الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة
في اختلاف لفظ الصيغة عن معناها
[م - 59] الأصل في ألفاظ العقود أن تكون مطابقة للمعنى المراد من العاقدين؛ لأن اللفظ هو المعبر عن المعنى القائم في نفس المتعاقدين، والأصل حمل كلام المتعاقدين على ظاهره، واللغة ما جعلت إلا لتعبر عما في النفس، ولو حملنا الكلام على غير ظاهره بدون صارف بطلت فائدة اللغة وفائدة التخاطب، وهذا مما لا خلاف فيه، ولكن الخلاف فيما لو تيقنا أن العاقد أراد معنى مخالفًا للفظ الصادر منه، فهل يغلب اللفظ، أو يغلب المعنى باعتباره هو المقصود، واللفظ مجرد دليل عليه؟
أضرب مثالًا ليتضح المقصود، لو أعار رجل شيئًا، وشرط عوضًا، فهل يعتبر العقد عارية، أو يعتبر إجارة لاشتراط العوض فيه؟
ولو قال: بعتك هذا الثوب بلا ثمن، فهل ينعقد هبة أو بيعًا؟
فإن نظرنا إلى اللفظ فإن الإيجاب صادر بلفظ البيع، وإذا نظرنا إلى المعنى، وكون التمليك بدون عوض فهو يدل على أن العقد من عقود التبرعات.
ولو قال العاقد: وهبتك هذه الدابة بألف، فهل ذكر العوض يجعل العقد من عقود المعاوضات فيكون بيعًا، أو نعتبر اللفظ، ونفسد العقد؛ لأن عقود التبرعات لا عوض فيها، وهكذا إذا جاء اللفظ في العقود مخالفًا للمعنى الذي أراده العاقدان، فهل المعتبر اللفظ أو المراد المعنى؟
في هذا خلاف بين أهل العلم:
فقيل: المعتبر هو المعنى الذي قصده العاقدان، واللفظ تابع للمعنى، فإذا
تعذر حمل اللفظ على مقتضاه حمل على المعنى الذي أراده العاقدان، وهذا مذهب الحنفية
(1)
،
والمالكية
(2)
، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية
(3)
، والمشهور من مذهب الحنابلة
(4)
.
ولا بد عند من قال بهذا القول في اعتبار المعنى وتقديمه على اللفظ أن يقع اتفاق العاقدين على المعنى المخالف للفظ، أو تدل عليه قرينة لفظية أو عرفية،
(1)
قال في فتح القدير (6/ 251): «والمعنى هو المعتبر في هذه العقود؛ ألا يرى إلى ما قالوا: لو قال: وهبتك أو وهبت لك هذه الدار أو هذا العبد بثوبك هذا، فرضي به، فهو بيع بالإجماع» . يقصد بذلك إجماع علماء الحنفية، والله أعلم.
وقال ابن نجيم في الأشباه والنظائر (ص: 207): «الاعتبار للمعنى، لا للألفاظ، وصرحوا به في مواضع منها
…
» ثم ذكر جملة من فروع هذه المسألة في باب الكفالة، والبيع، والهبة، والعتق، والنكاح .. الخ. وانظر غمز عيون البصائر (2/ 266)، وانظر مجلة الأحكام العدلية، المادة (3) حيث قال: العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني.
(2)
جاء في تبصرة الحكام (2/ 129): «إذا وهب هبة تقتضي أنه يريد بها الثواب فإن القرائن الدالة على أنه قصد الثواب تقوم مقام الشرط مثل أن يهب الفقير لغني بخلاف العكس فإن هبة الغني تدل على أنه لم يرد الثواب» .
وقال في حاشية العدوي (2/ 261): «ومن وهب هبة مطلقًا، وادعى أنه وهبها للثواب، نظر في ذلك، وحمل على العرف، وإن كان مثله يطلب الثواب على الهبة صدق مع يمينه» . وانظر التفريع لابن الجلاب (2/ 314)، وحاشية الدسوقي (3/ 3)، والفروق للقرافي (1/ 39).
(3)
. المجموع (9/ 202)، حاشيتا قليوبي وعميرة (2/ 306)، وانظر الأشباه والنظائر للسيوطي، فقد ذكر هذه القاعدة، وفرع عليها فروعًا كثيرة (ص: 166)، نهاية المحتاج (3/ 384 - 385)، حاشية الجمل (3/ 165)
…
.
(4)
. انظر مطالب أولي النهى (3/ 5): حيث اعتبر لفظ: «وهبتك هذا بكذا» من الألفاظ التي ينعقد فيها البيع.
وقال في كشاف القناع (4/ 300): «وإن شرط الواهب في الهبة عوضًا معلومًا، صارت الهبة بيعًا، فيثبت فيها خيار مجلس ونحوه» .
وقال ابن رجب في القاعدة (38): «فيما إذا وصل بألفاظ العقود ما يخرجها عن موضوعها، فهل يفسد العقد بذلك، أو يجعل كناية عما يمكن صحته على ذلك الوجه؟
فيه خلاف، يلتفت إلى أن المغلب هل هو اللفظ أو المعنى، ويتخرج على ذلك مسائل» ثم ذكرها
…
وانظر الموسوعة الكويتية (28/ 154).
أو حالية
(1)
.
وقيل: المعتبر اللفظ دون النظر إلى المعنى. وهو القول الراجح في مذهب الشافعية
(2)
.
(1)
فإذا اتفق العاقدان بأن مرادهما من العقد الهبة أو البيع أو الإجارة فهذا شأنهما، والمطلوب اتفاقهما، وقد حصل؛ لأن في اتفاقهما توفرًا لشرط صحة البيع وجوازه: وهو حصول الرضا من المتعاقدين، كما قال تعالى:{إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء: 29].
والقرينة اللفظية: كما لو قال: وهبتك هذا الثوب بعشرة دراهم، فكونه ذكر العوض في الإيجاب دليل على أنه قصد البيع، ولم يقصد الهبة.
وأما القرينة العرفية فإنه من المعلوم أن البيع والهبة والإجارة لم يحد الشارع لها حدًا لا في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه عين للعقود صفة معينة من الألفاظ، وإذا لم يكن لها حد في الشرع، ولا في اللغة، كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، فما سموه بيعًا فهو بيع، وما سموه هبة فهو هبة، كما ذكر ذلك ابن تيمية في مواضع من الفتاوى (29/ 15 - 16، 227)(20/ 345).
وأما القرينة الحالية: فإننا نستطيع من خلال معرفة الأحوال المصاحبة للعقد، أو السابقة له، أن نعرف الباعث على هذا العقد، والقصد من هذه المعاملة، ومن خلال معرفة ذلك نتعرف على مقصود المتعاقدين والمعنى المراد، فدلالة الحال أحيانًا تغني عن السؤال، فإذا أهدى رجل فقير إلى حاكم هدية ثمينة، علم من حال المهدي أنه ينتظر الثواب عليها، مما يجعل الغرض من هذه المعاملة المعاوضة، وليس التبرع.
(2)
. قال النووي في المجموع عند الكلام على بيع التلجئة، وهو أن يتواطأ العاقدان على البيع خوفًا من ظالم ونحوه، ولا يريدان البيع حقيقة، قال رحمه الله في المجموع (9/ 314):«والصحيح صحته؛ لأن الاعتبار عندنا بظاهر العقود، لا بما ينويه العاقدان» .