الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين يدي هذا المعجم
هذا العمل الذي بين يديك أيها الدارس والقارئ الجاد معجم اشتقاقي مؤصل لمعاني ألفاظ القرآن الكريم.
والمقصود بإخراجه على هذه الصورة الاشتقاقية هو تقديم تفسير لمفردات القرآن الكريم موثَّقٍ ومؤصل؛ لأن "الاشتقاق هو أكمل الطرق في تعريف مدلولات الألفاظ "كما قال الفخر الرازي (1)، وذلك حسمًا للتردد الذي يقع فيه دارس تفسير القرآن الكريم أو الباحث في معاني مفرداته، عندما يواجَه بأن هناك أقوالًا كثيرة في بيان معنى المفردة أو العبارة القرآنية، فيُضطر للاجتزاء بصورة مهتزة أو مُلْتَبِسة عن ذلك المعنى. وهذا يقدح في وثاقة التفسير، ويسيء إلى اللغة أيضًا.
وإنما كان الاشتقاق "أكمل الطرق في تعريف مدلولات الألفاظ "؛ لأنه يقوم على استمداد معاني الألفاظ من استعمال العرب لها -مع أخذ تكييفاتهم (2) في
(1) ينظر مفاتيح الغيب (تفسير) الفخر الرازي، المسألة الأولى من الباب الأول من الكتاب الأول في الاستعاذة (الغد العربي 1/ 37).
(2)
التكييف هو اعتبارٌ في الشيء أو تصنيفٌ له، تعتبر عنه صفته أو اسمه مثلًا: العرب يعُدّون جَرْي الدابة (بَذْلًا) منها لمذخور قُوّتها، ومن هنا يصفون الفرس بأنه (جواد)، (سَكْبٌ)(فيض). إلخ، ويعدُّون رائحة الابل من الطُيوب (: الروائح العَطِرة) [ينظر المزهر 2/ 278] .. وهذا التكييف هو أحد أهم أسس اختلاف اللغات، فالعرب يصفون مَنْ عَدِمَ إحدى عينيه بأنه (أعور) من تركيب (عور) المعبِّر عن انكشاف ثغرة في الشيء، فمعنى (أعور) أن له بؤرة عين خالية. في حين أن الإنجليز يسمونه one-eyed (ذا عين واحدة) نظروا إلى العين الصحيحة، فاختلف التكييف. ينظر (علم الاشقاق) للمؤلف ص 151.
الحسبان -ولا يخفى أن استعمال العربي للفظ في معنى مُعَيّن هو الحجة- في هذا؛ لأن العربي هو أهل اللغة، وهو هكذا عبَّر بها عما في نفسه. وشأن العرب في هذا شأن أهل كل لغة. وعلماء اللغة القدماء عايشوا العرب، وعرفوا ما يقصدون بكلامهم: مفرداته وعباراته، فرصدوا ذلك في المعاجم. ودراسة علماء اللغة المتأخرين للاستعمالات العربية وتفسيراتها تتيح تحرير معانيها عند الحاجة إلى ذلك.
ثم إن كل لفظٍ مشتقٍّ من تركيب ما فإنه يحمل معنى ذلك التركيب أو فرعًا منه ضرورة؛ لوحدة الأصل التي هي خَصِيصةٌ للغة العربية (1)، ولأن ذاك هو معنى
(1) اللغة العربية تعد من أنقى اللغات التي نعرف أصولها -أعني من أقلها اقتراضًا للكلمات الأجنبية عنها؛ فقد أغنتها قابلها للصوغ المنضبط المتمثلة في كثرة صِيَغِها المحددة (نحو 400 صيغة) المرِنة الدلالات، مع اتساع قدرة أهلها على لمح مميزات الأشياء والمعاني، وسبك الألفاظ اتتي تعبِّر عنها اشتقاقًا أو ارتجالًا -ساعدها ذلك على الاستغناء عن الاقتراض من اللغات الأعجمة وما يسمَّى الساميات. فقد ذُكر في مقدمة (المعجم الوسيط) أنه يحتوي على أربعين ألف كلمة. وقد أحصيت الكلمات المعَرَّبة والدخيلة فيه فلم تبلغ ألف كلمة. أي أن نسبتها فيه لا تزيد عن 2.5 في المئة. ويؤكد ذلك أن "جامع التعريب "للبشبيشي (ت 820 هـ / 1417 م)، وهو مخطوط حققه د. محمود عبد العزيز عبد الفتاح -تحت إشرافي- بلغت كلماته سبع مئة وألف كلمة. وهو (جامع) كما ترى، ومعرَّباته هذه تقف إزاء كلمات العربية كلها. فالمفروض أن سائِر كلمات العربية نَقِيُّ العروبة. ولا شك؛ أن المعرَّبات زادت بعد هذا (الجامع)، لكنها في ضوء ما ذكرنا عن الوسيط وجامع التعريب لن تصل نسبتها إلى خمسة بالمئة، فتكون نسبة النقاء 95 في المئة على أقل تقدير. وفي مقابل هذا فإن إحصاءً لأحد معاجم الفرنسية بين أن الكلمات الأصيلة فيه لا تصل إلى خمسين في المئة من كلماته. ينظر: من أسرار اللغة د. إبراهيم أنيس (ط 6) ص 120. والإنحليزية ليست أحسن حالًا من الفرنسية في هذا.
الاشتقاق. وبذا تبيَّن وجهُ صحة قول الفخر الرازي إن الاشتقاق هو أكمل الطرق في تعريف مدلولات الألفاظ.
يضاف إلى ذلك أن الاشتقاق يُعَدُّ فيصلًا في الحكم بعروبة اللفظ؛ فقد "أطبقوا على أن التفرقة بين اللفظ العربي والعجمي (تكون) بصحة الاشتقاق "(1) أي أن اللفظ المشكوك في عروبته تثبت عروبته -إذا كان على إحدى صيغ العربية- بصحة اشتقاقه من لفظ صحيحِ العروبة، بأن يكون معنياهما متجانسين. ووجهُ ذلك (الإطباق) أن المأخذ الاشتقاقي (= اللفظ الذي تُشتق منه كلمات أخرى) له معنى عربي وأريج عربي (= رائحة البيئة). فإذا تناسب اللفظان في المعنى وأريج البيئة، وكان أحدهما ثابت العروبة، كان ذلك المناسب دليلا على عروبة اللفظ الآخر.
-والسبيل إلى تحرير المعنى الدقيق لكل مفردة من المفردات القرآنية بالاشتقاق تخطِّيًا للخلاف اللفظي (والأقوى من اللفظي في حالة المشترك): هو إيجاد ضابط، أي معيار، يوزن به ويُطمأن إلى سلامة تحديد معاني المفردات القرآنية. ومن البَدَهيّ أن يكون ذلك المعيار مستمَدًّا من لغة العرب، أي من كلمات اللغة العربية وعباراتها؛ لأن القرآن نزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} .
- وقد تبين لعدد من أئمتنا المتقدمين من العلماء باللغة العربية الاشتقاقيين (2)، ومن العلماء بمعاني المفردات القرآنية (3)، أن كل أُسْرةِ كلماتٍ، أي كل تركيب
(1) الكليات، لأبي البقاء الكَفوي (تح. د. عدنان درويش، محمد المصري، مؤسسة الرسالة ص 117).
(2)
أقصد في المقام الأول: الزجّاج (ت 310 هـ)، وابن فارس (ت 395 هـ).
(3)
كالراغب الأصفهاني (ت 425 هـ تقريبًا) في المفردات، والسمين الحلبي (ت 756 هـ) في كنز الحفاظ.
بمفرداته (أي كلماته كلها قياسيةً وغيرَ قياسية) له معنى محوري جامع. وقد ثبت لمؤلف هذا المعجم ثبوتًا علميًّا صحة هذا الذي تبينه عدد من أئمتنا، كما ثبت له أن هذا المعنى المحوري الجامع يكون معنى واحدًا لا يتعدى (1). وكان ذلك من خلال معالجةٍ تطبيقية لما يقرب من (2300) ألفين وثلاث مئة تركيب شملت جميع كلمات كل تركيب. فهذا المعنى المحوري الجامع هو الضابط وهو المعيار الذي نحتكم إليه في تقرير ما هو الدقيق من تفسيرات الأئمة للمفردة والعبارة القرآنية، أو قولهم إنه المراد بها (2)، وفي تقرير ما اخترناه أو عدّلناه من الأمرين (: التفسير والمراد) وإنما كان هو الضابط؛ لأنه مُستخلَص من كل الكلمات والعبارات التي وردت عن العرب في هذا التركيب، فالمفروض أنه يحمل معنى جامعًا لمعاني كل مفردات التركيب، ذا مذاق خاص به -بحيث يصلح أن تُفسر به كل كلمات التركيب وعباراته. ومن هنا كان لزامًا أن أبيِّن في هذا العمل وجهَ تحقق هذا المعنى المحوري في كل استعمالٍ لهذا التركيب أوردتْه المعاجم.
- وتوضيحًا لمعنى "أسرة كلمات "نقول: إن كلمات اللغة العربية جِدُّ كثيرة، لكنها تتجمع في مجموعات هي التي سمياها أُسَرًا. والأسرة الكلمية تشميتها المشهورة هي (مادة)، وتسميتها المستعملة في هذا المعجم هي (تركيب).
- والذي يقضي بأن آية مجموعة من الكلمات تُعَدُّ من أسرةٍ كلمية واحدة، أي
(1) الإمام ابن فارس كان كثيرًا ما يردُّ استعمالات التركيب الواحد إلى معانٍ متعددة، والإمام الراغب الأصفهاني كان عملُه يتيح ذلك التعدد. وفي هذا المعجم الذي بين يديك التزمت بوحدة المعنى المحوري.
(2)
لكن في حالة (المراد) فإن جانبًا من الدقة يتمثل في كون ذلك المراد غير خارج عن دائرة المعنى اللغوي للتركيب.
من تركيب واحد، هو أن تكون كلٌّ من تلك الكلمات مكونة من أحرف أصلية بعينها، مرتبةً ترتيبًا معينًا. فمثلًا تركيب (كتب) مكون من (ك+ ت+ ب) بهذا الترتيب -بصرف النظر عن الأحرف الزائدة التي قد تتخلل أو تنضم إلى هذه الأحرف الثلاثة. فتركيب (كتب) هذا يضم الأفعال: كتب، كتَّب، أكتبَ، كاتبَ، تكاتبَ، تكتَّبَ، انكتبَ، استكتبَ
…
، وكلٌّ من هذه الأفعال له مصدر أو مصادر، واسما مرةٍ وهيأةٍ (1)، وأسماء فاعل، ومفعول، وتفضيل، ومكانٍ وزمان، وآلة، وصفةٌ مشبهة، وصفاتُ مبالغة، وأفعالُ تعجُّب. وكل هذه الكلمات هي من مفردات تركيب (كتب)، وهي قياسية أو كالقياسية، وهناك من كلمات هذا التركيب أيضًا ما هو غير قياسي، وهو كثير كذلك.
إن المعنى المحوري للتركيب إذا أُحكم استخلاصه، فإنه يمكننا من إحكام تفسيرنا لمفردات التركيب في سياقاتها القرآنية، ويمكننا كذلك من تقويم التفسيرات المَرْويّة للفظ؛ لنختار منها ما نطمئن إلى صحته، ونستبعد ما يتجافى مع المعنى المحوري. وهذه جدوى بالغة القيمة؛ لأن كثيرًا من الألفاظ رُويت لها تفسيرات مختلفة، ولا يسعنا الاختيار العشوائي، وبخاصة إذا كان السياق يسمح بأكثر من تفسير. وهذا المعنى المحوري هو أهم مستويات التأصيل هنا.
وبهذا الاستشعار لقيمة المعنى المحوري، ولأن مجال تطبيقه هنا هو مفردات القرآن الكريم، فقد حشدتُ لصياغته كلَّ الخبرة والصبر، وراجعتُ -عند التطبيق على المفردات القرآنية- أقوال المفسرين؛ لأميز ما ينبغي الأخذ به في تفسير المفردات القرآنية في سياقها؛ فآخذ به، أما ما ينبغي أن يُستبعد؛ فلا أشغل القارئ
(1) أخذت بهذا الرسم للهمزة تقليلًا للمستثنيات من القواعد. وهذا هو أساس كل مخالفة لقواعد الرسم الإملائي في هذا المعجم.
به، وما كان له وجهٌ ضعيف فإني أذكره مؤخَّرًا أو أُغفله، وتحديد موضع المراجعة يتيحها، ويمنع التثريب.
إن التوثق من أن معنى مفردة أو عبارة قرآنية هو كذا، أو ليس كذا = هو حقُّ الله تعالى مُنزِل القرآن، وهو حق القرآن، وحق المسلمين، وحق اللغة العربية أيضًا؛ لأن معنى الكلمة القرآنية تعتمد عليه المقررات والأحكام العَقدية والتشريعية التي أرادها الله تعالى بالتعبير بتلك المفردات أو الكلمات العربية في قرآنه الكريم.
ومن هنا، وإمعانًا في التوثيق والتأصيل جئت -على رأس كل تركيب عالجتُه في هذا المعجم الاشتقاقي- بشيئين قبل أن آتي بمعاني المفردات القرآنية:
أولًا: مجموعة من الكلمات والعبارات الواقعية، أي التي استعملها العرب فعلًا في عصر الاحتجاج في نثرهم وشعرهم، وأثبتها اللغويون في المعاجم القديمة، مع تفسير علماء اللغة المتقدمين لها. وذلك بيانًا للاستعمالات اللغوية العربية التي استنبطنا منها المعنى المحوريَّ الجامع الذي سنتحدث عنه في الفقرة (ثانيا) الآتية.
وقد تحريت في كل مجموعة جئت بها على رأس التركيب أن تكون من الاستعمالات المادية الحسية التي ذكرتْها أوثق المعاجم العربية وبخاصة: لسان العرب وتاج العروس (1)، وإنما اخترنا الاستعمالات الحسية خاصة؛ لأنها أوضح في
(1) أوسع المعاجم العربية: (أ) تاج العروس فهو شرح للقاموس الذي هو أجمع المعاجم العربية للمفردات ومعانيها، وقد أضاف إليه الشرح المزيد من المفردات والمعاني. (ب) لسان العرب وهو يكاد يجمع أكبر معاجم العربية في القرون الهجرية الخمسة الأولى جمعًا مباشرًا بالنسبة لتهذيب اللغة للأزهري والصحاح للجوهري والمحكَم لابن سيده، وغير مباشر بالنسبة للعين من خلال التهذيب، ويضم لسان العرب -إضافة لما سبق- معجم "النهاية في غريب الحديث والأثر "، لابن الأثير، وحواشي ابن بري على صحاح الجوهري ولسان العرب تتميز مادته بالوضوح والوثاقة؛ لأن مادته مصحوبة بسياقاتها.
معانيها وأبعد عن الهلامية، كما أنها أثبتُ وأوضحُ في استخلاص المعاني المحورية منها. والعلماء الذين فسَّروا تلك الاستعمالات هم من الذين عاصروا عربَ عصر الاحتجاج في البادية، أو كانوا أقرب ما يكون إلى معاصرتهم وفهمِ معاني كلامهم وما يقصدون منه.
والقصدُ من تقديم ذكر المفردات والعبارات العربية التي حددنا نوعها أن تكون تلك الاستعمالات أمام الدارس مباشرةً؛ ليرجع إليها ويتوثَّق بنفسه من صحة ما استخلصناه منها في المعنى المحوري، وليتيسر له نقد استخلاصنا، أو نقد التعبير عنه، إذا شاء. وهذا تأصل لأساس استنباط المعنى المحوري.
إن مسئوليتي في فقرة الاستعمالات العربية هذه تنحصر في اختيارها، وقد اخترتها على أساس أنها حسية -كما قلت، وحَرَصتُ على أن تكون مغنيةً عن غيرها، فإذا تعدد التعبير عن المعنى نفسِه اخترت من كل تعبير ما يكون جامعًا، وأفصِل بين التعبيرات المختارة عن المعنى الواحد بشرطة مائلة هكذا /، مستمِدًّا من لسان العرب أساسًا، وأحيانًا من تاج العروس. والتزمتُ بنص ما أخذته، وعزوتُه. وإنما التزمتُ بنص ما أخذته من المعاجم في نطاق الاستعمالات الحسية دون أي تغيير؛ لتظل لما نقلتُه حُجِّيتُه؛ لأن المعاني المحورية تُستنبط منه. فإنه إذا غُيِّر عما هو به في للعاجم سقطت حُجيته، وصرنا إلى وضع مزيف: نختلق كلاما نعزوه إلى العرب، ثم نستنبط منه معنى محوريًّا ندّعي أنه مستنبَط من كلام العرب -نعوذ بالله من كل زيف. لقد عدَدتُ كلامَ العرب الوارد في المعاجم القديمة نصوصًا كالمقدسة، وتفسيرَ علماء اللغة له يليه في القداسة.
ثانيًا: المعنى المحوري الجامع لمعاني الكلمات والعبارات التي استعملها عرب عصر الاحتجاج من هذا التركيب. وهو كما قلت مستخلص من الاستعمالات التي أوردتها في الفقرة (أولًا) المذكورة قبل هذا. وهذا الاستخلاص جهدي أنا بناءً على
خبرة ومعايشة طويلة لكلام العرب في الشعر الجاهلي وما بعده إلى آخر عصر الاحتجاج، وفي المعاجم القديمة الأصيلة.
وقد اعتمدتُ في استخلاص المعاني المحورية للتراكيب من استعمالاتها العربية التي تحدثتُ عنها في الفقرة (أولًا) -على المَلاحظ المشتركة بين هذه الاستعمالات الحسية. وكان للاستعمالات المعنوية -أعني غير الحسية- سهمُها في هذا الاستخلاص، وهو أنها تلفت إلى هذه الملاحظ.
إن الملاحظ المشتركة التي يبنى عليها استخلاص المعنى المحوري قد تكون صريحة مباشرة، كأن تكون صفةً بعينها متحققة في كل الاستعمالات الحسية التي اخترناها: طولًا أو قصرًا، سَعةً أو ضيقًا، خفةً أو كثافة، ضخامةً أو دقة جسم، صفاءً أو شَوبًا
…
الخ. وهنا يكون الأمر قريبًا، أعني أنه يُلحَظ بأدنى تأمل (1). ولكنه في كثير من الأحيان يكون غامضًا يحتاج إلى فضل تأمل وإلى تأويل ينبغي أن يُحذر فيه من التكلف. وهنا يتحول الأمر إلى إدراك العلاقاتِ بين المعاني المختلفة لكلمات التركيب. وإدراك العلاقات بين معاني كليات التركيب هذا، هو قوام الجانب الاشتقاقي في هذا المعجم.
ولتمثيل المعنى المحوري باختصار نقول: إن تركيبَي (عصو عصى) أوضح استعمالاتهما المادية هي "العصا "المعروفة، وقد عرّفها المعجم بـ "العُود "، والمقصود عُود الشجر أي الغصن منه الذي جف واتُّخذ عصا. وهناك ما حُمل عليها مثل "عصا الساق: عظْمها تشبيهًا بالعصا "، ثم قالوا: "عصا الشيء: إذا صلُب، اعتَصَت النَواةُ (2): اشتدت، عَصَوْت الجُرْحَ: شدَدته "؛ فالمَلْحَظ في تسمية العصا وعظم
(1) ينظر تاج العروس (لمم) مثلًا.
(2)
عن عدم وضع شدة على النون تنظر ص 48 هنا رقم (5).
الساق هو صلابتها مع امتدادها. وسائرُ ما في التركيبين كله من العصيان: ضد الطاعة. فما المعنى الجامع بين العصا والعصيان؟ الجامح هو الصلابة كما تتمثل في طبيعة العصا، ثم كما تتمثل في صلابة من يعصي ربَّه أو أميرَه، بمعنى أنه يجمُد ويَصلُب على موقفه وعلى ما يريد هي، لا يطيِع ولا ينثني إلى ما أراده منه ربه أو أميره. هذه العلاقة بين العصا والعصيان هي الاشتقاق. والتعبير عن المعنى الجامع بين معاني مفردات التركيب هو المعنى المحوري.
وعلى ذلك فالعصيان مأخوذ من معنى الصلابة، والصلابة تتمثل في حال العصا، وفي عظم الساق، وفي النوى الصُلب، وفي شَد الجرح (عَصبِه). واختار العرب التعبير عن العصا بهذه الأحرف (ع+ ص+ و) حسب ذوقهم للغتهم بحروفها في كل مواقع تلك الحروف. فإذا تعددت الاستعمالات اللغوية الحسية فالأصل أحدها: تعيينًا أو بلا تعيين، أو بعضُها أو كلها، هذه مسألة محدودة الأثر. وتمثيلًا للتكلُّف الذي حذرنا منه أن بعضهم قال:"أصل العصا: الاجتماع والائتلافُ، أخذًا من قولهم عصوتُ القومَ أعصوهم: إذا جمعتَهم على خير أو شر ". ثم لما أراد قائل هذا أن يبين سر تسمية العصا باسمها قال: "سُميت العصا عصا لأن اليد والأصابع تجتمع عليها "(1) يعني عند إمساكها. وقد أسلفنا أن العصا سُميت كذلك لصلابتها مع امتدادها. أما قولهم: "شَقَّ عصا المسلمين: أي جماعتهم، وكذلك عصوت القوم: جمعتهم "فلأن الجماعة قوة وصلابة.
وفي مثلٍ آخر نقول: إن (المرح) معروف أنه النشاط والخفة. وفي تركيب (مرح) من الاستعمالات الحسية "مَرِحتْ العينُ: اشتد سيلان دمعها. المَرَح: خروج
(1) ينظر لسان العرب (عصا).
الدمع إذا كثُر. مزادة (: قِرْبة) مَرِحة: لا تمسك الماء، (1)، فالمعنى المحوري الجامع هو: تسيُّب ما بالباطن وعدمُ ضبطه. فالأصل والمفروض أن العين تضبط دمعها، فلا ينساب إلا عند المناسبة المُبكية، وأن القِربة تضبط الماء المحتوَى فيها فلا يتسرب. لكن الذي أمامنا أن العرب كانوا إذا رأوا عين أحدٍ من الناس يسيل منها الدمع كثيرًا دون مناسبة، أو قِربةً يتسرب منها الماء الذي بداخلها من ثقوب دقيقة في جلدها -وصفوا كلًّا منهما بأنها "مَرِحة "، وعَبَّروا بالفعل من نفس التركيب فقالوا:"مرِحت العينُ ومرِحت القربة ". فأخذتُ أنا من هذا ومن سورة المرح (النشاط) أن تركيب (مرح) يعبر عن تسيب المختزَن في الباطن وعدم ضبطه. ونحن نرى بأنفسنا أن الإنسان في حالة مَرَحِهِ يتخلى عن وقاره وانضباطه، وكثيرا ما يأتي ما لا يليق به. وفي أحد تعريفات المرح أنه شدة الفرح والنشاط حتى يجاوز قدره (2)، ومن هنا نُهي عنه إذا كان عن اختيال {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} (3).
وفي مَثل خفيف أخير نعلم أن الرَبوة من الأرض بقعة مرتفعة عن مستوى ما حولها، أي زائدة عنه إلى أعلى، وأن الرِبا الذي حرَّمه الله تعالى هو زيادة يفرضها صاحب المال على المقترِض مقابل فك عسرته؛ فالمعنى المحوري لتركيب (ربو) هو: الزيادة أو الارتفاع عن الأصل أو المعتاد، كما ترتفع الربوة عن مستوى ما حولها من الأرض، ومستوى الأرض هذا هو الأصل؛ لأنه المعتاد الطبيعي، كما أن الربا زيادة على المبلغ المقترض الذي هو الأصل. والزيادة من جنس الارتفاع.
ولا يخفى -بعد ما قدمناه- أن استخلاص المعنى المحوري لكل تركيب هو أعوص ما في هذا العمل: من حيث إنه مبني على إدراك علاقات، ومن حيث إن
(1) نفسه (مرح).
(2)
نفسه (مرح).
(3)
الإسراء 37، لقمان 18، والفعل في سورة غافر 75.
هذه العلاقات لا بد أن تُبيَّن مع خلوِّها من التكلف، ومن حيث إن هذه العلاقات لا بد أن تكون متَّسقة مع تكييف العرب ونظرتهم لأمور حياتهم بكل ما فيها، ثم من حيث إن المعنى المحوري المستخلَص لا بد أن تكون صياغته جامعةً (تصلح أن ينضوي تحتها معنى كلٍّ من مفردات التركيب)، ومحرَّرةً (بأن تكون خاصةً بهذا التركيب ومفرداته)، وموجزةً؛ ليمكن التعبير عن المعنى المحوري للتركيب بجملة واحدة. ومن هنا فإن كل كلمة في عبارة المعنى المحوري هي مقصودة، ويمكن أن يقربها لفظٌ أو أكثرُ من مفردات التركيب.
ثالثًا: بعد الأمرين السابقين جئتُ بمعاني مفردات كل تركيب قرآني في سياقاتها -مع بيان وجه انضوائها تحت المعنى المحوري وانتمائها إليه- وهذا مستوى آخر من التأصيل. وقد التزمتُ في استقراء المفردات بالقدر الذي رجَحت أنه كافٍ -سواء كان السياق قرآنيًّا أو كان لغويًّا ليس من النص القرآني الكريم. وفي حالة السياق القرآني فإني أختار من المعاني التي تذكرها التفاسيرُ ما أعتقد أنه الأوْلَى أن يفسَّر به اللفظ القرآني في سياقه. وقد آتي بمعنًى لم تذكره التفاسير إذا اطمأننت إلى أنه الأدق أو الأوْلى بتفسير اللفظ الكريم. وقد حرصت على أن أعزو ما أخذته من التفاسير إليها، وكذلك ما كان من لسان العرب أو غيره من المعاجم، كما ميزتُ ما كان من كلامي أنا تحملًا للمسئولية. وأسأله تعالى مغفرةَ ما يمكن أن يكون فاتني من ذلك التمييز. ولم أترك من المفردات القرآنية إلا أسماء الأعلام الأعجمية، وربما بعض أحرف المعاني، وأسماءَ الإشارة والموصول والشرط.
رابعًا: جئت ببيان العلاقة في المعنى بين تراكيب الفصل المعجمي الواحد. والفصل المعجمي يتمثل في التراكيب التي تبدأ بحرفين بعينيهما مرتَّبَيْن، سواء كانت تلك التراكيب ثلاثيةً أو رباعة. وقد ألحقنا بهذا الفصل ما توسَّطَ الحرفين فيه أو سبقهما أو تلاهما فيه حرفُ علة أو همزة، (مثلًا: بيان أن التراكيب: بدد، بدو، بيد، بدأ، أبد، بدر، بدع، بدل، بدن -وهي كلها من فصل (بدْ) - كلٌّ منها كلماته تعبر عن سورة من
الفراغ والاتساع -وما إلى ذلك- بين الأشياء). ومعنى الفصل المعجمي هذا لفتَ إليه عدد من الأئمة في فصول جِدِّ محدودة، على ما سأفصّل في المبحث التالي. لكن دراستنا هذه كشفت اطِّراده، فكان من حق لغة القرآن ودارسيها، وحقِّ علماء اللغات أن نبرز هذه الخصيصة للغة العربية. وهذه الدراسة أحق بها؛ لأن هذه الخصيصة لا تثبت إلا بتطبيقٍ موسَّع كالذي نحن فيه، فالتقطناها حتى لا تضيع، وقد عزلنا سورة اطرادها في كل فصل في فقرة خاصة في آخره، لمن شاء أن يدرسها أو يغفلها.
وتفصيل ذلك أنه تكشَّف لنا في أثناء الدراسة التي ذكرنا أمرها من (أولًا) إلى الآن: أن الحرفين الأول والثاني الصحيحين بترتيبهما من كل تركيب، وهما اللذان سميتهما الفصل المعجمي = يستصحبان المعنى الذي كانا يعبران عنه، وهما في صورة الثلاثي المضعَّف (فتّ) مثلًا، عندما يتصدران ثلاثيًّا منبسطًا، أو يشتركان في بناء ثلاثي منبسط تكوَّن منهما مع ثالثٍ غير ثاني المضعفين (فتح، فتر، فتش، فتق، فتك، فتل، فتن، فتو، فتى، فتأ) في هذا المثال، بل إن ذلك المعنى يظل معهما بصورةٍ ما، حتى لو سبقهما أو توسطهما حرفُ علة أو همزة، كما في (فوت) هنا، ولا يوجد تركيب (أفت ولا فأت) في هذا المثال.
وأمرُ اطِّراد معنى الفصل المعجمي هذا له إيضاحات:
الأول أنه من الطبيعي أن المعنى الذي كان الثلاثي المضعَّف يعبر عنه لا يوجد كاملًا في الثلاثي المنبسط الذي مثلنا له؛ لأن في الثلاثي المضعف حرفا مكررا هو الثاني والثالث، وهذا التكرار له قيمته في التعبير عن المعنى. في حين أن في الثلاثي المنبسط من التركيب المضعف حرفين فقط ("فت "مكون من ف+ ت+ ت، و "فتح "مكون ف+ ت+ ح). وبذا فإن المعنى الذي تعبر عنه (فت) يوجد ثلثاه فحسب في (فتح) وهكذا الأمر في (فتر)
…
إلخ .. وهذا واضح وطبيعي؛ لأن لكل حرف في هذه اللغة قيمته. كما سأذكر قريبا هنا.