الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بصيرة فى فتى
الفَتى: الشاب، والسخىّ الكريم، وهما فَتَيَان وفَتَوَان، والجمع، فِتْيانٌ وفِتْوة وفُتُوّ وفُتىّ، وهى فتاة، والجمع: فَتَيَات. والفُتُوَّة نهاية الكَرَم. {وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ} : يوشع.
والفُتُوَّة منزلة حقيقتها منزلة الإِحسان وكفّ الأَذَى عن الغير وَاحتمال الأَذى منهم. فهى فى الحقيقة نتيجة حُسْن الخُلُق وغايته. وقيل: الفرق بينها وبين المروءَة أنَّ المروءَة أَعمّ، والفتوّة نوع من أَنواعها؛ فإِنَّ المروءَة استعمال ما يجمّل ويزين ممّا هو مختصّ بالعبد، أَو متعدّ إِلى غيره، وترك ما يدنّس ويَشين ممّا هو مختصّ به أَو متعلِّقٌ بغيره. والفتوّة إِنَّما هى استعمال الأَخلاق الكريمة مع الخَلْق. وهى منزلة شريفة لم يعبَّر عنها [فى] الشريعة باسم الفتوّة، بل عُبّر عنها باسم مكارم الأَخلاق؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللهَ بعثنى لتمام مكارم الأَخلاق، ومحاسن الأَفعال" رواه جابر. وأَصل الفتوّة من الفَتى وهو الشاب الطرىّ الحديث السِّنّ، قال تعالى:{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} وقال عن قوم إِبراهيم إِنهم: {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}
وقال تعالى عن يوسف عليه السلام: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ} ، {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجعلوا بِضَاعَتَهُمْ} .
فاسم / الفتى لا يُشعر بمدح ولا ذمّ كاسم الشابِّ والحَدَث. ولذلك لم يجئ لفظ الفتوّة فى الكتاب والسنَّة ولا فى كلام السّلف، وإِنما استعمله مَنْ بعدهم فى مكارم الأَخلاق. قيل: أَقدمُ من تكلَّم فى الفتوّة جعفر الصّادق، ثمّ الفُضَيل بن عِياض، والإِمام أَحمد، وسهل بن عبد الله التُسْتَرىّ، والجُنَيْد، ثم طائفة. سئل جعفر عنها وقال للسّائل ما تقول؟ قال. إِن أُعطيت شكرت، وإِن مُنِعت صبرت. فقال: الكلاب عندنا كذلك. فقال: يا ابن رسول الله فما الفتوّة عندكم؟ قال: إِن أُعطينا آثرنا، وإِن مُنِعنا شكرنا. وقال الفضيل: الفتوّة: الصّفح عن عَثَرَات الإِخوان. وسئل الإِمام أَحمد عن الفتوّة، فقال، ترك ما تهوَى لما تخشى. وسئل الجنيد عنها فقال: أَلَاّ تنافِر فقيراً، ولا تعارض غنيًّا. وقال الحارث المحاسبىّ: الفتوة أَن تُنْصف ولا تَنْتصف. وقال عمرو ابن عثمان المكىّ: الفتوة حُسْن الخلق. وقال محمّد بن على الترمذىّ: الفتوة أَن تكون خصيماً لربّك على نفسك. وقيل: الفتوة أَلَاّ ترى لنفسك فضلاً على غيرك. وقال الدقَّاق: هذا الخُلُق لا يكون كمالُه إِلَاّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإِنَّ كلَّ أَحد يقول يوم القيامة: نفسى نفسى، وهو يقول: أُمّتى أُمّتى. وقيل الفتوّة: كسر الصّنم الذى بينك وبين الله وهو نفسك؛ فإِنَّ الله تعالى حكى عن قصة
إِبراهيم أَنَّه جعل الأَصنام جُذَاذًا فكسر الأَصنام له، فالفتى من كسر صنماً واحد لله. وقيل: الفتوّة أَلَاّ تكون خصماً لأَحد يعنى فى حظِّ نفسك، وأَمّا فى حق الله فالفتوّة أَن تكون خصماً لكل أَحد ولو كان الحبيب المصافيا. وقال الثورىّ: أَن يستوى عندك المقيم والطَّارىءُ. وقال بعضهم: أَلَاّ يميز بين أَن يأْكل عنده وَلىّ أَو كافر. وقال الجُنَيْد أَيضاً: الفتوة كفُّ الأَذى، وبذل الندَى. وقال سهل: هى اتِّباع السنَّة. وقيل: الوفاءُ والحفَاظ. وقيل: فضيلة تأْتيها ولا ترى نفسك فيها. وقال: أَلا تحتجب ممّن قصدك. وقيل: أَلَاّ تهرُب إِذا أَقبل العافى، يعنى طالب المعروف. وقيل: إِظهار النعمة، وإِسرار المحنة. وقيل: أَلَاّ تدّخر ولا تعتذر. وقيل: تزوّج رجل امرأَة فلمّا دخل عليها رأَى بها الجُدرىّ فقال: عينى ثم قال: عمِيتُ. فبعد عشر سنين ماتت ولم تعلم أَنه بصير. وقيل: ليس من الفتوّة أَن تَرْبح على صديق. ويذكر أَن رجلا نام من الحاجّ بالمدينة ففقد هِمْيانًا فيه أَلف دينار. فقام فزِعاً فوجد جعفر بن محمّد رضى الله عنه فتعلَّق به وقال: أَخذتَ هِيْمانى. فقال أَيشٍ كان فيه؟ فقال: أَلف دينار. فأَدخله داره ووزن له أَلف دينار، ثمّ إِنه وجد هِيْمانه فجاءَ معتذراً إِلى جعفر بالمال، فأَبى أَن يقبله، وقال: شىءٌ أَخرجته من يدى لا أَستردّه أَبدًا.
وقال الشيخ عبد الله الأَنصارى: نكتة الفتوة أَلَاّ تَشهد لك فضلاً،
ولا ترى لك حقَّا؛ يشير إِلى أَن قلب الفتوّة وإِنسان عينها أَن تغيب بشهادة نقصك وعيبك عن فضلك، وتغيب بشهادة حقوق الخَلْق عليك عن شهادة حقوقك عليهم، والنَّاس فى هذا على مراتب، فأَشرفهم أَهل هذه المرتبة، وأَخسّهم عكسهم.
وأَوّل الفتوّة ترك الخصومة باللسان / والقلب فى حقِّ نفسه لا فى حقِّ ربّه، والتغافل عن الزلَاّت الَّتى لم يُوجب الشرع أَخذه بها، ونسيان أَذيّة مَن نالك بأَذًى ليصفو قلبُك له، ونسيانك إِحسانك إِلى من أَحسنتَ إليه حتىَّ كأَنَّه لم يَصدر منك إِحسان. وهذا أَكمل ممّا قبله، وفيه يقول:
ينسى صنائعه واللهُ يظهرها
…
إِنّ الجميل إِذا أَخفيته ظهرا
وثانيها: أَن تقرّب من يُبعدك، وتعتذر إِلى من يجنى عليك، سماحة لا كَظْماً، وتحسن إِلى من أَساءَ إليك وتعتذر إِليه أَيضاً. ومعنى هذا أَنَّك تُنزل نفسك منزلة الجانى والمسىءِ، وكلّ منهما خليق بالعذر.
والذى يُشهدك هذا المشهد أَن تعلم أَنه إِنَّما سُلِّط عليك بذنب صدر منك، كما قال تعالى:{وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} ، فإِذا علمت أَنك بدأت بالجناية وانتقم الله منك على يده كنتَ فى الحقيقة أَولى بالاعتذار. وقال بعض أَهل الخصوص: من طلب نور الحقيقة على قدَم الاستدلال لم تحِلّ له دعوة الفتوّة أَبدا، كأَنه يقول: إِذا لم تُحوِج يا فتى عدوّك إِلى العُذر والشفاعة، ولم
تكلِّفه طلب الاستدلال على صحّة عذره، فكيف تحوج وليّك وحبيبك إِلى أَن يقيم لك الدليل على التوحيد والمعرفة، ولا تسير إِليه حتى يقيم لك دليلا على وجود وحدانيته وقدرته ومشيئته، فأَين هذا من درجة الفتوَّة! وهل هذا إِلَاّ خلاف الفتوّة من كلّ وجه؟!
وليس يصحّ فى الأَذهان شىءٌ
…
إِذا احتاج النهار إِلى دليل