الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول الثاني:
سماع كل من المتعاقدين كلام الآخر شرط لانعقاد البيع، وهذا يعني أن البيع لا ينعقد حتى يسمع الموجب قبول المشتري، وهو قول في مذهب الحنفية
(1)
.
= وانظر شرح فتح القدير (6/ 255)، تحفة الفقهاء (2/ 32).
وأما مذهب الشافعية: فقد جاء في المجموع (9/ 197): «لو قال: بعت داري لفلان، وهو غائب، فلما بلغه الخبر، قال: قبلت. انعقد البيع، لأن النطق أقوى من الكتب» .
وفي مذهب الحنابلة، جاء في كشاف القناع:«(وإن كان) المشتري (غائبا عن المجلس فكاتبه) البائع (أو راسله: إني بعتك) داري بكذا (أو) إني (بعت فلانًا) ونسبه بما يميزه (داري بكذا فلما بلغه) أي: المشتري (الخبر) قبل البيع (صح) العقد; لأن التراخي مع غيبة المشتري لا يدل على إعراضه عن الإيجاب بخلاف ما لو كان حاضرًا» ففرق المصنف في تراخي القبول عن الإيجاب بين ما إذا كان المشتري حاضرًا وما إذا كان غائبًا.
(1)
سيأتي النقول من كتب الحنفية لهذا الشرط في معرض ذكر الأدلة إن شاء الله تعالى، والحقيقة أن هذا القول لم أجده لدى كتب الفقهاء المتقدمين صريحًا، وإنما أخذته استنباطًا من اشتراط السماع في بيع المتعاقدين الحاضرين كما ستراه عند النقول.
وقد اختلف أهل الفقه في هذا العصر، هل الفقهاء المتقدمون عندما تركوا النص على اشتراط العلم بالقبول، تركوه اقتصارًا على ذكره في البيع بين المتعاقدين الحاضرين، فتجنبوا ذكره في البيع بين الغائبين اختصارًا، أو أنهم يرون أن سماع القبول ليس بشرط، على قولين:
الأول: يرى أن اهتمام الفقهاء المتقدمين كان متوجهًا إلى بيان جواز هذا النوع من التعاقد، وأن حضور المتعاقدين ليس بشرط في انعقاد البيع، ولم يكن اهتمامهم متوجهًا إلى بيان دراسة المسائل الدقيقة المترتبة على القول بجواز مثل هذه المعاملة.
وممن رأى هذا الرأي الدكتور السنهوري رحمه الله، حيث يقول في كتابه مصادر الحق (2/ 54 - 56): «أما في الفقه الإسلامي فلم نعثر على نص صريح في هذه المسألة يبين =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= متى يتم العقد بين الغائبين، هل يتم بمجرد إعلان القبول، أو لا يتم إلا بعلم الموجب بالقبول».
ثم يذكر نصوصًا من الكتب الفقهية تشترط وجوب سماع الموجب للقبول بالنسبة للتعاقد بين الحاضرين، وينقل نصوصًا أخرى تتعلق بالتعاقد بين الغائبين، وظاهرها انعقاد العقد بصدور القبول، وليس فيها النص على اشتراط سماع الموجب قبول المشتري، ثم يعرض نتيجة دراسته، فيقول: «يتم العقد بين الغائبين إذن في الفقه الإسلامي بإعلان القبول، ولا يشترط علم الموجب بالقبول، وإذا كان التعاقد بين الحاضرين يشترط فيه سماع الموجب للقبول، كما تصرح النصوص بذلك، فكل ما يشترط في التعاقد بين الغائبين أن يكون الموجب قد أراد تبليغ إيجابه للمتعاقد الآخر كما قدمنا، حتى يعلم بذلك أن إيجابه بات، ولا يشترط أن يسمع هو - أي الموجب - قبول المتعاقد الآخر، أو أن يبلغه هذا القبول.
هذا ما نستخلصه من ظاهر النصوص. ولكنا مع ذلك نرى أن الفقهاء لم يواجهوا في وجوب سماع الموجب للقبول حالة التعاقد بين الغائبين مواجهة صريحة، وهم لم يواجهوا في ذلك إلا حالة التعاقد بين الحاضرين، ولو أنهم واجهوا الحالة الأولى كما واجهوا الحالة الثانية، لما كان بعيدًا أن تختلف الآراء فيها، بل نحن نذهب إلى أبعد من ذلك، ونقول: إن منطق القول بوجوب علم الموجب بالقبول في التعاقد بين حاضرين، والسماع في حالة حضور الموجب يقابله العلم في حالة غيابه».
ويقول الدكتور إبراهيم كافي دونمز: «ولهذا نشارك رأي الدكتور السنهوري من هذه الناحية، وحتى يمكن القول بأن العبارات في كتب الفقه التي تخص التعاقد بين الغائبين تنصب على بيان جواز هذا النوع من التعاقد أكثر من أن تكون منصبة على دراسة المسائل الدقيقة له، ويمكن كذلك القول بأن بعض هذه العبارات تهدف أول ما تهدف إلى بيان ضرورة التفرقة بين بعض التصرفات مثل البيع والنكاح والخلع بالعوض في هذا النوع من التعاقد.
وعلى أية حال، فإن هذه القضية لم يرد فيها نص خاص كما لم ينقل رأي صريح فيها عن أئمة المذاهب، ويصبح عندئذ من المعقول أن نقول بأن الفقهاء لم يواجهوا مسائل التعاقد بين الغائبين على شكلها المعروف في الوقت الحاضر .. ».
ويقول الدكتور السيد نشأت إبراهيم الدريني في كتابه التراضي في عقود المبادلات المالية (ص: 319): «أما في البيع ونحوه ..... فإنه يمكن القول بأنهم اكتفوا بسماع حامل =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الكتاب ومبلغ الرسالة؛ لأن التعاقد بين غائبين في عصرهم لم يكن بخطاب - مثلًا - عن طريق مصلحة البريد كما في عصرنا، وإنما كان برسول يحمل الكتاب أويبلغ الرسالة شفويًا، فإذا صدر القبول في مجلس بلوغ الكتاب وأداء الرسالة فإن الغالب أن الرسول يسمع هذا القبول.
ولعل السر في أنهم لم يصرحوا باشتراط سماع القبول في البيع بين غائبين أنهم أطلقوا شرط سماع كل من العاقدين عند عدهم له من شروط الانعقاد، فأصبح هذا من المسلم به، والموجب وإن لم يسمع القبول فإنه يمكن تحقق شرط السماع بسماع حامل الكتاب، ومبلغ الرسالة؛ لأنهم توسعوا في شرط السماع كما رأينا.
أما النصوص التي يدل ظاهرها على تمام البيع بمجرد قبول الغائب، فيمكن القول بأنهم لا يريدون بها هذا الظاهر، وإنما يريدون صحة القبول فيما وراء المجلس استثناء من شرط اتحاد المجلس، كما في نص الكاساني، أو صحة البيع بين غائبين بالكتابة، ولو من الجانبين بخلاف النكاح، كما في نص ابن عابدين، وهذا كما يقولون في صحة الانعقاد باللفظ بين حاضرين، لو قال: بعتك هذا بكذا، فقال: اشتريت، تم العقد اكتفاء بما ذكر من أن شرط الانعقاد سماع كل من العاقدين كلام صاحبه.
ومما يؤيد أن قولهم بتمام البيع لا يدل دائمًا على استيفاء شروط الانعقاد، أن فعل الأمر لا يصلح أن يكون إيجابًا عند الحنفية، ولكن ورد عن محمد أنه لو كتب بعني بكذا، فقال: بعته، تم البيع، فقالوا: إنه ليس مراد محمد من هذا سوى الفرق بين النكاح والبيع في شرط الشهود، لا بيان اللفظ الذي ينعقد به البيع». اهـ
يقصد أن الحنفية يشترطون في القبول بالنكاح عن طريق الكتابة أمرين: الأول: أن يكون هناك شهود يشهدون على سماع القبول، الثاني: أن يكون القبول باللفظ، بخلاف البيع فإنه ينعقد بالكتابة من الجانبين، ولو لم يكن هناك شهود يشهدون على سماع القبول من الطرف الثاني، ففرقوا في كتابة الإيجاب بين عقد النكاح وعقد البيع.
القول الثاني: يرى أن الفقهاء لما تركوا النص على اشتراط السماع في البيع بين المتعاقدين الغائبين كان هذا منهم نصًا على أنهم لا يرون أن السماع شرط لإتمام العقد، وأنهم بهذا أرادوا التفريق بين بيع يقع بين متعاقدين حاضرين، وبيع يقع بين متعاقدين غائبين، فالأول سماع القبول شرط لإتمام العقد، والثاني ليس بشرط، وممن ذهب إلى هذا الدكتور =