الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
يبطل الإيجاب بانتهاء المجلس قبل القبول
[م - 75] سبق أن ذكرنا في شروط صيغة العقد اتحاد مجلس العقد، وناقشنا ما المقصود في تحديد مجلس العقد بين الحنفية والجمهور، وذكرنا أن الحنفية بالغوا في الشكل المادي لمجلس العقد، حيث جعلوا التتابع وهما يمشيان أو يركبان ولو دابة واحدة يقطع مجلس العقد؛ لاشتراطهم أن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد
(1)
.
بل اعتبر الحنفية لو كان من صدر منه الإيجاب جالسًا، وحين قام الطرف الآخر قال قبلت لم ينعقد البيع، فاعتبروا القيام ولو لم يفارق المجلس ينهي حالة المجلس بين المتعاقدين.
جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: «إذا قال البائع للمشتري: بعتك مالي بكذا، وكانا جالسين، فقام أحدهما بطل الإيجاب، ولو لم يمش; لأن القيام دليل على الرجوع والإعراض»
(2)
.
وقال في درر الحكام شرح غرر الأحكام: «لأن القيام دليل الرجوع والدلالة تعمل عمل الصريح»
(3)
.
(1)
بدائع الصنائع (5/ 137)، الجوهرة النيرة (1/ 184)، البحر الرائق (5/ 294).
(2)
(1/ 155).
(3)
درر الحكام شرح غرر الأحكام (2/ 144).
(1)
.
فهم يوجبون عليه أن يعلن قبوله قبل خروجه من الدار، حتى ولو كان خروجه سوف يجمعه بالطرف الآخر فإنه ينهي عندهم حالة اتحاد المجلس حال صدور الإيجاب والقبول، وهذا لا شك أنه قول فيه ضعف.
بينما الجمهور كانوا أكثر توفيقًا في تحديد مجلس العقد حيث اعتبروا المجلس هو الزمن الذي يظل فيه المتعاقدان مشتغلين بالتعاقد، فإن أعرضا عن العقد واشتغلا عنه بما يقطعه عرفًا فقد انقطع المجلس، ومن الإعراض عن العقد انفضاض المجلس قبل صدور القبول.
فإذا انفض المجلس قبل صدور القبول بطل الإيجاب وقد حكي الإجماع على بطلانه، قال ابن نجيم في البحر الرائق:«لو أوجب أحد المتعاقدين فلم يقبل الآخر في المجلس فإنه يبطل الإيجاب لا نعلم فيه خلافا، لا فرق في هذا بين البيع والنكاح وغيرهما من العقود»
(2)
.
يقول الحطاب: «وإن تراخى القبول عن الإيجاب حتى انقضى المجلس لم يلزمه البيع اتفاقًا»
(3)
.
ونقل الحطاب عن ابن رشد قوله: «لو قال: أبيعك سلعتي بعشرة إن شئت، فلم يقل أخذتها حتى انقضى المجلس لم يكن له شيء اتفاقًا»
(4)
.
(1)
درر الحكام شرح مجلة الأحكام (1/ 155).
(2)
البحر الرائق (3/ 149).
(3)
مواهب الجليل (4/ 240).
(4)
مواهب الجليل (4/ 240).
وسبق لي انتقاد حكاية الإجماع حتى على مذهب المالكية، وناقشت مذهب ابن العربي في ذلك، ومع ذلك يستثنى من هذا الإجماع ثلاث مسائل:
الأولى: لو قيد الإيجاب بمدة إلى ما بعد المجلس، فإن المالكية لا يبطلون الإيجاب بانتهاء المجلس، وإنما يجعلون التقييد ملزمًا إلى انتهاء هذه المدة المحددة، وسبق الكلام على هذا.
الثانية: الإيجاب في بيع المزايدة. فلا يبطل الإيجاب ولو طال الزمن في بيع المزايدة على مذهب المالكية. قال الدسوقي: «وللبائع إلزام المشتري في المزايدة، ولو طال الزمان، أو انفض المجلس، حيث لم يجر العرف بعدم إلزامه»
(1)
.
الثالثة: إذا كان الإيجاب بكتابة إلى غائب، فهل يسقط بانتهاء المجلس؟
ظاهر عبارة الهداية على سقوط الإيجاب بانتهاء المجلس، إذ يقول:
«الكتاب كالخطاب وكذا الإرسال حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب وأداء الرسالة»
(2)
.
وقال ابن الهمام: « .... لما بلغه الكتاب وفهم ما فيه، قال: قبلت في المجلس انعقد»
(3)
.
واختار شيخ الإسلام جواهر زاده أن الإيجاب إذا كان بالكتابة فقرئ في مجلس، فلم يتصل به القبول، جاز إتمام العقد بقراءته مرة أخرى في مجلس آخر يتصل به القبول، وتكون قراءته في المجلس الثاني بمثابة تكرار الإيجاب.
(1)
حاشية الدسوقي (3/ 5).
(2)
الهداية مع فتح القدير (6/ 254).
(3)
شرح فتح القدير (6/ 255).
جاء في حاشية ابن عابدين: «ذكر شيخ الإسلام جواهر زاده في مبسوطه: الكتاب والخطاب سواء إلا في فصل واحد، وهو أنه لو كان حاضرًا، فخاطبها بالنكاح، فلم تجب في مجلس الخطاب، ثم أجابت في مجلس آخر، فإن النكاح لا يصح، وفي الكتاب إذا بلغها، وقرأت الكتاب، ولم تزوج نفسها منه في المجلس الذي قرأت الكتاب فيه، ثم زوجت نفسها في مجلس آخر بين يدي الشهود، وقد سمعوا كلامها، وما في الكتاب يصح النكاح؛ لأن الغائب إنما صار خاطبًا لها بالكتاب، والكتاب باق في المجلس الثاني بمنزلة ما لو تكرر الخطاب من الحاضر في مجلس آخر، فأما إذا كان حاضرًا، فإنما صار خاطبًا لها بالكلام، وما وجد من الكلام لا يبقى إلى المجلس الثاني
…
قال ابن عابدين: وظاهر أن البيع كذلك، وهو خلاف ظاهر الهداية، فتأمل»
(1)
.
وظاهر كلام ابن عابدين أن القبول في المجلس الثاني متوقف على قراءة الكتاب مرة أخرى في المجلس الجديد.
وقد اختلف العلماء المعاصرون في هذه المسألة على قولين:
الأول: يرى أن حكم الإيجاب يظل باقيًا حتى يرفضه من وجه إليه، أو يرد ما يدل على رجوع صاحبه عنه، وأن الأمر لا يحتاج إلى قراءته في مجلس آخر، وممن اختار هذا الرأي الشيخ على الخفيف رحمه الله تعالى.
يقول الشيخ: «جاء في كتاب النكاح من فتح القدير أن الإيجاب إذا كان بالكتابة فقرئ الكتاب في مجلس، فلم يتصل به قبول فيه جاز إتمام العقد بقراءته مرة أخرى في مجلس آخر يتصل به القبول فيه، وعلل ذلك بأن الغائب إنما صار مخاطبًا للمخطوبة بالكتاب، والكتاب باق في المجلس الثاني، وفي رأيي أن
(1)
حاشية ابن عابدين (4/ 513).
عقد البيع وغيره من عقود المال أولى بهذا الحكم من عقد النكاح، إذ يتساهل في البيع ونحوه بما لا يتساهل به في عقد النكاح، وعلى ذلك يجوز لمن أرسل إليه الإيجاب بالكتاب إذا قرأه، فلم يقبله في أول مجلس، أن يقرأه في مجلس آخر، ثم يقبل، ويكون مجلس العقد مجلس كل قراءة، ويؤيد ذلك ما جاء في رد المحتار: أن الإيجاب بالبيع إذا كان في كتاب مرسل إلى المشتري يتجدد بقراءة الكتاب مرة أخرى في مجلس آخر، فيصح حينئذ القبول في هذا المجلس، وإن لم يقبل في المجلس السابق، وهذا يخالف ظاهر ما جاء في الهداية.
وقد يقال مع هذا: إن التلفظ ليس شرطًا في عقود المعاوضات المالية، بخلاف عقد النكاح، فلا ينعقد إلا باللفظ
(1)
، وإذن فلا داعي لقراءة الكتاب مرة أخرى، بل يعتبر وجوده وقيامه إيجابًا بالكتابة، فإذا علم مضمونه كان للمرسل إليه أن يقبل في أي وقت، وينشأ بذلك العقد لقيام الإيجاب بقيام الكتاب، وعندئذ لا يمكن إلا أن يعتبر مجلس العقد في هذه الحالة هو مجلس القبول، ويصح قبوله في كل وقت ما لم يرفض»
(2)
.
والكلام هذا وجيه إلا أنه يتضمن ضررًا على الموجب إذا قيل: إن للقابل أن يؤخر القبول إلى أي وقت يشاء، والضرر منتف.
واختار أبو زهرة أن قياس البيع على النكاح قياس مع الفارق؛ لأن مجلس الكتاب بالنسبة للنكاح ليس مجلس وصول الكتاب، وإنما المجلس الذي يحضر فيه الشهود؛ لأن النكاح يحتاج إلى شهود على القول بأن الشهود شرط في صحة
(1)
يذهب بعض الحنفية إلى جواز أن يكون الإيجاب بالنكاح بالكتابة إذا كان أحد العاقدين غائبًا، فاشتراط اللفظ في النكاح ليس على إطلاقه، والنص الذي نقلناه عن جواهر زاده واضح أن الإيجاب كان عن طريق الكتابة، والله أعلم.
(2)
أحكام المعاملات - على الخفيف (ص: 193).
النكاح، فتضطر المرأة إلى تأخير إعلان القبول إلى أن يتوفر لها الشهود على ذلك
(1)
.
وقد اختار هذا القول الدكتور محمد يوسف موسى، ونشأت إبراهيم الدريني.
وخلاصة هذا أن نظرية المجلس - التي تقضي بجواز تأخير القبول إلى آخر المجلس إذا ظل الإيجاب قائمًا، وعدم جواز القبول بعد المجلس - تخالف الأصل، فلا يصح التوسع فيها، سواء في التعاقد بين حاضرين، أو بين غائبين»
(2)
.
* * *
(1)
الأموال ونظرية العقد (ص: 270).
(2)
التراضي في عقود المبادلات المالية (ص: 306).