الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيضاح الثاني أن الحرف الثالث (الحاء في فتح مثلًا) له هو أيضًا معناه. وسيأتي الكلام عن معاني الحروف مفصَّلًا.
الإيضاح الثالث أن معاني الأحرف التي يتكون منها التركيب تتفاعل معًا حسب معنى كلٍّ منها، وحسب موقعه في التركيب، أي كونه هو الحرف الأول أو الثاني أو الثالث. والمعنى الكامل لأي تركيب أو كلمة من تركيب هو حصيلة هذا التفاعل. ولا شك أن العرب كانوا يشعرون بالمعنى الجُملي الذي هو حصيلة هذا التفاعل عندما اختاروا كل لفظ من أحرف معينة، بترتيب معين، ليعبر عن معنًى بعينه: تسميةً لشيء مادي في البيئة، أو قوليةً صوتية لمعنى في نفوسهم. والفصل المعجمي هذا مستوى بالغ الأهمية من مستويات التأصيل للألفاظ والمعاني في هذا المعجم.
خامسًا: جئت -في أول معالجة كل فصل معجمي- ببيان معنى كل من حروف الهجاء المشتركة في بناء ذلك الفصل وتراكيبه. (وسيأتي قريبا تفصيل ذلك). وهذا هو المستوى الأخير من التأصيل في هذا المعجم.
تأصيلٌ تاريخيّ لفكرة الفصل المعجمي:
إن اطِّراد معنى الفصل المعجمي في التراكيب الثلاثية المصدرة به قد سبق إلى ملاحظته ثلاثةٌ من الأئمة، لكن في نطاق بالغ المحدودية. فالإمام أحمد بن فارس (ت 395 هـ) نبه على ذلك في تركيب (زلل)، في معجمه: مقاييس اللغة، والإمام محمود بن عمر الزمخشري (ت 538 هـ) نبه على ذلك في تركيبي (نفق)، و (فلح)، وذلك في تفسيره "الكشاف "، عند كلمتي (ينفقون) و (المفلحون) في أول سورة البقرة، والإمام شهاب الدين محمود الآلوسي (ت 1127 هـ) تبع الزمخشريَ في ملاحظته على التركيبين، ثم نبه على مثل ذلك في تركيب واحد (حسب اطلاعي) عند كلمة "دلوك "في قوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ} [الإسراء: 78]. وكلام ابن فارس والزمخشري كالإشارة فحسب ط وكلام الآلوسي عن الدلوك
زاد فيه أمثلة التراكيب الثلاثية. لكن لا أحد من الأئمة الثلاثة نبه إلى اطراد الظاهرة، أو إلى أن التراكيب الثلاثية من الفصل المعجمي يتأثر المعنى العام لكل منها بالحرف الذي يَثلِثها. وفي أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين الميلاديين تطرق إلى فكرة الفصل المعجمي -من حيث هي سورة لثنائية الأصول اللغوية- ثُقة من كبار لغويي العربية (1) في بحوثهم عن الصورة الأولى لنشأة اللغة. لكن شابت معالجاتِهم أمور تقدح في علميتها:(أ) ادعاء الإبدال والقلب كثيرا، بلا سند؛ من أجل تأييد الفكرة، (ب) افتراض إضافة أحرف- في مواقع كثير مطردة لتكوين الثلاثيات وما فوقها، (ج) الانتقائية، والبعد عن الاطراد في التطبيق، (د) إغفال بيان وجه تقارب المعاني في ما ادَّعَوْا فيه ذلك
…
وبذلك كله كان قسط هذه الحقبة في التأصيل لفكرة الفصل المعجمي محدودا.
وقد وضح أثر تلك المحدودية في اقتصار لغوي أواسط القرن العشرين وآخره على عدد جِدّ محدود من أمثلة الفصل المعجمي يتمثل فيها اطراد معناه - دون سائر ما تناولته أو أثارته جهود الحقبة المذكورة.
أما هذا العمل الذي بين يديك أيها القاريء الجاد، فإن التطبيق الموسع في السعي لبيان معاني ألفاظ القرآن الكريم بيانا موثقا، هو الذي أبرز -بل فَرَضَ- فكرة الفصل المعجمي فيه، وحدّد معالمها، حيث اتضح به أن قسط الحروف الصحاح في التعبير عن المعاني أعظم من قسط حروف العلة والهمزة، وأن بناء فصل معجمي شطره أحد حروف العلة يصعب معه بروز معنى مشترك مطرد، فتجنبت بناء هذا النوع. وقد استوفى هذا العمل (أ) سعة التطبيق (بيان المعنى المحوري لحوالي 2300 تركيب، تحديد المعنى المشترك لتراكيب نحو 370 فصلًا معجميا .. (ب) مع بيان وجه انضواء كل استعمال (أورده القرآن أو المعاجم
(1) أعني الشدياق والكرملي والدومينكي وزيدان واليازجي والعلايلي.
اللغوية) تحت المعنى المحوري لتركيبه، وكذلك وجه تحقق معنى الفصل المعجمي في معنى كل من تراكيبه - مع البعد عن التكلف. (ج) انتفاء الانتقائية بالالتزام بمعالجة كل تركيب وردت منه كلمة في القرآن الكريم. (د) ومع الاطراد في بيان معنى التركيب، والمعنى اللغوي والصوتي للحرف الألفبائي. ثم إني رأيت أن أبرز الفكرة تطبيقيا باستثمار سعة معالجة معاني المفردات القرآنية، وذلك بعرض معالجة تراكيب تلك المفردات في سورة فصول معجمية، وأن ذلك أولى من إغفال الفكرة وتضييعها، وأقرب من عزلها بالمعالجة مع تكرار التطبيق. وشجع على ذلك أن استدراك ما يُعَدّ مخالفة للجاري في عصرنا في اطراد ترتيب التراكيب في المعجم حسب الترتيب الألفبائي = متاحٌ: باستيعاب طريقة ترتيب التراكيب في هذا المعجم، وبمسرد التراكيب (الفهرس).
…
• إن تبيُّن صحة فكرتَيْ المعنى المحوري والفصل المعجمي وتحققهما باطراد في آلاف التراكيب ومئات الفصول المعجمية = لا يفسَّر إلا بوجود ارتباط علمي يقيني بين الألفاظ ومعانيها بصورة مجملة، ثم بين مكونات الألفاظ ومعانيها بصورة مفصَّلة. ومكونات الألفاظ هي الحروف الألفبائية. إن اطِّراد معنى التركيب ذي الأحرف المعينة بترتيب بعينه - في مفردات هذا التركيب يثبت ارتباطًا محدودًا بين أحرف هذا التركيب ومعناه [كلما وُجدت أحرف كذا بترتيب معين وُجد معنى كذا = كلما وُجد (أ) وجد (ب)]. ثم إن اطراد ذلك في آلاف التراكيب (حيث لا بد أن تستعمل كل أحرف الهجاء، وفي كل المواقع: صدرًا ووسطًا وآخِرًا ضرورةً، تفاديًا للتكرار) -مع اطِّراد تغير المعنى تبعا لتغير الحروف ولتغير مواقعها = كل ذلك يثبت أن لكل حرف ألفبائي معنى مستقلًّا، وبخاصة مع ثبوت التلازم بين جنس المعنى ووجود الحرف. واطرادُ سورة من معنى الحرف المعين، ومن
معنى الفصل المعجمي في ثلاثياته، مع وجود مقابل الحرف الثالث، هو أيضًا يثبت أن لكل حرف ألفبائي معنى مستقلًّا. ثم تبين إمكان ربط معنى الحرف بجرسه الصوتي، وخصائصه الصوتية المتمثلة في مخرجه، وكيفية خروجه بصفاته؛ فحاولت تحديد ذلك أخذا بالأصل، وهو التعبير لا العشوائية. وهذا التعبير هو ما يُسَمى المناسبة بين أصوات اللغة ومعانيها، وقد سبق إلى بيانه وإثباته الإمام ابن جني (1). هذا مع كون المعنى اللغوي للحرف ومناسبته صوتيا لمعناه متعدِّدَي الصور، في نطاق المعنى نفسه والمناسبة (2). وذلك طبيعي، لاشتراك الحرف في تراكيب بالغة الكثرة، متنوعة المعاني. وقد حددنا لكل حرف معناه؛ تحقيقا وخروجا عن الهلامية.
وبثبوت ذلك كله بما يشبه رَأْيَ العين، فإنه ما كان يسوغ لي ولا لغيري أن يغفل هذه الخصيصة للعربية، فتندفن وتغيب عن أهلها -في حين أنها حق العربية، وحق لأهلها، وهي من ذكرهم الذي امتن الله به إذ أنزل القرآن بالعربية {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)} [الزخرف: 44].
• وحرصًا على الهدف الأساسي للمعجم عزلنا المعالجة التطبيقية لبيان المعاني اللغوية والصوتية، حرف الفصل مطبقة في تراكيبه، لتكون في حاشية في أول كل فصل معجمي، فيبقى المتن خالصًا لمعنى كل تركيب من تراكيب الفصل، مع التطبيق على مفردات كل تركيب في سياقاتها القرآنية وغير القرآنية. وذيّلنا متن الفصل بالمعنى المشترك بين تراكيب الفصل، مع إيجاز سورة تحقق ذلك المعنى في كل تركيب.
(1) ينظر (الخصائص) لابن جني. تحـ الشيخ محمد على النجار 2/ 145 - 168، والمزهر 1/ 47.
(2)
أعني نسبه تحقق المعنى وتنوع صوره. مثلا تماسك العجين عند إجادة عجنه في قول سيدنا عمر: "املكوا العجين "يعدُّ من باب الشدة والاشتداد، واستعمل له الفعل (ملك) كما استعمل في قول الشاعر (ملكت بها كفي فأنهرت فتقَها) الضمير في (بها) للقناة (الرمح). فإمساك الرمح للطعن به يكون في غاية الشدة، لكنهم استعملوا له نفس اللفظ المستعمل لتماسك العجين: ملك. أما تنوع صور المعنى الواحد فسيتكشف لدارس المعالجات هنا.