الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقريظ
معالي فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد
رئيس مجلس القضاء الأعلى في المملكة العربية السعودية وإمام وخطيب الحرم المكي الشريف ورئيس مجلس الشورى السعودي سابقًا
الحمد لله رب العالمين، خلق فقدر، وشرع فيسر، والصلاة والسلام على نبينا محمَّد بشَّر وأنذر، وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان إلى يوم المحشر.
أما بعد:
فإن شريعة الإِسلام غاية في الوفاء بحاجات الناس في ضبط عقودهم، وسائر شؤون حياتهم بأحكامها الصالحة لكل زمان ومكان، فهي خاتمة الشرائع الإلهية المستوعبة أمور الحياة المتجددة وتطورها، هادية مرشدة، قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89].
ولعل وقائع المعاملات المالية وصورها في الحياة هي الأوسع انتشارًا بين الناس عامة، فلكل منهم وسيلته وسبيله نحو هدفه، إلا الإنسان المسلم خاصة فلا وسيلة له، ولا سبيل، ولا هدف إلا ما تأخذه به هذه الشريعة المطهرة من أحكام تطلق طاقاته وإمكاناته، وتضبط ميوله وشهواته بغير مصادمة لفطرة، ولا إجحاف بحقوق، بل تدفعه نحو صلاحه وسعادته ليس وحده، وإنما الأمة كلها في الحياتين الدنيا والآخرة.
لقد قررت الشريعة الإِسلامية في الإنسان غريزته نحو المال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات: 8]، وأسندت إليه تملكه بالحيازة، ودعت إلى المحافظة عليه، وصانت حق ملكيته باعتباره ضرورة من ضرورياته كنفسه وعرضه، وحرمت الاعتداء عليه، ولكنها في ذات الأمر ضبطت فيه غريزته، فهذبت هذه النفس المسلمة بفرائض ونوافل وأحكام وحدود تربط هذا المال بأصول العقيدة والأخلاق، ودوره في الحياة لتحرر الإنسان من عبودية المال، وتسمو بغريزة حبه فتضعه وسيلة في يده تدور بينه وبين الآخرين {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} في تداول مشروع متوازن يحقق أهداف الجميع {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)} [الطلاق: 7].
ولهذا كان لنظام الإِسلام المالي وفقهه الاقتصادي أكبر الأثر في إعمار الحياة لإصلاح النفوس البشرية التي التزمت به دينًا، فأعطت ما عليها وأخذت ما لها بوجه الحق، ثم عاملت بالفضل وتطوعت بالبذل، وسارعت بالإنفاق في وجوه الخير، ولبت حاجة الإنسان بسد خلة المعوز أيًّا كان، فلم تعق الحاجة مقصده وهدفه المشروع في الحياة.
إن فقه المعاملات المالية في الإِسلام يعتبر المال -كسائر ما في الحياة- مملوكًا لله الخالق وحده تعالى ملكية حقيقية، ثم هو بيد الإنسان مستخلف فيه، يلتزم أمره ونهيه أنى يتوجه، بلا إهمال أو تجاوز؛ لإيمانه بخالقه ومالكه ورازقه القائل:{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)} [الحديد: 7].
ومن جهة أخرى فإن أحكام الفقه الإِسلامي جميعها تتغيا تحقيق المصالح.
العامة والخاصة، ودفع المفاسد كذلك، فينتشر العدل ويمتنع الظلم، قال تعالى:{أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)} [الشعراء:181 - 183].
ومما يتأكد في عصرنا الحاضر حاجته إلى أن تسود أحكام هذه الشريعة الإِسلامية، خاصة في أبواب المعاملات المالية ونوازلها المستجدة، والتي تقتضيها بحثًا متخصصًّا عميقًا يفي دائمًا بالحاجات، ويواكبها بمرونة في الأحكام والقواعد الكلية، تعطي الفقيه صلاحية بحثها، والاجتهاد لإقرارها شرعاً أو المنع منها.
فعلى العلماء الفقهاء تقع مسؤولية تقديم نظام الشريعة الإِسلامية إلى أهل العصر الباحثين عن قيم حضارية يشترك عقلاء الناس -بله المسلمون- في طلبها، ويتوقون إلى التزامها من العدل والمساواة والتعاون على العمران، فالشريعة المطهرة بأنظمتها كافة صالحة لكل زمان ومكان، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107].
وها هو المؤلف فضيلة الشيخ دبيان بن محمَّد الدبيان وفقه الله. يقوم ببعض هذا في موسوعاته التي بين يديك من تكييف للمسألة من الناحية الفقهية وتحريرها، وتخريجها على المسائل التي ذكرها المتقدمون، ثم عرضها على القواعد الفقهية، إلى أن تم ترجيح ما يراه، كما أنه يقوم بربط ما يراه بالمسائل القديمة لاعتبارات رأى وجاهتها، فوحد الأبواب الفقهية، وذكر تحت كل باب ما يدخل فيه من المعاملات القديمة، ثم النوازل المعاصرة باعتبار أن الاتصاف بالمعاصرة أمر نسبي، وأن المعاملات المالية من طبيعتها التجدد، فعند الكلام على قبض المبيع -مثلاً- ذكر المعاملات القديمة، ثم ألحق بها قبض المسائل
المعاصرة، مثل قبض الأسهم، وقبض الشيك، والأوراق التجارية، والقبض عن طريق القيد المصرفي، وهكذا الشأن في جميع الأنواع المالية، وكل مسائل البحث.
كما بين أن فهم المعاملات المعاصرة لا يمكن أن يكون سليمًا دون فهم المعاملات القديمة؛ لأن الحكم فيها قائم على دواع من المحاذير والمناهي، والقواعد والضوابط التي منها المتفق عليه والمختلف فيه، ومن العسير أن يستوعب باحث معاملة معاصرة دون الاستعانة بتلك القواعد والضوابط، لذا حرص المؤلف على عدم الخروج عليها تحت أي ضغط أو اسم.
وتطرق في بحثه لآراء كبار الأئمة واختياراتهم الفقهية كشيخ الإِسلام ابن تيمية -يرحمه الله- ولم يتفق معه في مسألة جواز بيع الحلي بالذهب متفاضلًا ونسيئة، كما لم يتفق معه في أن الكيل جزء من علة الربا في الأصناف الأربعة المذكورة في الحديث الشريف، وفي مسائل أخرى.
كذلك لم يتفق مع قرارات المجامع الفقهية في بعض المسائل، كمنع شراء الذهب أو الفضة بالبطاقة غير المغطاة، واختلف معها في تكييف بعض العقود، وجواز أخذ المصارف عمولات؛ وغيرها.
ولم يتعمد الباحث اختيار القول الأيسر ليسره فحسب، كما أنه لم يحرص على الأشد؛ لأنه أحوط، فالاحتياط ليس ملازمًا للشدة، بل إنه -كما يقول- حرص على تعظيم النص الشرعي، وعدم تأويله إلا أن يكون التأويل سائغًا حرصه على عدم إحداث قول جديد في مسألة فقهية سابقة، التزامًا بالضوابط والقواعد الفقهية الثابتة.
وثمت جهد علمي آخر للمؤلف يتعلق بتمحيص أدلة الأحكام من نصوصها في السنة النبوية والآثار التي جمعها، وأفردها باسم الموسوعة الحديثية ضمن
مشروعه الظخم، فقد عني بدراسة الحديث النبوي، وتلقيه -خلال الطلب في المسجد- على أهل الاختصاص، فتوجه للممارسة والنظر في أحكام المتقدمين، وسبر منهجهم في تعليل الأحاديث وتصحيحها، واعتنى بالمتون والعلل خاصة؛ ليبني حكمه عليها تضعيفًا وتصحيحًا، ثم أدلة.
وأخيرًا يقدم المؤلف الموسوعة الرابعة، موسوعة القواعد والضوابط الفقهية، التي أودعها قواعد وضوابط فقهية كثيرة مما يتداولها الفقهاء استدلالًا أو ردًّا، وقد انتخب من هذه القواعد والضوابط ما جعله في مدخل أمهات المسائل الفقهية؛ لتعين القارئ على فهم المسألة قبل الولوج فيها، وتكون كالترجمة لها، وقد بذلك جهدًا كبيرًا، واستغرق فترة من الزمن ليجز له ما أمَّل، ويفوز بأجر أو أجرين إن شاء الله تعالى، قاصدًا وجه الله الكريم، فتقبل الله منا ومنه الجهد، ونفع به، وأجزل الثواب ذخرًا عنده سبحانه، وذكرًا بين العلماء العاملين، ودعاء من القراء والمطالعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه، وسلم.
حرره
د. صالح بن عبد الله بن حميد
* * *