الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فمن باشر سبب الحكم باختياره لزمه مسببه ومقتضاه وإن لم يرده
(1)
.
الدليل الثالث:
عقد الهازل قد توفرت فيه شروط البيع الصحيح، وتمت أركانه، فيكون بيعًا صحيحًا، ولا عبرة بما نواه وقصده، وإنما العبرة بالإرادة الظاهرة حفاظًا على مبدأ استقرار العقود والمعاملات.
وأجيب:
بأننا قدمنا الأدلة في المسألة السابقة بأن العبرة بالعقود بما نواه وقصده العاقدان، وإذا تعارضت الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة قدمت الإرادة الباطنة.
دليل من قال: لا بد من قرينة على أنه كان هازلًا
.
الهزل أمر باطن لا يعرف إلا من جهة الهازل، والأصل عدم الهزل، فإذا تكلم في إيجاب العقد أو في قبوله فالأمر محمول على الجد، وأما دعواه الهزل وأنه لم يقصد العقد فهذا أمر خفي بينه وبين الله، وأما في الظاهر فهو محمول على الصحة، ولا نقبل قوله في دعوى الهزل إلا بقرينة؛ لأنه يستلزم من قبول قوله إبطال حق العاقد الآخر، ولو فتح الباب في هذا لكان كل من يريد أن يفسخ العقد يدعي الهزل.
الراجح:
بعد استعراض الأقوال نجد أن الأقوال ترجع إلى قولين: ينعقد بيع الهازل، أو لا ينعقد، وأما القول بأنه لا بد من قرينة تدل على أنه أراد الهزل فهذا القول يرجع إلى القول بعدم انعقاد العقد في بيع الهازل؛ لأن هذا القول لم يطلب
(1)
تهذيب السنن (6/ 188).
سوى إثبات وجود الهزل، فإذا ثبت لديه انتفى الحكم عنده، وأظن أن القائلين لا ينعقد لا يختلفون في هذا، لأن الأمر إما أن يصدقه صاحبه على دعوى الهزل، أو يكذبه، فإن صدقه أصبحت الأقوال في المسألة قولين، وإن كذبه فالأصل مع مدعي الجد؛ لأنه هو الأصل، ولذلك الحنفية الذين يقولون بأن بيع الهازل لا ينعقد يقولون في نفس الوقت لا بد من قرينة،
جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام «الجد شرط في البيع، فلا ينعقد بيع الهزل؛ إذ لا رضاء في عقد يبنى على الهزل
…
وعلى هذا إذا قصد بالمبايعة الهزل وجب التصريح بذلك أثناء العقد إذ لا تغني دلالة الحال عن ذلك وحدها. فعلى الهازل في بيعه أن يقول للمشتري إني بعتك هذا المال هازلًا. وإذا تواطأ متبايعان على أن العقد الذي سيجريانه بحضور الشهود يراد به الهزل فالتواطؤ الذي تقدم العقد بمنزلة التصريح بقصد الهزل أثناء العقد ويكون هذا البيع بيع هزل، فإذا اختلف المتبايعان في البيع، هل هو هزل أو جد؟ فالقول لمدعي الجد مع يمينه، فإذا وجدت قرينة تدل على قصد الهزل في البيع كأن يباع الشيء بنقص فاحش جدًا فالقول إذ ذاك لمدعي الهزل أما إذا ادعى الهزل مشتر بعد أن دفع ثمن المبيع أو بعضه فدعواه غير مسموعة»
(1)
.
وإذا كان الأمر كذلك، فالخلاف إنما هو في حالة قيام ما يدل على إرادة الهزل أو الاتفاق عليه بين المتعاقدين هل ينعقد العقد في مثل هذه الحالة، أو لا ينعقد؟ والذي يظهر لي أن القول الصواب مع قول من قال: لا ينعقد العقد لعدم وجود قصد البيع والرضا به، والله أعلم
(2)
.
(1)
درر الحكام شرح مجلة الأحكام (1/ 138 - 139).
(2)
وهذا التفصيل هو ما مشى عليه القانون، يقول السنهوري في الوسيط في شرح القانون المدني الجديد في الحاشية في المجلد الأول من مصادر الالتزام (ص: 185):» وكانت المادة (128) من المشروع التمهيدي تنص على ما يأتي: «لا يكون التعبير عن الإرادة باطلًا لمجرد أن صاحبه قد أضمر غير ما أظهر، ولكنه باطل إذا كان من وجه إليه يعلم بهذا التحفظ الذهني» .
ويقول الدكتور الدريني في كتابه التراضي (ص: 256): «التحفظ الذهني: هو أن لا يريد الشخص ما أعلن أنه يريده، وينشأ عنه اختلاف بين الإرادة الحقيقية والإرادة الظاهرة.
ويأخذ القانون الألماني في هذه المسألة بالإرادة الظاهرة، ويترتب على ذلك أن العقد ينعقد على الرغم من أن المتعاقد قد أضمر خلاف ما أظهر، أما في القانون الفرنسي فإن العقد لا ينعقد، ولكن من الناحية العملية يكون من الصعب إثبات هذا التحفظ؛ لأن الإرادة الظاهرة إذا كانت مكتوبة، فإنه لا يجوز إثبات عكسها - أي الإرادة الباطنة - إلا بالكتابة طبقًا للقاعدة التي تقضي بأن ما يثبت بالكتابة لا يجوز إثبات عكسه إلا بالكتابة، ولما كان التحفظ الذهني مكنونًا في الضمير فإنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل إثباته بالكتابة، الأمر الذي يترتب عليه في النهاية الاعتداد بالإرادة الظاهرة، والقول بانعقاد العقد في حالة التحفظ الذهني».
وهذه المسألة ترجع إلى مسألة أصولية سابقة، وهي إذا تعارضت الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة، فمن المقدم، هل يؤخذ بما نواه العاقدان، أو بما أظهراه؟ وقد ناقشت هذه المسألة في مبحث مستقل، وبينت الراجح فيها، فإن شئت الاستزادة فارجع إليها مشكورًا.
* * *