الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن كان مما لا يمكن قسمه، إلا بضرر كنقص القيمة، أو برد عوض من أحدهما على الآخر لم يجبر أحدهما على القسمة.
وسوف يأتي مزيد بحث لهذه المسألة إن شاء الله تعالى في بابها، وإنما أردت هنا الإشارة إلى الآثار المترتبة على تقسيم المال إلى مثلي وقيمي، ولم أقصد تحرير قسمة المال المشترك بين الشركاء، وكيف يقسم، والله أعلم.
الرابع: من الفروق المترتبة على تقسيم المال إلى قيمي ومثلي
[م - 24] إذا كان أحد المبيعين مثليًا والآخر قيميًا وأردنا تحديد المبيع من الثمن.
فالحنفية يرون أن المثلي هو الثمن لثبوته دينًا في الذمة، ولكونه لا يتعين بالتعيين، وأن القيمي هو المبيع.
يقول الكاساني في بدائع الصنائع: «المبيع والثمن على أصل أصحابنا من الأسماء المتباينة الواقعة على معان مختلفة فالمبيع في الأصل اسم لما يتعين بالتعيين والثمن في الأصل ما لا يتعين بالتعيين وإن احتمل تغير هذا الأصل بعارض
…
والثمن في اللغة اسم لما في الذمة هكذا نقل عن الفراء وهو إمام في اللغة؛ ولأن أحدهما يسمى ثمنا والآخر مبيعًا في عرف اللغة والشرع واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل إلا أنه يستعمل أحدهما مكان صاحبه توسعًا; لأن كل واحد منهما يقابل صاحبه فيطلق اسم أحدهما على الآخر لوجود معنى المقابلة كما يسمى جزاء السيئة سيئة وجزاء الاعتداء اعتداء. (فأما) الحقيقة فما ذكرنا ...... ثم الدراهم والدنانير عندنا أثمان على كل حال أي شيء كان في مقابلتها وسواء دخله حرف الباء فيهما أو فيما يقابلهما; لأنهما لا تتعين بالتعيين بحال فكانت أثمانًا على كل حال.
وأما ما سواهما من الأموال فإن كان مما لا مثل له من العدديات المتفاوتة والذرعيات فهو مبيع على كل حال; لأنها تتعين بالتعيين، بل لا يجوز بيعها إلا عينًا، إلا الثياب الموصوفة المؤجلة سلمًا فإنها تثبت دينا في الذمة مبيعة بطريق السلم استحسانا بخلاف القياس لحاجة الناس إلى السلم فيها .... »
(1)
.
فتبين من قوله: (أن الثمن اسم لما في الذمة) دليل على أنه لا يتعين بالتعيين: وهو نص على كونه مثليًا.
وقوله: (وأما ما سواهما من الأموال فإن كان مما لا مثل له من العدديات المتفاوتة، والذرعيات فهو مبيع على كل حال) دليل على أن المبيع يتعين بالتعيين، وهو نص على كونه قيميًا.
وللحنفية تفريعات كثيرة في معرفة الثمن والمثمن سيأتي تحريرها إن شاء الله تعالى في مسألة مستقلة مقابلا ذلك كله مع قول الجمهور وبيان الراجح، في أحكام المعقود عليه، وإنما اقتضى الإشارة هنا إلى الآثار المترتبة على تقسيم المال إلى مثلي وقيمي، والله أعلم.
* * *
(1)
بدائع الصنائع (5/ 233).
المبحث الثاني
تقسيم المال إلي متقوم وغير متقوم
قال السرخسي: ما يكون متقومًا شرعًا فالاعتياض عنه جائز
(1)
.
قال الماوردي: ما لا قيمة له لا تصح المعاوضة عليه
(2)
.
وقال السرخسي أيضًا: إتلاف ما ليس بمتقوم لا يوجب الضمان
(3)
.
سبق لنا أن الجمهور يشترطون في المال أن يكون الانتفاع به مباحًا، فالشيء إذا لم يكن مما يباح الانتفاع به شرعًا فليس بمال أصلًا.
جاء في شرح الرصاع على حدود ابن عرفة: «إن المعتبر في التقويم إنما هو مراعاة المنفعة التي أذن الشارع فيها، وما لا يؤذن فيه فلا عبرة به، فلا تعتبر قيمته؛ لأن المعدوم شرعًا كالمعدوم حسًا»
(4)
.
بينما الحنفية لا يشترطون في المالية إباحة الانتفاع، وهذا الذي دفعهم إلى تقسيم المال إلى متقوم وغير متقوم، ليخرجوا ما لا يحل الانتفاع به من الأموال من أن يكون محلًا للعقد، نظرًا لعدم تقومه.
فالمال المتقوم عند الحنفية: هو ما يباح الانتفاع به شرعًا في حال السعة والاختيار.
والمال غير المتقوم: هو ما لا يباح الانتفاع به في حال الاختيار، كالخمر
(1)
المبسوط (11/ 52).
(2)
الحاوي الكبير (5/ 262).
(3)
المبسوط (6/ 152).
(4)
شرح حدود ابن عرفة (2/ 651).
والخنزير، فهو مال غير متقوم بالنسبة للمسلم، وأما في حق الذمي، فهي مال متقوم؛ لأنه لا يعتقد حرمتها، ويتمولها
(1)
.
فإذا أتلف مسلم خمرًا فإن كانت لذمي ضمنها المتلف، وإن كانت لمسلم لم يضمنها؛ لأنها ليست متقومة في حق المسلم
(2)
.
يقول ابن عابدين في حاشيته:
«المال أعم من المتقوم
(3)
؛ لأن المال ما يمكن ادخاره، ولو غير مباح كالخمر والمتقوم ما يمكن ادخاره مع الإباحة فالخمر مال لا متقوم
…
»
(4)
.
(5)
.
والراجح ما ذهب إليه الجمهور، وكيف يقال عن الخمر بأنه مال، والحنفية يعرفون المال بأنه ما يمكن تموله، وهل يمكننا تمول الخمر والخنزير، ويعرفون المال بأنه ما خلق لمصالح الآدمي، ويمكن ادخاره وقت الحاجة، ولا أعرف مصلحة في الخمر بعد تحريمها وقد أمرنا باجتنابها، وهو أبلغ من النهي عن شربها، في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة 90] فالاجتناب: أن أكون في جانب، والخمرة
(1)
بدائع الصنائع (4/ 137 - 138)، العناية شرح الهداية (6/ 405 - 406)،
(2)
بدائع الصنائع (5/ 113).
(3)
في المطبوع (المتمول) وهو خطأ.
(4)
حاشية ابن عابدين (4/ 501).
(5)
المرجع السابق، الصفحة نفسها.
في جانب آخر، وهذا يقطع التمول في الخمر من أي وجه من الوجوه، ويقطع ادخاره لوقت الحاجة.
وقد يطلق الحنفية غير متقوم، ويقصدون به غير المحرز من المباحات، كالسمك في الماء، والطير في الهواء، والأشجار في البراري، ومثله الذهب في مناجمه، والفضة في معادنها، فلو أتلفه متلف لم يضمنه؛ لأنه لا حماية له قبل حيازته.
جاء في مجلة الأحكام العدلية: «المال المتقوم يستعمل في معنيين:
الأول: ما يباح الانتفاع به.
والثاني: بمعنى المال المحرز، فالسمك في البحر غير متقوم؛ فإذا اصطيد صار متقومًا بالإحراز»
(1)
.
فالمعنى الأول: هو معنى المال الشرعي.
والثاني: معناه العرفي.
فلحم الخروف المذبوح مثلًا بما أن أكله وتناوله مباح، فهو من هذه الجهة مال، ومتقوم أيضًا، أما لحم غير المذبوح كالمخنوق خنقًا، فبما أن أكله وتناوله حرام وممنوع، فمن هذه الجهة يعد غير متقوم، وإن عده البعض مالًا
(2)
.
(1)
وجاء حاشية ابن عابدين (5/ 60): «في السمك الذي لم يصد ينبغي أن يكون البيع باطلًا إذا كان بالدراهم والدنانير، ويكون فاسدًا إذا كان بالعرض؛ لأنه مال غير متقوم؛ لأن التقوم الإحراز، والإحراز منتف» .
(2)
انظر درر الحكام (1/ 116).