الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن عباس في حديث طويل، وفيه: جاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل، فسأل امرأته عنه .... وفي الحديث، فقال إسماعيل: هل جاءكم من أحد، قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك، فأخبرته، وسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك، فطلقها .... الحديث
(1)
.
وجه الاستدلال منه كالاستدلال من الحديث السابق.
الدليل الثالث:
عقود المعاوضات مبنية على الرضا، فإذا تحقق حصل المقصود، والكناية إذا صاحبتها النية دلت على المراد، حيث تقوم النية بتعيين أحد الاحتمالين أو الاحتمالات الواردة.
دليل ابن حزم على عدم اعتبار ألفاظ الكناية في العقود
.
استدل ابن حزم بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة 31].
وقال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم} [النجم 23].
فأخذ من الآيتين أن الأسماء توقيفية، لاسيما أحكام الشريعة التي لا يجوز فيها الإحداث، ولا تعلم إلا بالنصوص،
وقد قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275].
فصرح باسم البيع، فمتى أخذ مال بغير الاسم الذي أباح الله تعالى به أخذه كان باطلًا بنص القرآن، قال تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
(1)
البخاري (3364).
ولا خلاف بين المسلمين من أن رجلًا لو قال لرجل أقرضني هذا الدينار، وأقضيك دينارًا إلى شهر، أو لم يحد وقتًا فإنه حسن وأجر وبر.
وعندنا إن قضاه دينارين، أو نصف دينار فقط، ورضي كلاهما فحسن.
ولو قال: بعني هذا الدينار بدينار إلى شهر، أولم يسم أجلًا، فإنه ربا وإثم وحرام، وكبيرة من الكبائر، والعمل واحد، وإنما فرق بينهما الاسم فقط
(1)
.
وهذا القول من ابن حزم لاشك أنه من أضعف الأقوال، وهو يتسق مع جمود الظاهرية، لكنه مخالف للنصوص، ولعمل الناس من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، وقياس البيع على القرض قياس مع الفارق، والذي فرق بينهما المعنى، وليس ظاهر الأسماء، فعقد البيع يقصد به المعاوضة والربح، وعقد القرض يقصد به الإرفاق والإحسان، ولذلك اغتفر فيه ما لا يغتفر في البيع، وقوله: إن البيع مثل الربا والذي فرق بينهما هو الاسم فقط مخالف للمنصوص والمعقول، فالله يقول على لسان أهل الجاهلية:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَاا} [البقرة: 275]، فأي فرق بين هذا القول وبين قول ابن حزم عفى الله عنه، فقال الله سبحانه وتعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، ولو كان الربا والبيع في المعنى واحدًا، لكان حكمهما واحدًا أيضًا، فإن الله لا يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين متفرقين إلا لحكمة بالغة، فلما فرق بين البيع وبين الربا علم أن هناك فرقًا بينهما ولابد، ولذلك اعتبر الشرع الربا من الظلم البين، {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279].
إذا خلصنا أن ألفاظ البيع منها ما هو صريح وكناية، فاعلم أن صيغ الصريح والكناية التي وردت في كلام الفقهاء، هي الماضي والمضارع والأمر، والاستفهام، ولفظة (نعم) والجملة الإسمية، وسيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.
* * *
(1)
المحلى (مسألة: 1415).
المبحث الثاني
في انقسام الصيغة إلى قولية وفعلية
يقول الباجي: «كل لفظ أو إشارة فهم منه الإيجاب والقبول لزم به البيع وسائر العقود
…
»
(1)
.
[م - 40] ذهب الجمهور إلى أن الإيجاب والقبول يطلق على الصيغة القولية فقط، مثل: بعني هذا بعشرة، فتقول: قبلت، وأن المعاطاة ونحوها من إشارة أوكتابة لا يطلق عليها إيجابًا ولا قبولًا
(2)
.
وقيل: إن الإيجاب والقبول اسم لكل تعاقد بين طرفين، فإن إثباته يسمى
(1)
المنتقى (4/ 157).
(2)
يقول الكاساني في البدائع (5/ 133): «البيع قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل، أما القول فهو المسمى بالإيجاب والقبول .... » .
ويقول الشيرازي في المهذب المطبوع مع المجموع (9/ 190): «ولا ينعقد البيع إلا بالإيجاب والقبول، فأما المعاطاة فلا ينعقد بها البيع .. » .
ويقول ابن قدامة في المغني (4/ 3 - 4): «والبيع على ضربين: أحدهما: الإيجاب والقبول، فالإيجاب: أن يقول: بعتك .... والقبول: أن يقول: أشتريت ..... الضرب الثاني: المعاطاة .... » . فلم يجعل المعاطاة من قبيل الإيجاب والقبول.
وفي الإنصاف (4/ 264): «وله - يعني البيع - صورتان: أحدهما الإيجاب والقبول، فيقول البائع بعتك، أو ملكتك ونحوهما
…
ويقول المشتري: ابتعت أو قبلت ..... والصورة الثانية: المعاطاة .... » ثم علق المرداوي على هذا بقوله: «كلام المصنف كالصريح في أن بيع المعاطاة لا يسمى إيجابًا وقبولًا، وصرح به القاضي وغيره، فقال: الإيجاب والقبول للصيغة المتفق عليها، قال الشيخ تقي الدين: عبارة أصحابنا وغيرهم تقتضي أن المعاطاة ونحوها ليست من الإيجاب والقبول
…
».
إيجابًا، والتزامه يسمى قبولًا. وهو مذهب المالكية
(1)
، واختيار ابن تيمية
(2)
.
وهو الصواب الموافق للغة، وأما قصر الجمهور الإيجاب والقبول على الصيغة القولية فهو تخصيص عرفي من لدن هؤلاء الفقهاء، وليس تخصيصًا شرعيًا، يقول الكاساني في بدائع الصنائع:«أما القول، فهو المسمى بالإيجاب والقبول في عرف الفقهاء .. »
(3)
.
وجاء في النكت على المحرر:
(4)
.
(1)
يقول الباجي في المنتقى (4/ 157): «وكل لفظ أو إشارة فهم منه الإيجاب والقبول لزم به البيع، وسائر العقود
…
».
(2)
الإنصاف (4/ 264)، النكت على المحرر (1/ 260).
(3)
بدائع الصنائع (5/ 133).
(4)
النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر (1/ 260).
وقد وافقت القوانين رأي المالكية وابن تيمية، ففي القانون الأردني مثلًا أشارت المادة 94/ 1 مدني أردني بقولها:«يعتبر عرض البضائع مع بيان ثمنها إيجابًا» .
ونصت المادة 180/ 2 موجبات لبناني على أنه: «ويعد سكوت مشتري البضائع بعد استلامها قبولًا للشروط المعنية في بيان الحساب (الفاتورة).
«إذا بقي المستأجر في العين المؤجرة بعد انتهاء مدة الإيجار، قد يكون في هذا إيجاب ضمني منه بتجديد العقد، فإذا سكت المؤجر اعتبر سكوته قبولًا لهذا الإيجاب، وتجدد عقد الإيجار «(م/386/ 471/1759 و 1776) من القانون المصري انظر نظرية العقد - السنهوري (1/ 159).
وفي الكتاب نفسه (1/ 154 - 155): «والإيجاب الصريح كما يكون بالكلام والكتابة والإشارة على النحو الذي تقدم، يكون كذلك باتخاذ موقف يفهم منه الإيجاب صراحة، فعرض التاجر لبضائعه على الجمهور مع بيان أثمانها يعتبر إيجابًا صريحًا» .
فهذا النص صريح بأن الكلام والكتابة والإشارة والفعل كله يطلق عليه إيجاب، فهو ليس مختص بالصيغة اللفظية.
ويقول السنهوري في الكتاب نفسه (1/ 156): «وقد يكون القبول صريحًا، كالتاجر الذي يقبل طلبًا من عميل له، فيرسل إليه ما يطلبه، ويكون هذا الإرسال قبولًا صريحًا .. » .
لأن الإيجاب والقبول حقيقته هو كناية عن إرادة المتعاقدين، والتعبير عن هذه الإرادة يأخذ صورًا مختلفة، فقد يكون باللفظ، أو بالكتابة، أو بالإشارة المعبرة عن الإرادة، أو بتبني موقفًا لا تدع ظروف الحال شكًا في دلالته على المقصود، كما هو الشأن في سيارات الأجرة التي تقف في مكان مخصوص تنتظر الركاب.
يقول الباجي: «كل لفظ أو إشارة فهم منه الإيجاب والقبول لزم به البيع وسائر العقود
…
»
(1)
.
فجعل اللفظ والإشارة معبرة عن الإيجاب والقبول الذي هو إرادة المتعاقدين، ولم يجعل اللفظ نفسه هو الإيجاب والقبول حتى يقال باختصاص الإيجاب والقبول بالصيغة القولية.
ويقول الحطاب في مواهب الجليل: «ما يدل على الرضا من البائع، ويسمى الإيجاب، وما يدل على الرضا من المشتري، ويسمى القبول، سواء كان الدال قولًا ..... أو كان فعلًا كالمعاطاة»
(2)
.
وما دام إطلاق الإيجاب والقبول على الصيغة اللفظية اصطلاحًا عرفيًا، وليس تخصيصًا شرعيًا، فالمسألة سهلة المأخذ، فالاصطلاح بين أهل الاختصاص لا مشاحة فيه، وإنما اقتضى الأمر التنبيه عليه.
* * *
(1)
المنتقى (4/ 157).
(2)
مواهب الجليل (4/ 228).