الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أثر ترتيب حروف التركيب في معناه
ما ذكرناه من معاني الحروف بأن حددنا لكل حرف ألفبائي معنى لغويًّا لا يعني أن التركيب مجمل المعنى اللغوي الكامل لكل حرف من حروفه بحيث يكون معنى التركيب هو مجموع معاني حروفه. كلا، فنحن لا نقول بهذا؛ ذلك أن الدراسة التطبيقية بيَّنتْ أن ترتيب موقع الحرف بين حروف التركيب له تأثير قوى في معناه المحصَّل في التركيب: فقد يبقى معنى الحرف كما هو، وقد يتأكد ويتقوى بما مجاوره، وقد يضعف معنى الحرف بتأثير معنى الحرف الذي يسبقه أو يليه في التركيب.
وتقريبًا لهذا الأمر فإني أشبه مسألة أثر الترتيب هذه بترتيب خلط المواد المكونة لشرابٍ من عصير الليمون المُحَلَّى؛ فالمواد هي ماء وسكر وعصير ليمون: فإذا وضعنا عصير الليمون أولًا على الماء فإنه يختلط به، ثم إذا جئنا بالسكر ووضعناه على ذلك الخليط فإنه لن يذوب كله في خليط الماء والليمون، بل ربما لا يذوب منه إلا القليل، وبذا سيكون طعم الخليط قليل الحلاوة. أما إذا خلطنا السكر بالماء أولًا وقلّبناه حتى ذاب، ثم وضعنا عصير اللمون فإن عصير الليمون سيختلط بالماء المحلَّى اختلاطًا تامًّا، وبذا ترتفع درجة حلاوة المشروب المذكور. أي أن حصلية خلط الماء بالسكر والليمون تغيرتْ بسبب ترتيب خلط المواد -أيُّها يُخلط قبل الآخر. فكذلك الأمر في تكوُّن تركيب لغوي من مادة ثلاثة أحرف مثلًا -أي أنه بتغير معناه بتغير أسبقية الحرف المعين في صياغة التركيب.
وقد كنا تعرضنا لمسألة أثر ترتيب حروف التركيب في معناه عند مناقشتنا نظرية ابن جني في الاشتقاق الأكبر (1) (وهي تتطابق في أهم وجوهها مع مسألتنا
(1) أفردت لـ "علم الاشتقاق "كتابًا مستقلًّا نشرته "مكتبة الآداب "وقد احتوى (ص 247 - 268) على تقويم مفصل لنظرية ابن جني هذه، فراجعه إن شئت.
هذه) حيث زعم -غفر الله لنا وله- أن تقاليب المادة الثلاثية (مثلًا)، وهي ستة، تعطي كلها معنى مشتركًا بينها جميعًا يوجد في كل تركيب منها، ومثّل لذلك بمادة (ق ول)، فزعم أن تراكيبها (قول / قلو / وقل / ولق / لقو / لوق) كلها تدل على معنى "الخفوف والحركة "، وأن هذا المعنى متحقق في كل منها على حِدَة، كما مثل بمادة (ب ج ر) زاعمًا أن تراكيبها (بجر / برج / جر / جرب / ربج / رجب) كلها تدل على القوة والشدة. وكذلك فعل في مثال مادة (ك ل م). وقد ناقشنا هذه النظرية حتى نقضناها. وكان من مناقشتنا التطبيقية لها أن شرحنا معاني تلك التقاليب الثمانية عشر وبيّنا عدم تطابق معنيي أي تركيبين من أي مادة من المواد الثلاث، وأن أقصى ما هناك أن يتقارب معنيا تركيبين فحسب، وأن تقارب معاني التراكيب الستة هو مجرد دعوى وتكلف وخِلابة، دفع إليها طغيان الفكرة على ذهن ابن جني رحمه الله.
ثم كان من مناقشتنا التطبيقية أيضًا أن جئنا بعشرة تراكيب مضعَّفة، وبينا أن مقلوباتها المضعّفة أيضًا (حسب ما أخذ به الخليل في بنائه معجم العين) تحمل معاني مضادة لمعانيها إلا مطابقة ولا مقاربة)، وهو أمرٌ ينقض نظرية ابن جني في الاشتقاق الأكبر -من ناحية، ويثبت إثباتًا تامًّا ما قلنا به من أثر ترتيب موقع الحرف في تركيبه في معنى هذا التركيب (ومن ثم في كل مفردات هذا التركيب) من ناحية أخرى.
وها هي تي كما جئنا بها في كتابنا عن الاشتقاق (جعلنا الأمثلة على شكل مثاني من التراكيب المقلوبة الترتيب نوازن بين معنى التركيب ومعنى مقلوبه، لنتبين أثر قلب الترتيب في المعنى):
1 -
دَرَّ، رَدَّ:"دَرَّ اللبنُ والدمع: سال كثيرًا ". فهذا سيلان واسترسال. وفي مقابل ذلك: "رَدَّ الشيءَ صرفه عن وجهه "أي صرفه عن الاسترسال في اتجاهه.
ومن صور ذلك: "الرَدّة: تقاعسُ الذقن، "أي غئوره في الوجه ورجوعه إليه وعدم انبساطه إلى مداه المعتاد.
2 -
بَعَّ - عَبَّ: "بع السحابُ: ألح بمطره، وبع المطرُ من السحاب: خرج ". فهذا إخراج الماء بقوة. ومقابله: "العبُّ: شرب الماء غيرَ مص "! أي أن يشرب الماء صبًّا، وهذا إدخال الماء بقوة.
3 -
مجّ - جم: "مج الشرابَ من فيه: رماه "فهذا طرحٌ للماء وإذهاب له.
ومقابله: "جَمَّت البئر: كثر ماؤها واجتمع "فهذا تجمع للماء.
4 -
لحّ- حلّ: "اللحَحُ في العين: صُلاق يصيبها والتصاق، وقيل هو التزاقها من وجع أو رَمَض "فهذا لزوق وتماسك، ومقابله:"حَلَّ العقدة: فتحها ونقضها "فهذا فك للتماسك.
5 -
كدَّ- دَكَّ: "كدَّ الشيءَ واكتدّه: نزعه بيده. وكد الطبيخَ اللاصق في أسفل القِدْر: نزعه بأصابعه "فهذا نزعُ اللاصق واستخراجه - وفي مقابله: "دك الترابَ: كَبَسه وسوّاه، واندكّ الرمل: تلبّد "فهذا ضغط للشيء بعضه على بعض حتى يتداخل ويلتصق.
6 -
نَدَّ - دَنَّ: "نَدَّ البعير: شرد "فهذا مفارقة للمقر ومباعدة. ومقابله: "أدنّ الرجل بالمكان إدنانا: أقام "فهذا لزومٌ للمقر.
7 -
نَضَّ- ضَنَّ: "نَضّ الماءُ: سال قليلا قليلًا / خرج رَشْحا "فهذا: نفاذ وخروج. ومقابله: "ضَن بالشيء: بَخِل به "فهذا إمساك وعدم إخراج.
8 -
ضَفَّ- فَضَّ: "الضَفّ: ازدحام الناس على الماء "، فهذا اجتماع، ومقابله:"الفَضُّ: تفريقك حلقة من الناس بعد اجتماعهم "فهذا تفريق المجتمعين.
9 -
زَلّ- لَزّ: "زل الرجل عن الصخرة: زَلِق "فهذا انزلاق وعدم امتساك أو ثبات. ومقابله: "لزّ الشيء بالشيء: ألزمه إياه / ألصقه "فهذا امتساك ولصوق.
10 -
لَفَّ- فَلَّ: "لف الشيء: جمعه، وامرأة لفّاء: ضخمة الفخذين مكتنزة "فهذا اجتماع وتضام واكتناز. ومقابله: "الفَلّ: الثَّلمْ في السيف وفي أي شيء كان، فَلَّ السيف: كَسرَ حَدَّه، وفلَّ الصَفاة: كسرها "فهذا تفريق.
ويمكن لهذه المعارضة بين التراكيب أن تستمر لتستوعب كل تراكيب اللغة، ليثبت أن بين معنى كل تركيب ومقلوبه فرقًا - قد يكون إلى درجة التضاد كالأمثلة التي سقناها آنفًا، وقد يكون مجرد اختلاف يسير، ولكن لن يكون هناك مطابقةٌ، ولن يشترك أكثرُ من تركيبين من تقاليب المادة الستة في صورة أو جزء من المعنى. والسر هو كما قلنا -تأثر القيمة التعبيرية للحرف في التركيب أو الكلمة بموقعها فيها.