الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
في اشتراط الطهارة في المال
[م-11] وهذا هو الخلاف الثالث بين الحنفية والجمهور في حقيقة المال، وذلك اختلافهم في اشتراط الطهارة في المال، أو بعبارة أخرى هل يعتبر النجس مالًا؟
فالحنفية علقوا جواز بيع النجس على جريان الانتفاع، فما جرى الانتفاع به بين المسلمين، واعتادوا تموله من غير نكير جاز بيعه وإن كان نجسًا، وما لم تجر العادة بتموله لم يجز بيعه، وفي الجملة هم يقسمون النجس إلى ثلاثة أقسام:
الأول: نجس العين الذي لم يجر العمل على الانتفاع به، فهذا لا يجوز بيعه، وإذا قال الحنفية عن شيء: إنه نجس العين فمعنى ذلك أن نجاسته نجاسة مغلظة غالبًا.
قال القدوري: «وإنما معنى قولنا: نجس العين: ما تغلظت نجاسته»
(1)
، وهذا يعني أنهم لا يطلقون كلمة نجس العين على كل نجس في الغالب.
قال في الهداية: «ولا يجوز بيع شعر الخنزير؛ لأنه نجس العين
…
»
(2)
.
(1)
التجريد (5/ 2611)، مسألة:647.
(2)
الهداية (3/ 45)، وقال نحوه في تبيين الحقائق (4/ 50)، وقال في بدائع الصنائع (5/ 143):«ونجس العين لا يباح الانتفاع به شرعًا إلا في حال الضرورة .. » .
وقال في بدائع الصنائع (5/ 142): «وأما عظم الخنزير وعصبه فلا يجوز بيعه؛ لأنه نجس العين .. » . وانظر كتاب الأصل (5/ 84 - 85).
وفي المبسوط (11/ 235) لما دلل على جواز بيع الكلب المعلم والكلب القابل للتعليم، قال:«وبهذا يتبين أنه ليس بنجس العين، فإن الانتفاع بما هو نجس العين لا يحل في حال الاختيار كالخمر، ولا يجوز تمليكه قصدًا بالهبة والوصية .... » .
فهذا الكلام في نجس العين الذي لم يجر العمل على الانتفاع به، وكانت نجاسته مغلظة.
الثاني: ما كانت نجاسته غير مغلظة، وجرى الانتفاع به من غير نكير فيجوز بيعه، وإن كان نجسًا. وهذا مثل السرجين النجس.
وجاء في تبيين الحقائق: «كره بيع العذرة لا السرقين، وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز بيع السرقين أيضًا؛ لأنه نجس العين
…
ولنا: أن المسلمين تمولوا السرقين، وانتفعوا به في سائر البلدان والأعصار من غير نكير، فإنهم يلقونه في الأراضي لاستكثار الريع بخلاف العذرة؛ لأن العادة لم تجر بالانتفاع بها
…
»
(1)
.
(1)
تبيين الحقائق (6/ 26). وجاء في حاشية الشلبي على تبيين الحقائق وهو يعلق على بيع جلد الميتة فلا يجوز قبل الدبغ، ويجوز بعده (4/ 51) قال: «بطلان البيع دائر مع حرمة الانتفاع، وهي عدم المالية، فإن بيع السرقين جائز، وهو نجس العين للانتفاع به لما ذكرنا، وأما جواز بيعها - يعني جلود الميتة- بعد الدباغة لحل الانتفاع بها شرعًا، والحكم بطهارتها زيادة ثبتت شرعًا
…
».
وجاء في البحر الرائق (6/ 77): «وأشار إلى منع ما ليس بمال كبيع العذرة الخالصة، ويجوز بيع السرقين والبعر والانتفاع به والوقود به»
وجاء فيه أيضًا (8/ 226): «كره بيع العذرة إلا السرقين؛ لأن المسلمين يتمولون السرقين وانتفعوا به في سائر البلاد والأمصار من غير نكير، فإنهم يلقونه في الأراضي لاستكثار الريع بخلاف العذرة؛ لأن العادة لم تجر بالانتفاع بها إلا مخلوطة برماد أو تراب غالب عليها، فحينئذ يجوز بيعها
…
»
وفي الجامع الصغير مع شرحه النافع الكبير جاء فيه (1/ 480): «لا بأس ببيع السرقين، ويكره بيع العذرة .. » .
فهنا نص على أنهم حكموا عادة الناس بالانتفاع والتمول، ولم ينظروا إلى طهارة العين.
وقال القدوري: «قال أصحابنا: يجوز بيع السرجين.
وقال الشافعي: لا يجوز ذلك.
لنا أن الناس يتبايعونه للزرع، وفي سائر الأزمان من غير نكير ...... ولأن الناس استخفوا نجاسته بدلالة أنهم لا يتجنبونه في الطرق كتجنب النجاسات، ويطينون به السطوح، ومتى خفت نجاسته جاز بيعه، كالثوب النجس ..... وإنما معنى قولنا: نجس العين ما تغلظت نجاسته، ولا نسلم أن السرجين مغلظ النجاسة، فالوصف غير مسلم .... ولهذا قال أصحابنا: لا يجوز استعمال العذرة والدم في الأراضي حتى يغلب التراب عليها، ويجوز استعمال السرجين من غير أن يخالطه شيء»
(1)
.
الثالث: ما كانت نجاسته عن مجاورة كالدهن والثوب النجس، فهذا يجوز بيعه.
جاء في المبسوط: «مسألة الدهن إذا اختلط به ودك الميتة، أو شحم الخنزير وهي تنقسم ثلاثة أقسام: فإن كان الغالب ودك الميتة لم يجز الانتفاع بشيء منه، لا بأكل ولا بغيره من وجوه الانتفاع؛ لأن الحكم للغالب، وباعتبار الغالب هذا محرم العين غير منتفع به، فكان الكل ودك الميتة
…
وكذلك إن كانا متساويين؛ لأن عند المساواة يغلب الحرام، فكان هذا كالأول.
فأما إذا كان الغالب هو الزيت، فليس له أن يتناول شيئًا منه في حال الاختيار؛ لأن ودك الميتة وإن كان مغلوبًا مستهلكًا حكمًا، فهو موجود في هذا
(1)
التجريد (5/ 2610).
المحل حقيقة، وقد تعذر تمييز الحلال من الحرام، ولا يمكنه أن يتناول جزءًا من الحلال إلا بتناول جزء من الحرام، وهو ممنوع شرعًا من تناول الحرام، ويجوز له أن ينتفع به من حيث الاستصباح، ودبغ الجلود بها؛ فإن الغالب هو الحلال، فالانتفاع إنما يلاقي الحلال مقصودًا ...... وكذلك يجوز بيعه مع بيان العيب عندنا، ولا يجوز عند الشافعي رحمه الله تعالى؛ لأنه نجس العين كالخمر، ولكنا نقول: النجاسة للجار، لا لعين الزيت، فهو كالثوب النجس يجوز بيعه، وإن كان لا تجوز الصلاة فيه»
(1)
.
فهنا الحنفية أجازوا بيع الزيت المتنجس والانتفاع به في غير الأكل بشرط أن يكون الزيت متنجسًا لا نجسًا، وأن يكون الزيت الطاهر هو الغالب، ففرقوا في الحكم بين بيع نجس العين مما لم يجر الانتفاع به كالخنزير فلا يجوز بيعه، ولا الانتفاع به، وبين نجس جرى الانتفاع به من غير نكير، فأجازوا بيعه والانتفاع به في غير الأكل كالسرجين، ومثله الزيت الطاهر تقع فيه النجاسة فتنجسه، ويكون الزيت هو الغالب فيجوز بيعه والانتفاع به.
وأجاز الحنابلة في قول في المذهب بيع النجس إذا كان مشتملًا على نفع
(2)
،
(1)
المبسوط (10/ 198).
(2)
في مذهب الحنابلة قول في جواز بيع النجس إذا كان فيه نفع.
جاء في الفروع (1/ 8): «قال مهنا: سألت أحمد عن السلف في البعر والسرجين، قال: لا بأس، وأطلق ابن رزين في بيع نجاسةٍ قولين» . وانظر الإنصاف (1/ 89 - 90).
وهو اختيار ابن حزم
(1)
، وابن القاسم من المالكية
(2)
.
وقيل: نجس العين لا يجوز بيعه، وكذا المتنجس الذي لا يمكن تطهيره، وهو مذهب الجمهور، والمشهور من مذهب الحنابلة
(3)
.
(1)
وقال ابن حزم في المحلى في مسألة (1546): «وبيع العذرة والزبل للتزبيل وبيع البول للصباغ جائز» ..
(2)
التمهيد (4/ 144).
(3)
انظر مواهب الجليل (4/ 258).
وجاء في الشرح الكبير (3/ 10): «وشرط لصحة بيع المعقود عليه ثمنًا أو مثمنًا طهارة .... أي أصلية باقية أو عرض لها نجاسة يمكن إزالتها كالثوب إذا تنجس .... ولا يصح بيع ما نجاسته أصلية، أو لا يمكن طهارته كزبل
…
».
وجاء في الفواكه الدواني (1/ 387): «وكذا لا يباع جلد الميتة؛ لأنه يشترط في صحة البيع عندنا طهارة المعقود عليه ثمنًا أو مثمنًا، وكما لا يجوز بيعه لا تجوز إجارته
…
».
وقال ابن عبد البر في التمهيد (4/ 144): «وجميع العلماء على تحريم بيع الدم والخمر، وفي ذلك أيضًا دليل على تحريم بيع العذرات وسائر النجاسات، وما لا يحل أكله، ولهذا - والله أعلم - كره مالك بيع زبل الدواب.
ورخص فيه ابن القاسم؛ لما فيه من المنفعة، والقياس ما قاله مالك، وهو مذهب الشافعي، وظاهر هذا الحديث - يعني: حديث جابر: إن الله حرم بيع الخمر والميتة
…
- فلم أر وجهًا لذكر اختلاف الفقهاء في بيع السرجين والزبل ها هنا؛ لأن كل قول تعارضه السنة وتدفعه، ولا دليل عليه من مثلها لا وجه له
…
».
وفي مذهب الشافعية، قال الشيرازي في المهذب المطبوع مع المجموع (9/ 269):«الأعيان ضربان نجس وطاهر فأما النجس فعلى ضربين نجس في نفسه ونجس بملاقاة النجاسة فأما النجس في نفسه فلا يجوز بيعه وذلك مثل الكلب والخنزير والخمر والسرجين وما أشبه ذلك من النجاسات والأصل فيه ما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام»
وروى أبو مسعود البدري وأبو هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب فنص على الكلب والخنزير والميتة وقسنا عليها سائر الأعيان النجسة .... أما النجس بملاقاة النجاسة فهو الأعيان الطاهرة إذا أصابتها نجاسة فينظر فيها فإن كان جامدًا كالثوب وغيره جاز بيعه لأن البيع يتناول الثوب وهو طاهر وإنما جاورته النجاسة وإن كان مائعًا نظرت فإن كان مما لا يطهر كالخل والدبس - لم يجز بيعه؛ لأنه نجس لا يمكن تطهيره من النجاسة فلم يجز بيعه كالأعيان النجسة وإن كان ماء ففيه وجهان (أحدهما) لا يجوز بيعه؛ لأنه نجس لا يطهر بالغسل فلم يجز بيعه كالخمر (والثاني) يجوز بيعه؛ لأنه يطهر بالماء فأشبه الثوب. فإن كان دهنا فهل يطهر بالغسل؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يطهر؛ لأنه لا يمكن عصره من النجاسة فلم يطهر كالخل (والثاني) يطهر؛ لأنه يمكن غسله بالماء فهو كالثوب (فإن قلنا) لا يطهر لم يجز بيعه كالخل (وإن قلنا): يطهر ففي بيعه وجهان كالماء النجس ويجوز استعماله في السراج والأولى أن لا يفعل لما فيه من مباشرة النجاسة.
وجاء في أسنى المطالب (2/ 8): «للمعقود عليه شروط خمسة: الأول: الطهارة له، فلا يصح بيع نجس العين
…
».
وفي حاشيتي قليوبي وعميرة (2/ 197): «وللمبيع شروط خمسة: أحدها: طهارة عينه، فلا يصح بيع الكلب والخمر .... والمتنجس الذي لا يمكن تطهير؛ لأنه في معنى نجس العين» .
وفي مذهب الحنابلة علل ابن قدامة المنع من بيع السرجين بأنه مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة، انظر المغني (4/ 174)، وكذلك انظر الفروع (1/ 8)، والإنصاف (1/ 89 - 90)، (4/ 280) شرح منتهى الإرادات (2/ 8 - 9)، مطالب أولي النهى (3/ 16).
واستدلوا بما ثبت من الأحاديث الصحيحة في النهي عن بيع الميتة، والخنزير، والخمر، والدم، والكلب، فهذه الأعيان نجسة، وقاسوا عليها سائر الأعيان النجسة.
وسوف يأتي في كتاب موانع البيع حكم بيع هذه الأعيان إن شاء الله، وما ورد فيها من الأحاديث الصحيحة، كما سيأتي في شروط المعقود عليه خلاف أهل العلم في طهارة المعقود عليه، مع ذكر الأدلة ومناقشتها، فانظره هناك، وإنما اقتضى هنا التنبيه في خلاف الحنفية مع الجمهور حول حقيقة المال.
هذه المسائل تقريبًا التي خالف فيها الحنفية جمهور الفقهاء فيما يتعلق بحقيقة المال.
* * *