الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحتى نعرف القول الراجح لا بد لنا من معرفة مقصد الشارع من تشريع ما يسمى بخيار المجلس، هل قصد احترام المجلس (مكان التبايع) لذات المجلس، أو قصد أن يكون هناك فترة من الزمن بعد الإيجاب والقبول يتروى فيها كل من المتعاقدين خشية أن يكون تسرع في الصفقة، لأن البيع قد يقع فجأة من غير ترو ولا نظر، فجعل الشارع هذا الخيار ليحق له الرجوع، وإذا كان المقصود بالمفارقة هو مفارقة مكان التبايع فالمكان قائم في كل صفقة، فالحكم يتعلق بمكانهما إن كانا حاضرين، أو تعلق الحكم باتصالهما إن كانا غائبين، وليس من شرط قيامه اتحاد المكان، وقد ناقشت فيما سبق المكان في حالة البيع بالمكاتبة والمراسلة، فهنا المكان هو مكان الاتصال، فإذا انقطع الاتصال بين المتصلين فقد افترقا.
المسألة الثالثة:
البيع بالتلفون لا يصح فيما يشترط فيه القبض الفوري إلا إذا تم القبض بعد انتهاء المكالمة مباشرة، كأن يكون لكل واحد منهما عند الآخر وكيل بالقبض مثلًا، أو نحو ذلك، فالعقود في الأموال الربوية لا يتم فيها العقد بالهاتف إلا مع هذا الضابط.
الفصل الثاني
صدور الإيجاب والقبول من طرف واحد
هل يمكن أن يصدر الإيجاب والقبول من شخص واحد؟ وإذا أمكن تصور ذلك، فهل يصح العقد؟
لهذه المسألة أكثر من صورة، منها الجائز، ومنها ما هو محل خلاف.
[م - 54] فالصورة الجائزة، حتى حكى بعضهم الإجماع على جوازها، لها أمثلة منها:
لو زوج أمته عبده الصغير، فإن للسيد أن يتولى طرفي العقد بنفسه؛ لأنه مالك لذلك بحكم الملك، لا بحكم الإذن
(1)
.
ومنها: الأب يشتري مال الصغير لنفسه، أو يبيع مال نفسه من الصغير
(2)
.
وعللوا ذلك بأن الأب من طبعه الشفقة على ولده، والميل إليه، وترك حظ نفسه لحظه.
وحكى القرافي الإجماع على صحة بيع الأب وشرائه من مال ولده الصغير
(3)
.
(1)
المغني (7/ 20)، وانظر البحر الرائق (3/ 150)، مواهب الجليل (3/ 439)، أسنى المطالب (3/ 134).
(2)
انظر بدائع الصنائع (2/ 232)، التاج والإكليل (6/ 423)، وقال السيوطي في الأشباه والنظائر (ص: 265): «واختص الأب والجد بأحكام منها: ولاية المال
…
وتولي طرفي العقد في البيع .. ». وانظر المغني (4/ 6)، الإنصاف (4/ 363)، شرح منتهى الإرادات (2/ 176).
(3)
أنوار البروق في أنواع الفروق (3/ 272).
وأما التي هي محل خلاف، فلها صورتان:
أحدهما: مسألة بيع الوكيل لنفسه، وشرائه منها، فلو وكل رجل رجلًا على شراء عقار، وكان عند الوكيل عين المطلوب، فهل له أن يبيع هذا العقار على موكله، ومثله لو وكله على بيع العقار، وهو محتاج إليه، فهل له أن يشتري هذا العقار؟
الصورة الثانية: تولي الوكيل طرفي العقد نيابة عن العاقدين، كما لو وكله شخص على بيع سلعة، ووكله آخر على شرائها.
وسوف نتعرض إن شاء الله تعالى بالبحث لكل مسألة على انفرادها. أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
* * *
المبحث الأول
في بيع الوكيل لنفسه وشرائه منها
[م - 55] إذا نهي الوكيل عن إجراء العقد مع نفسه فأجراه لم يصح العقد، وذلك لأن ما نهاه عنه غير داخل في إذنه، فلم يجز له كما لو لم يوكله.
أما إذا أذن له بإجراء العقد مع نفسه، أو أطلق الوكالة ففي هذا خلاف بين أهل العلم.
فقيل: له ذلك مطلقًا، وبه قال مالك رحمه الله
(1)
،ورواية عن الإمام أحمد
(2)
.
(1)
جاء في بداية المجتهد المطبوع مع الهداية (8/ 123): «وأما أحكام الوكيل، ففيها مسائل مشهورة: أحدها: إذا وكل على بيع شيء، هل يجوز له أن يشتريه لنفسه؟ فقال مالك: يجوز، وقد قيل عنه: لا يجوز
…
». فهنا ابن رشد أطلق الجواز عن الإمام مالك، وروى الجواز بصيغة الجزم، بينما القول بعدم الجواز ساقها بصيغة التمريض.
وجاء في مواهب الجليل (6/ 402): «قال القرطبي في تفسير سورة البقرة، في قوله تعالى:{ويسألونك عن اليتامى} [البقرة: 220] اختلف هل له أن يشتري لنفسه من مال يتيمه، فقال مالك: يشتري في مشهور الأقوال.
والقول الثاني: أنه لا ينبغي أن يشتري مما تحت يده شيئًا لما يلحقه من التهمة إلا أن يكون البيع في ذلك بيع سلطان في ملأ من الناس .. ».
وجاء في القوانين الفقهية (ص: 216): «ويجوز للوكيل والوصي أن يشتريا لأنفسهما من مال الموكل واليتيم إذا لم يحابيا أنفسهما» . وانظر الفواكه الدواني (2/ 230).
(2)
. هذا القول هو مقتضى الرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله، حيث قال ابن قدامة في المغني (5/ 69):«يجوز لهما - أي للوكيل والوصي - أن يشتريا بشرطين: أحدهما: أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء، والثاني: أن يتولى النداء غيره .. » . فالغاية من اشتراط الشرطين انتفاء التهمة، وعدم محاباة النفس في تقدير الثمن.