الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بصيرة فى قبص وقبض
القَبْص والتقبيص: التناول بأَطراف الأَصابع. وذلك المتناوَل قَبْصة وقُبصة وقبيصه. وقرئ فى الشاذّ: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول} .
والقَبْض: التناول باليد، والسوق الشديد. والمتناوَل قَبْضة وقُبْضة، قال تعالى:{فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول} . يقال: قبضت من أَثَره قَبْضة وقَبْضاً، واقتبضت. قال أَبو الجْهم الجعفرى:
قالت له واقتبضت من أَثَرِهِْ
…
يا رَبّ صاحِبْ شيخنا فى سفرهِْ
قيل له: كيف اقتبضَتْ من أَثره؟ قال: أَخذت قبضة من أَثره فى الأَرض فقبَّلتها. وعن مجاهد فى قوله تعالى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} يعنى القُبَض الَّتى تُعطَى عند الحصاد. وقوله تعالى: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أَى يمتنعون عن العطاء والإِنفاق.
ويستعار القبض للتصرّف فى شىء وإِن لم يكن [فيه] مراعاة اليد والكف، نحو: قبضت الدار والأَرض أَى حُزتها. وقوله تعالى: {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة} أَى فى حَوْزه حيث لا تملّك لأَحد. وقوله تعالى: {والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} أَى يَسلب ناسا ويعطى آخرين، أَو يجمع مرّة ويفرِّق مرَّة، أَو يميت ويُحْيى.
وقد يكنى بالقبض عن الموت فيقال: قبضه الله. [وقوله تعالى: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} إِشارة إِلى نسخ ظل الشمس] . أَخبر الله تعالى فى هذه الآية أَنه بسط الظلّ ومَدَّه وجعله متحركاً تبعاً لحركة الشمس، ولو شاءَ لجعله ساكناً لا يتحرَّك، إِمَّا بسكون المَظْهَر له والدَّليل عليه، وإِمَّا بسبب آخر. ثم أَخبر أَنه قبضه بعد بسطه قبضاً يسيراً، وهو شىء بعد شىء، لم يقبضه جُملة. فهذا من أَعظم آياته الدالَّة على كمال قدرته وحكمته. فندب سبحانه إِلى رؤية صنعه وقدرته وحكمته فى هذا الفَرْد من مخلوقاته، ولو شاءَ لجعله لا صِقاً بأَصل ما هو ظلٌّ له من جَبَل وبناءِ وحَجَر وغيره فَلم يَنتفع به أَحد، فإِن كمال الانتفاع به تابع لمدّه وبسطه وتحوّله من مكان إِلى مكان. وفى مَدّه وبسطه ثُمَّ قَبْضِه شيئاً فشيئاً من المصالح والمنافع مالا يخفى ولا يُحْصَى، فلو كان ساكناً دائماً أَو قُبض دفعة واحدة لتعطلَّت مرافقُ العالم ومصالحُه. وفى دلالة الشمس على الظِّلال ما تُعرف به أَوقات الصَّلوات، وما مضى من اليوم وما بقى منه، وفى تحرُّكه وانتقاله ما يَبْرد ما أَصابه حرّ الشمس، وينتفع الحيوان والشجر والنَّبات. فهو من آيات الله الدَّالَُّة عليه.
وفى الآية وجه آخر. وهو أَنه سبحانه مَدّ الظل حين بنا السَّماء كالقُّبة المضروبة، ودحا الأَرض عنها، فأَلقت القبّة ظلها عليها، فلو شاء سبحانه لجعله ساكنا مستقرا فى تلك الحال، ثم خلق الجبال ونصبها دليلا على ذلك
الظل، فهو يتبعها فى حركتها، يزيد وينقص، ويمتد ويَقْلُص، فهو تابع لها تبعيَّة المدلول / لدليله.
وفيه وجه آخر، وهو أَن يكون المراد قَبْضه عند قيام السَّاعة بقبض أَسبابه، وهى الأَجرام الَّتى تُلقى الظِّلال، فيكون قد ذكر إِعدامه بإِعدام أَسبابه؛ كما ذكر إِنشاءَه بإِنشاءِ أَسبابه. وقوله:{قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} كأَنه يُشْعِر بذلك. وقوله: {قَبْضاً يَسِيراً} يشبه قوله: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} ، وقوله بصيغة الماضى لا ينافى ذلك كقوله:{أتى أَمْرُ الله فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} .
والوجه فى الآية هو الأَوَّل. وهذان الوجهان إِن أَراد من ذكرهما دلالة الآية عليهما إِشارة وإِيماءً فقريب، وإِن أَراد أَن ذلك هو المراد من لفظها فبعيد؛ لأَنَّه سبحانه جعل ذلك آية ودلالة عليه للناظر فيه كما فى سائر آياته التى تدعو عباده إِلى النَّظر فيها، فلا بدّ أَن يكون ذلك أَمرًا مشهودًا تقوم به الدِّلالة، ويحصل به المقصود.
قال المحقِّقون من السَّالِكين: القبض نوعان: قبض فى الأَحوال، وقبض فى الحقائق. فالقبض فى الأَحوال: أَمْر يطرق القلب ويمنعه عن الانبساط والفرح، وهو نوعان أَيضاً: أَحدهما: ما يعرف سببه كتذكر ذنب، أَو تفريط، أَو بعد، أَو جَفوة، أَو حدوث ذلك. والثانى: ما لا يُعرف سببهُ بل يَهْجُم على القلب هجوما لا يقدر على التخلُّص منه، وهذا هو القبض المشار إِليه بأَلسِنَة القوم، وضدُّ البسط.
فالقبض والبسط عندهم حالتان للقلب لا يكاد ينفكّ عنهما. قال أَبو القاسم الجُنَيد: فى معنى القبض والبسط معنى الخوف والرَّجاء، فالرَّجاء يبسط إِلى الطَّاعة، والقبض والخوف يقبض عن المعصية.
وكلّهم تكلَّم فى القبض والبسط حتَّى جعلوه أَقساماً: قبض تأْديب، وقبض تهذيب، وقبض جمع، وقبض تفريق. ولهذا يمتنع به صاحبُه إِذا تمكَّن منه من الأَكل والشرب والكلام، ويقل الانبساط إِلى الأَهل وغيرهم.
فقبض التأْديب يكون عقوبة على غفلة أَو خُلطاء سَوْءٍ، أَو فكرة رديئة.
وقبض التهذيب يكون إِعْدَادًا لِبسط عظيم يأْتى بعده. فيكون القبض قبله كالتنبيه عليه والمقدِّمة له، كما كان الغَتُّ والغطّ بين يَدَى الوحى إِعدادًا لوروده. وهكذا الخوف الشديد مقدِّمة بين يدى الأَمن. فقد جرت سُنَّة الله - سبحانه - أَن هذه الأمور النافعة المحبوبة يُدخَل إِليها من أَبواب أَضدادها.
وأَمَّا قبض الجمع فهو ما يحصل للقلب حالة جَمْعيَّته على الله من انقباضه عن العالَم وما فيه، فلا يبقى فيه فضل ولا سعة لغير مَن اجتمع عليه قلبُه. وفى هذه مَن أَراد من صاحبه ما يعهده منه من المؤانسة والمذاكرة فقد ظلمه.
وأَما قبض التفرقة فهو القبض الذى يحصل لمن تفرَّق قلبُه عن الله وتشتَّت فى الشِّعاب والأَودية. فأَقلّ عقوبته ما يجده من القبض الذى ينتهى معه الموت.
وثمّ قبض آخر خصَّ الله به صُيَّابَته أَى خواصّ عباده. وهم ثلاث فرق:
فرقة قبضهم إِليه قبض التّوفى أَو قبض التوقِّى - من الوقاية - أَى سترهم عن أَعين النَّاس وقاية لهم وصيانة عن مُلابستهم، فغيَّبهم عن أَعينهم. وهؤلاءِ أَهل الانقطاع والعُزْلة عن الناس وقت فساد الزمان. ولعلَّهم الذين قال [فيهم] النبى صلى الله عليه وسلم:"يوشِك أَن يكون خير مال المسلم غَنماً يتَّبع بها شعَف الجبال ومواقع القَطْر"، وقوله:"ورجل معتزل فى شِعْب من الشِّعاب يعبد ربَّه، ويدع النَّاس من شرِّه". وهذه الحال تُحمد فى بعض الأَماكن والأَوقات دون بعضها، وإِلَاّ فالمؤمن الذى يخالط النَّاس ويصبر على أَذاهم أَفضل من هؤلاءِ.
وفرقة أَخرى مستورون فى لباس التلبيس، مخالطون للناس، والنَّاسُ يرون ظواهرهم وقد سَتر الله سبحانه حقائقهم وأَحوالهم عن رؤية الخَلْق لها، فحالهم ملتَبسٌ على النَّاس. فإِذَا رأَوا منهم ما يرون من أَبْنَاءِ الدنيا - من الأَكل والشرب واللباس والنكاح وطلاقة الوجه وحسن المعاشرة - قالوا: هؤلاءِ منَّا أَبناءَ الدنيا، وإِذا رأَوا ذلك الجدّ والهمّ والصبر والصدق وحلاوة المعرفة والإِيمان والذكر، وشاهدوا أَمورًا ليست فى أَبناءِ الدنيا، قالوا: هؤلاءِ أَبناء الآخرة، فالتبس حالهم عليهم فهم مستورون عنهم. فهؤلاءِ هم الصادقون، هم مع النَّاس، والنَّاس لا يعرفونهم ولا يرفعون بهم رأْسا، وهم من سادات أَولياءِ الله. وهذه الفِرقة بينها وبين
الفرقة الأُولى من الفضل مالا يعلمه إِلا الله. فهم بين النَّاس بأَبدانهم، ومع الرفيق الأَعلى بقلوبهم، فإِذا قُبِضوا انتقلت أَرواحهم إِلى تلك الحضرة؛ فإِن المَرْءَ مع من أَحبّ. وما أَحسن قول القائل
ووراءَ هاتيك الستور محجَّب
…
بالحُسن كلُّ العزِّ تحت لوائه
لو أَبصرت عيناك بعضَ جماله
…
لبذلت منك الروح فى إِرضائه
ما طابت الدنيا بغير حديثه
…
كلَاّ ولا الأخرى بدون لقائه
يا خاسراً هانت عليه نفسُه
…
إِذْ باعها بالغَبْن من أَعدائه
لو كنت تعلم قدر ما قد بعته
…
لفسخت ذاك البيع قبل وفائه
أَو كنت كفؤا للرشاد وللهدى
…
أَبصرت لكن لست من أَكفائه
وفرقة ثالثة قبضهم إِليه فصَافاهم مصَافاة ستر وفيض ومدد عليهم وهذه الفرقة أَعلى من الفرقتين المتقدِّمتين، لأَن الحق سبحانه قد سترهم عن نفوسهم، وشغلهم به عنهم، فهم فى أَعلى الأَحوال والمقامات، ولا التفات لهم إِليها. فهؤلاءِ قلوبهم معه سبحانه لا مع سواه، بل هم مع السِّوَى بالمجاورَة والامتحان، لا بالمساكنة والأُلفة، وقد سترهم وليّهم وحبيبهم عنهم، وأَخذهم إِليه منهم والله أَعلم.