الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الأول
في تراخي القبول عن الإيجاب
[م - 67] بينا أن الغرض من تحديد مجلس العقد: تحديد أجل للقبول يكون للقابل فيه حق التروي، فيقبل في خلاله، وهو ما يسمى بتراخي القبول عن الإيجاب، فهل يشترط أن يكون القبول متصلًا بالإيجاب، أو يجوز أن يتراخى عنه؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة:
فذهب الجمهور من الحنفية
(1)
، والمالكية
(2)
، والحنابلة
(3)
، إلى عدم اشتراط الفورية في القبول، فلو تراخى القبول عن الإيجاب صح العقد ما داما في مجلس العقد، ولم يظهر منهما ما يدل على الإعراض عن العقد.
وقيل: للبائع إلزام المشتري في بيع المزايدة خاصة، ولو انفض المجلس، وهذا مذهب المالكية
(4)
.
وقيل: لا يشترط اتصال القبول بالإيجاب، وينعقد العقد مهما تأخر القبول عنه، ولا يقطعه طول المدة أن يكون قبولًا له، اختاره أبو بكر بن العربي من المالكية
(5)
.
(1)
. بدائع الصنائع (5/ 137)، الجوهرة النيرة (1/ 326)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (1/ 153).
(2)
. مواهب الجليل (4/ 239)، حاشية الدسوقي (3/ 5)،
(3)
. جاء في الإنصاف (4/ 263): «وإن تراخى القبول عن الإيجاب صح ما داما في المجلس، ولم يتشاغلا بما يقطعه» . وانظر كشاف القناع (3/ 147).
(4)
. قال الدسوقي في حاشيته (3/ 5): «وللبائع إلزام المشتري في المزايدة، ولو طال الزمان، أو انفض المجلس، حيث لم يجر العرف بعدم إلزامه» ..
(5)
. قال ابن العربي في القبس (2/ 777): «اختلف العلماء إذا لم يتصل القبول بالإيجاب وتأخر عنه، فمنهم من قال: يبطل لأن اتصالهما عبادة، وهو الشافعي.
ومنهم من قال: لا يبطل بالتأخير اليسير، واختلفوا في التأخير الكثير، وحد الكثرة فيه، والذي يقتضيه الدليل جواز تأخير الإيجاب عن القبول ما تأخر عنه، لا يقطعه طول المدة عن أن يكون قبولًا له، كما لا يمتنع أن يكون جواب الكلام بعد المدة الطويلة جوابًا له، لكنه يعترض هاهنا أمران: أحدهما في النكاح. والثاني: في البيع. فأما الذي يعترض بالنكاح بتأخير القبول عن الإيجاب، فهو إيقاف الفرج على الحل والحرمة، والفروج لا تحمل ذلك، ولذلك لم يدخله شرط الخيار، فلا ينبغي أن يتأخر القبول عن الإيجاب فيه لحظة، والعجب من علمائنا أن قالوا: يجوز أن يتأخر القبول عن الإيجاب ثلاثة أيام، وهو ما بين مصر والقلزم، ولا يجوز اشتراط الخيار ساعة من نهار. وأما البيع فلا نبالي فيه عن طول المدى إلا ما يتطرق في أثناء ذلك إلى السلعة من فساد يلحق عينها، أو حط يدرك ثمنها، وللناس غرض في قدر أموالهم، كما لهم غرض في أعيانها». اهـ
والذي يشكل على هذا ما قاله ابن رشد في بداية المجتهد، فإنه حكى الاتفاق على أن البيع لا يلزم إذا ترك المجلس، قال في البداية (3/ 226):«ولا خلاف فيما أحسب أن الإيجاب والقبول المؤثرين في اللزوم لا يتراخى أحدهما عن الثاني حتى يفترق المجلس أعني: أنه متى قال البائع قد بعت سلعتي بكذا وكذا فسكت المشتري، ولم يقبل البيع حتى افترقا، ثم أتى بعد ذلك فقال: قد قبلت أنه لا يلزم ذلك البائع» . اهـ
وذهب الشافعية إلى اشتراط اتصال القبول بالإيجاب، فلو فصل بينهما بكلمة أجنبية، أو بسكوت طويل لا يتم العقد
(1)
.
(1)
. قال النووي في المجموع (9/ 199): «قال أصحابنا: يشترط لصحة البيع ونحوه أن لا يطول الفصل بين الإيجاب والقبول، وأن لا يتخللهما أجنبي عن العقد، فإن طال أو تخللهما لم ينعقد سواء تفرقا من المجلس أم لا، قال أصحابنا: ولا يضر الفصل اليسير، ويضر الطويل، وهو ما أشعر بإعراضه عن القبول، ولو تخللت كلمة أجنبية بطل العقد» .
بل بالغ بعض الشافعية، فاشترطوا عدم الفصل حتى بحرف مفهم، قياسًا على الصلاة، بل قال بعضهم: ولو كان غير مفهم، وجعل بعضهم السكوت اليسير ضارًا إذا قصد به الإعراض قياسًا على الفاتحة. انظر نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي (3/ 381) وما بعدها.
وجاء في أسنى المطالب (2/ 4 - 5): «يشترط في صحة العقد أن يقع القبول بعد الإيجاب على الفور، فلا يصح على التراخي، لكن لا يضر الفصل اليسير لعدم إشعاره بالإعراض عن القبول، ولا يصح العقد إن تخلل بينهما كلام أجنبي عن العقد، ولو يسير، وإن لم يتفرقا عن المجلس؛ لأن فيه إعراضا عن القبول» .
والذي يخفف الخلاف بين الشافعية والجمهور أن الشافعية عوضوا هذه الفورية بإعطاء حق الخيار للمتعاقدين بعد اتصال القبول بالإيجاب ما دام مجلس العقد باقيًا.