل المشتري بعد ذلك لا ينعقد البيع» . اهـ
ويقول في بدائع الصنائع (5/ 134): «صفة الإيجاب والقبول فهو أن أحدهما لا يكون لازمًا قبل وجود الآخر
…
» وانظر العناية شرح الهداية (6/ 253)، الفتاوى الهندية (3/ 8).
وقال النووي في المجموع (9/ 199): «إذا وجد أحد شقي العقد من أحدهما اشترط إصراره عليه حتى يوجد الشق الآخر» .
وإذا كان الحنابلة يقولون بخيار المجلس كما سيأتي إن شاء الله تحرير الخلاف فيه، وهو يقتضى جواز رجوع الموجب عن إيجابه حتى بعد صدور القبول من الطرف الآخر، فمن باب أولى أن يصح رجوعه قبل اتصال القبول به.
وقد مشى القانون الأردني على قول الجمهور، فقد نصت المادة 96/ مدني بقولها:«المتعاقدان بالخيار بعد الإيجاب إلى آخر المجلس، فلو رجع الموجب بعد الإيجاب، وقبل القبول أو صدر من أحد المتعاقدين قول أو فعل يدل على الإعراض يبطل الإيجاب، ولا عبرة بالقبول الواقع بعد ذلك» . وانظر مصادر الالتزام في القانون المدني الأردني. د أنور سلطان (ص:56).
وفي نظرية العقد للسنهوري ذكر في حاشية (1/ 244): «وفي القانون الإنجلينزي: يجوز للموجب أن يعدل عن إيجابه قبل اقتران القبول به، حتى لو كان قد حدد مدة للقبول، =
بل اعتبر بعضهم لو صدر القبول مع الرجوع في وقت واحد، اعتبر الرجوع، وبطل به الإيجاب.
قال ابن الهمام: «لو صادف رد البائع قبول المشتري بطل»
(1)
.
وقيل: ليس له حق الرجوع إذا صدر بصيغة الماضي، أو صدر بغير الماضي
= وضرب بولوك لذلك مثلًا: رجل عرض على آخر في الصباح أن يبيعه سلعة، وانتظره إلى الساعة الرابعة بعد الظهر ليبت في الشراء، ففي هذه الحالة يجوز للموجب أن يعدل عن إيجابه، ويبيع السلعة لآخر حتى قبل حلول الموعد المضروب، ما دام الطرف الآخر لم يقبل الصفقة».
وفي القانون الأردني أيضًا نصت المادة (98) من القانون المدني على أنه: «إذا عين ميعاد للقبول التزم الموجب بالبقاء على إيجابه إلى أن ينقضي هذا الميعاد» .
ويبين من هذا النص أن الموجب إذا حدد ميعادًا للقبول أو ظهر من الظروف أنه يقصد إعطاء ميعاد معقول لذلك، بقي ملتزمًا هذه المدة بعدم العدول عن إيجابه، وأن الإيجاب غير الملزم هو الذي خلا من تحديد هذه المدة، وكان التعاقد بين حاضرين، وانظر نظرية العقد للسنهوري (1/ 244).
ويظهر أن هذا القول وسط بين قولين: الأول: يرى أن الموجب له حق الرجوع مطلقًا. والثاني: يرى أن الموجب لا يحق له الرجوع، والقول الثالث: قول وسط: وهو إذا حدد ميعادًا للقبول فإنه يبقى ملتزمًا هذه المدة بعدم العدول عن إيجابه، ويرى أصحاب هذا القول بأن القول بأن الإيجاب غير ملزم مطلقًا يؤدي إلى حرمان المعاملات وعلى الأخص التجارية منها من عامل الاستقرار التي لا غنى عنه؛ لأن التاجر الذي يوجه إليه إيجاب يوازن عادة بينه وبين إيجاب مماثل يوجه إليه من الغير، فقد يفوته أحدهما على أهميته بناء على وجود إيجاب آخر أفضل منه، فإذا لم نلزم الموجب بالبقاء على إيجابه مدة ما أصبنا الموجب له بضرر فادح، وأشعنا الفوضى في المعاملات. لكن عند التأمل أرى أن هذا القول الوسط ليس قولًا، وإنما هو عمل بالشرط بين المتبايعين، فكل من ألزم نفسه شرطًا لا يخالف الشرع، ولا ينافي مقتضى العقد، وله فيه مصلحة، فيجب الوفاء به.
(1)
شرح فتح القدير (6/ 254).