الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
في حق المجري
كل ما تعورف تداوله من أعيان ومنافع وحقوق يعتبر محلًا صالحًا للتعاقد عليه ككل مال متقوم
(1)
.
وهو أصح من قول الحنفية: الحقوق لا تحتمل الإفراد بالبيع
(2)
.
[م - 16] اختلف الفقهاء في المجرى، هل يجب بذله بلا عوض، أو يجوز أخذ المعاوضة عليه.
فذهب الحنفية
(3)
، والشافعي في أحد قوليه
(4)
، ورواية عن أحمد إلى أنه لا يجوز المعاوضة على المجرى بانفراده
(5)
.
إلا أن الحنيفة يمنعون المعاوضة عليها؛ لأن الحقوق لا يجوز إفرادها بالبيع، ولأن المنافع وحدها ليست مالًا؛ لأن المال عندهم ما يمكن تموله وادخاره،
يقول الكاساني: «الحقوق لا تحتمل الإفراد بالبيع والشراء»
(6)
.
(1)
المدخل (2/ 714 - 715) ف 388.
(2)
بدائع الصنائع (6/ 189).
(3)
حاشية ابن عابدين (8/ 65)، لسان الحاكم (ص: 409)، البحر الرائق (7/ 30).
(4)
الأم (7/ 230 - 231)، المهذب (1/ 342)، مغني المحتاج (2/ 187)، روضة الطالبين (4/ 212)، حلية العلماء (5/ 15 - 16).
(5)
يقول ابن تيمية كما في الاختيارات (ص: 200): «
…
ويجب على الجار تمكين جاره من إجراء ماء على أرضه إذا احتاج إلى ذلك، ولم يكن على صاحب الأرض ضرر في أصح القولين في مذهب أحمد، وحكم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه». وانظر مجموع الفتاوى (30/ 16، 17)، الجامع للاختيارات الفقهية (3/ 1170) موسوعة فقه ابن تيمية (1/ 555) في مادة: جوار.
(6)
بدائع الصنائع (6/ 189).
بينما الشافعي والرواية الثانية عن أحمد، والتي رجحها ابن تيمية يرون أن المانع من المعاوضة عليها؛ ليس لأنها ليست مالًا، وإنما لأن المرافق يجب بذلها مجانًا إذا لم يكن على صاحبها ضرر في بذلها، وهو أقوى من تعليل الحنفية؛ لأن المنافع على الصحيح تعتبر مالًا يقع عليها البيع كما تقدم في بحث مالية المنافع.
(ث - 1) واستدلوا بما رواه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى المازني،
عن أبيه، أن الضحاك بن خليفة ساق خليجًا له من العريض، فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة، فأبى محمد، فقال له الضحاك: لم تمنعني، وهو لك منفعة، تشرب به أولا وآخرًا، ولا يضرك؟ فأبى محمد، فكلم فيه الضحاك عمر ابن الخطاب، فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة، فأمره أن يخلي سبيله، فقال محمد: لا. فقال عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه، وهو لك نافع، تسقي به أولًا وآخرًا، وهو لا يضرك؟ فقال محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر أن يمر به، ففعل الضحاك
(1)
.
وأجيب عنه:
الأول: أنه مرسل، يحيى المازني لم يدرك عمر، والمرسل من قبيل الضعيف، وقد صحح إسناده الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح
(2)
.
الثاني: على فرض أنه صحيح، فإنه حكم لعمر موقوف عليه، خالفه فيه صحابي جليل، وهو محمد بن مسلمة، وهو من كبار الصحابة، وممن شهد بدرًا، ولو كان يعلم أن ذلك قضاء الله، وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم لم يمتنع عن ذلك،
(1)
الموطأ (2/ 746).
(2)
فتح الباري (5/ 111).
ولكن ربما رآه أنه على الندب، وإذا وجد الخلاف بين الصحابة في ذلك وجب النظر في ترجيح أحد القولين، كيف والعمومات الشرعية قطعية الدلالة كلها تدل على حرمة مال المسلم إلا بطيب نفس منه.
الثالث: أن الحديث على الندب، وليس على الوجوب، كما قال تعالى في مكاتبة العبد:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] والأمر بمكاتبة العبد على الندب.
قال ابن عبد البر: «لم يختلف علماء السلف أن ذلك على الندب، لا على الإيجاب - يعني: مكاتبة العبد - فكذلك هنا»
(1)
.
وقال مالك: «لم أسمع أن أحدًا من الأئمة أكره رجلا على أن يكاتب عبدًا»
(2)
.
وقال الباجي تعليقًا على قول مالك: «يريد أنه لم يكن ذلك في السلف، وما روي عن عمر أنه أمر أنسا أن يعتق عبده سيرين، فأبى فضربه عمر بالدرة، وقال: كاتبه فقال أنس: لا أكاتبه فتلا عمر {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] فكاتبه أنس، فليس فيه دليل على اللزوم، والجبر، ولو كان لعمر أن يجبر على ذلك أنسا لحكم بذلك عليه، واستغنى عن أن يضربه بالدرة، ويتلو عليه القرآن بالأمر بذلك، وإنما ضربه بالدَّرة لما ندبه إلى الخير، وإلى ما رآه صلاحًا له في دينه ودنياه، فامتنع من ذلك، فأدبه لامتناعه، وتلا عليه القرآن بالأمر بذلك والندب إليه، وقد أمر محمد بن مسلمة أن يبيح لجاره
(1)
التمهيد (10/ 223).
(2)
موطأ مالك (2/ 788).
إمرار النهر على أرضه، وقال: والله ليمرن به ولو على بطنك على وجه التحكم عليه فيما هو صلاح له في دينه ودنياه، وعلم أن محمد بن مسلمة لا يراجعه إذا عزم عليه في ذلك»
(1)
.
القول الثاني:
ذهب الجمهور من المالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة في المشهور
(4)
، إلى جواز أخذ العوض عليها منفردة.
واشترط الشافعية فيما إذا كان العقد بيعًا معرفة أمرين:
أحدهما: معرفة موضع المجرى.
والثاني: معرفة الطول والعرض، والعمق.
ووافقهم الحنابلة إن كان ذلك بعوض مع بقاء ملك البائع؛ لأن العقد إجارة لبقاء ملك الرقبة لصاحب الأرض، أما لو كان البيع على موضع المجرى فلا يشترط معرفة العمق حينئذ؛ لأن من ملك الموضع كان له إلى تخوم الأرض، فلا حاجة لاشتراط معرفة ذلك.
واستدلوا على جواز المعاوضة عليه بأدلة منها:
(1)
المنتقى (7/ 5).
(2)
التمهيد (10/ 225)، والاستذكار (22/ 227)، المنتقى للباجي (6/ 47)، بداية المجتهد (2/ 236).
(3)
مغني المحتاج (2/ 191)، روضة الطالبين (4/ 222) المهذب (1/ 342)، حلية العلماء (5/ 15 - 16).
(4)
المبدع (4/ 291)، الروض المربع (2/ 206)، الإنصاف (5/ 248)، كشاف القناع (3/ 401)، مطالب أولي النهى (3/ 348).