الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
في بيان الصيغ القولية
الفرع الأول
الإيجاب والقبول بصيغة الماضي
المسألة الأولى
في صيغة الماضي المجرد من الاستفهام
[م - 41] صيغة الماضي المجردة من الاستفهام ينعقد بها العقد باتفاق الفقهاء، حكاه غير واحد من الفقهاء كالدسوقي، والصاوي، والخطيب، وابن قدامة، وغيرهم، لاسيما إذا لم يتقدم القبول على الإيجاب، كقول البائع (بعت) وقول المشتري (اشتريت).
قال الدسوقي: «الماضي ينعقد به البيع اتفاقًا، ولا عبرة بقول من أتى به، أنه لم يرد البيع أو الشراء، ولو حلف»
(1)
.
وقال الصاوي: «الماضي لما كان دالًا على الرضا من غير احتمال، انعقد البيع به من غير نزاع»
(2)
.
وقال في مغني المحتاج: «ولو قال: اشتريت هذا منك بكذا، فقال: بعتك، انعقد إجماعًا»
(3)
.
(1)
حاشية الدسوقي (3/ 3).
(2)
حاشية الصاوي على الشرح الصغير (3/ 16).
(3)
مغني المحتاج (2/ 5)، وانظر الإنصاف (4/ 261)، المغني (4/ 3).
واعتبروا صيغة الماضي من اللفظ الصريح:
فقد صرح الحنفية إلى أن صيغة الماضي لا تحتاج إلى نية
(1)
. وهذا شأن الألفاظ الصريحة.
وقال الحطاب المالكي: «في الألفاظ ما هو صريح، مثل بعتك بكذا، فيقول: قبلت»
(2)
.
وسبب الاعتداد بالماضي مطلقًا دلالة صيغته على الحال، فالفعل الماضي يدل على تحقق الوقوع، وذلك أنسب في الدلالة على إنشاء العقد حيث يدل على أن صاحبه قد تخطى مرحلة التفكير والتردد، والمفاوضة والمساومة إلى مرحلة الجزم والقطع والبت والحسم.
فإن قيل: إن الماضي بعت واشتريت صيغ للإخبار عن الماضي، فهو خبر، وليس إنشاء وإحداثًا.
قيل: وإن كانت صيغة الماضي صيغة إخبارية إلا أن المراد به الإنشاء قطعًا، لأن الرجل إذا قال: بعتك بكذا لو كان يقصد الإخبار لكان كاذبًا حيث لم يقع بيع ولا شراء، فالإنشاء هو المتبادر إلى الذهن، والنكتة في هذا أن الماضي إذا سيق للإنشاء يكون من باب التوكيد على تحقق الفعل، وكون الفعل في إيجاده وتحقق وقوعه واقع كالماضي، وهو مستعمل في كتاب الله تعالى، قال تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف:99].
وقال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] فعبر عن النفخ بالصور بصيغة الماضي للتوكيد على أن ذلك واقع لا محالة.
(1)
الفتاوى الهندية (3/ 4).
(2)
مواهب الجليل (4/ 229).
ولذلك لا تجد في نفسك أن رجلًا لو قال لامرأته: (أنت طالق) أنه يحسن تصديقه أو تكذيبه، باعتبار الصيغة خبرية، وإنما يدرك بالضرورة أن الجملة إنشائية.
فالعرف يقتضي أن يكون الماضي تعبيرًا صريحًا عن الإنشاء وإحداث العقد.
يقول الكاساني: «هذه الصيغة وإن كانت للماضي وضعًا لكنها جعلت إيجابًا للحال في عرف أهل اللغة والشرع، والعرف قاض على الوضع»
(1)
.
* * *
(1)
بدائع الصنائع (5/ 133)، وانظر تحفة الفقهاء (2/ 29)، شرح فتح القدير (6/ 249).
المسألة الثانية
في صيغة الماضي المقرون بالاستفهام
[م - 42] إذا جاء الماضي مقرونًا بالاستفهام، كأن يقول المشتري: هل تبيعني هذا بعشرة؟ فقال البائع: بعتك. فهل يقع البيع؟
صرح الحنفية والحنابلة بأن البيع لا يقع، وحكوا في ذلك الاتفاق.
قال الكاساني: «ولا ينعقد - يعني البيع - بصيغة الاستفهام بالاتفاق، بأن يقول المشتري للبائع: .... أبعته مني بكذا؟ فقال البائع: بعت، لا ينعقد ما لم يقل المشتري: اشتريت» قال الكاساني: «لأن هذه الصيغة وإن كانت للماضي وضعًا لكنها جعلت إيجابًا للحال في عرف أهل اللغة والشرع، والعرف قاض على الوضع»
(1)
.
ويقول ابن قدامة في الكافي: «وإن أتى بلفظ الاستفهام، فقال: أبعتني ثوبك، فقال: بعتك، لم يصح متقدمًا ولا متأخرًا - يعني تقدم القبول أو تأخر- لأنه ليس بقبول ولا استدعاء»
(2)
.
وذكر في المغني بأنه لا يعلم خلافًا في هذا
(3)
.
وزاد في الإنصاف: حتى يقول بعد ذلك: ابتعت، أو قبلت، أو اشتريت
(4)
.
(1)
بدائع الصنائع (5/ 133)، وانظر أسنى المطالب (2/ 3).
(2)
الكافي (2/ 3).
(3)
المغني (4/ 4)، وانظر كشاف القناع (3/ 147).
(4)
الإنصاف (4/ 262).
فإن كانت المسألة إجماعًا كما حكوا فالقول مسلم للإجماع، ولعلهم أجمعوا على ذلك، لأن العرف في زمنهم كان لا يقبل مثل ذلك إيجابًا، وليس مرد الاتفاق إلى الصيغة، وإن كان الإجماع لا يصح فالقول بالمنع مطلقًا حتى لو كان هناك عرف متبع قول ضعيف
(1)
، وسيأتي في آخر البحث بعد أن نحرر مذاهب أهل العلم في ألفاظ الإيجاب والقبول بأن القول الراجح أن البيع ليس له لفظ خاص، وأن الحقيقة العرفية مقدمة على الحقيقة اللغوية، بل ومقدم على الحقيقة الشرعية لو وجدت في مثل هذه الأبواب؛ لأن المتبع هو ما يفهمه المتعاقدان مما تعارفا عليه، وكان معبرًا عن إرادتهما بوضوح لا لبس فيه ولا إشكال، بأي لفظ كان من ماض أو مضارع أو أمر، أو جملة اسميه أو معاطاة، أو غير ذلك، وسواء تقدمه استفهام أو لم يتقدمه، إذا كشف ذلك بوضوح عن إرادة المتعاقدين، فقد تم البيع، والله أعلم.
ولذلك قد تجد صيغة الماضي صالحة لإنشاء بعض العقود، وغير صالحة لإنشاء عقود أخرى، والصيغة هي الصيغة، ومرد ذلك إلى العرف.
(1)
ومما يكشف لك ضعفه، أن المالكية يجيزون الانعقاد بصيغة الاستفهام، ولكن المثال المطروح هو في الفعل المضارع، فإذا كان الفعل المضارع المقرون بالاستفهام يصلح أن يكون الإيجاب صالحًا، فالماضي من باب أولى، لأنهم اختلفوا في صلاحية المضارع المجرد عن الاستفهام، ولم يختلفوا في الماضي المجرد عن الاستفهام بكونه صالحًا للإيجاب.
جاء في مواهب الجليل (4/ 230): «إذا قال: المشتري: أتبيع سلعتك بكذا؟ فقال البائع: نعم، أو بعتكها، فقال المشتري: ما أردت الشراء، فهو كمسألة السوم
…
كما صرح به ابن رشد في المذهب، وكما يفهم ذلك من كلام أبي إسحاق التونسي، وأبي الحسن وغيرهما، بل هي أحرى بعدم اللزوم».
قلت: الراجح في مسألة السوم عند المالكية الحلف أنه ما أراد الشراء، وإلا لزم كالمضارع.
يقول القرافي: «إن الشهادة تقع بالمضارع دون الماضي واسم الفاعل، فيقول الشاهد: أشهد بكذا عندك ..... ولو قال: شهدت بكذا .... لم يقبل منه، والبيع يصح بالماضي دون المضارع عكس الشهادة، فلو قال: أبيعك بكذا، أو قال: أبايعك بكذا، لم ينعقد البيع عند من يعتمد على مراعاة الألفاظ كالشافعي .... » ثم بين القرافي سبب ذلك «وسبب هذه الفروق بين الأبواب النقل العرفي من الخبر إلى الإنشاء، فأي شيء نقلته العادة لمعنى صار صريحًا في العادة لذلك المعنى بالوضع العرفي، فيعتمد عليه الحاكم لصراحته، ويستغني المفتي عن طلب النية معه لصراحته بالوضع
…
»
(1)
.
* * *
(1)
الفروق (1/ 53).