الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بصيرة فى فقر
الفقر: ضدّ الغِنى.
ووقع فى القرآن لفظ الفقر فى أَربعة مواضع:
أَحدها - قوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض} ، أَى الصَّدقاتُ لهؤلاءِ، وكان فقراءُ المهاجرين نحو أَربعمائة لم يكن لهم مساكن فى المدينة ولا عشائر، وكانوا قد حبسوا أَنفسَهم على الجهاد، وكانوا وَقْفاً على كلِّ سريَّه يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أَهل الصُّفَّة. هذا أَحد الأَقوال [فى] إِحصارهم فى سبيل الله. وقيل: هو حبْسهم أَنفسهم فى طاعة الله. وقيل: حَبَسهم الفقر والعُدْم عن الجهاد. وقيل: لَمَّا عادَوا أَعداء الله وجاهدوهم أُحصِروا عن الضرب فى الأَرض لطلب المعاش، فلا يستطيعون ضرباً فى الأَرض. والصَّحيح أَنه لفقرهم وعجزهم وضعفهم لا يستطيعون ضرباَ فى الأَرض، ولِكمَال عفَّتهم وصيانتهم يحسبهم من لم يعرف حالهم أَغنياء.
والموضع الثانى - قوله تعالى: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين} الآية.
والموضع الثالث - قوله تعالى: {ياأيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله} .
والموضع الرابع - قال الله تعالى: {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} .
والصّنف الأَول خواصّ الفقراءِ، والثَّانى فقراءُ المسلمين خاصّهم وعامّهم، والثالث الفقر العامّ لأَهل الأَرض كلِّهم غنيّهم وفقيرهم، مؤمِنهم وكافرهم. والرابع الفقر إِلى الله المشار إِليه بقوله:"اللَّهم أَغْنِنى بالافتقار إِليك". وبهذا أَلَمَّ الشاعر:
ويعجبنى فقرى إِليك ولم يكن
…
ليعجبنى لولا محبَّتُك الفقرُ
والفقراءُ الموصوفون فى الآية الأُولى يقابلهم أَصحاب الجِدَة، ومن ليس محصَرًا فى سبيل الله، ومن لم يكتم فقرًا وضعفاً. فمقابلهم أَكثر من مقابل الصّنف الثانى. والصّنف الثانى يقابل أَصحاب الجِدَة، ويدخل فيهم المتعفِّف وغيره، والمحصَر وغيره. والصَّنف الثالث لا مقابل لهم، بل الله وحده الغنىّ وكلُّ ما سواه فقير إِليه.
ومراد المشايخ بالفقر شىء أَخصُّ من هذه كلّها وهو الافتقار إِلى الله فى كلِّ حالة. وهذا المعنى أَجلّ من أَن يسمَّى فقرًا، بل هو حقيقة العبوديَّة ولُبّها، وعَزْل النفس عن مزاحمة الرُّبوبيَّة.
وسئل عنه يحيى بن مُعَاذ الرازىّ فقال: حقيقته أَلَاّ يستغنى إِلَاّ بالله، ورَسْمه / عدم الأَسباب كلّها. وقال بعض المشايخ: الفقر سرّ لا يضعه الله إِلَاّ عند من يحبّه، ويسوقه إِلى مَن يريد. وقال: رُوَيم: إِرسال النَّفس فى أَحكام الله. وسئل أَبو حفص بم يقدَم الفقير على ربِّه؟ فقال: ما للفقير أَن يقدَم به على ربّه سوى فقره. وسئل بعضهم: متى يستحق
الفقير اسم الفقر؟ قال إِذا لمّ [يبق] عليه منه بقيّة. فقيل له: وكيف ذاك؟ فقال: إِذا كان له فليس له، وإِذا لم يكن له فهو له. وهذه من أَحسن العبارات عن معنى الفقر الذى يشير إِليه القوم، وهو أَن يصير كلُّه لله لا يبقى عليه بقيَّة من نفسه وحظِّه وهواه، فمن بقى عليه شىء من أَحكام نفسه ففقره مدخول. ثم فسّر ذلك أَى قوله: إِذا كان له فليس له، أَى إِذا كان لنفسه فليس لله، وإِذا لم يكن لنفسه فهو لله. فحقيقة الفقر إِذًا أَلَاّ تكون لنفسك ولا يكون لها منك شىء بحيث تكون كلُّك لله. وهذا الفقر الذى يشيرون إِليه لا ينافيه الجدَة ولا الأَملاك، فقد كان رُسُل الله وأَنبياؤه - صَلوات الله وسلامه علَيهم - فى ذروة الفقر مع جدتهم ومِلكهم، كإِبراهيم الخليل عليه السلام كان أَبا الضِّيفان، وكانت له الأَموال والمواشى، وكذلك كان سليمان وداود، وكذلك كان نبيّنا صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:{وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى} ، وكانوا أَغنياءَ فى فقرهم، فقراءَ فى غناهم.
فالفقر الحقيقىُّ: دوام الافتقار إِلى الله تعالى فى كلِّ حال، وأَن يشهد العبد فى كلِّ ذرّة من ذرَّاته الظَّاهرة والباطنة فاقة نامية إِلى الله تعالى من كلِّ وجه. فالفقر ذاتىّ للعبد، وإِنما يتجدَّد له بشهوده حالاً، وإِلَاّ فهو حقيقته؛ كما قال بعض المشايخ:
الفقر لى وصفُ ذاتٍ لازمٌ أَبدا
…
كما الغِنَى أَبدا وصفٌ له ذاتى
وله آثار وعلامات وموجِبات، أَكثر إِشارات القوم إليها، كقول بعضهم الفقير لا يسبق همَّته، أَى ابن وقته، فهمَّته مقصورة على وقته لا يتعدَّاه. وقيل: أَركان الفقر أَربعة: عِلْم يسوسه، وورع يحجزه، ويقين يحمله،
وذِكْر يؤنسه. وقال الشِّبلِىّ: حقيقة الفقر أَلَاّ يستغنى بشىء دون الله. وسئل سهل: متى يستريح الفقير؟ فقال: إِذا لم ير لنفسه غير الوقت الَّذى هو فيه. وقال أَبو حفص: أَحسن ما يتوسَّل به العبد إِلى الله دوام الافتقار إِليه على جميع الأَحوال، وملازمة السُنَّة فى جميع الأَفعال، وطلب القُوت من وجه حلال. وقيل: مِن حكم الفقير أَلَاّ يكون له رغبة، فإِن كان ولا بدّ فلا يجاوز رغبتُه كفايتَه. وقيل: الفقِير من لا يَملك ولا يُمْلَك. وأَتمّ من هذا: لا يَملك ولا يملكه مالك. وقيل: من أَراد الفقر لشرفه مات فقيراً، ومن أَراده لئلا يشتغل عن الله بغيره مات غنيّا.
والفقر له بداية ونهاية، فبدايته الذلُّ ونهايته العزّ، وظاهره العُدْم وباطنه الغِنى، كما قال رجل لآخر، [الفقر] فقر وذلّ، فقال، لا: بل فقر وعِزّ. فقال: فقر وثرًى. فقال: لا، بل فقر وعَرْش. وكلاهما مصيب.
واتَّفقت كلمةُ القوم على أَن دوام الافتقار إِلى الله مع تخليط خير من دوام الصَّفاء مع رؤية النَّفس والعُجْب، مع أَنه لا صفاءَ معهما.
وإِذا عرفت معنى الفقر عرفت عين الغنى بالله تعالى / فلا معنى لسؤال من سأَل: أَىّ الحالين أَكمل؟ الافتقار إِلى الله أَم الاستغناء به؟ هذه مسأَلة غير صحيحة، فإِنَّ الاستغناء به هو عين الافتقار إِليه.
وأَمَّا مسأَلة الفقير الصَّابر، والغنىّ الشاكر، وترجيحُ أَحدهما، فعند المحقِّقين أَن التفضيل لا يرجع إِلى ذات الفقْر والغِنَى، وإِنما يرجع إِلى الأَعمال والأَحوال والحقائِق. فالمسْأَلة فاسدة فى نفسها، وإِنَّ التفضيل
عند الله بالتَّقوى وحقائِق الإِيمان، لا بفقر ولا غِنى، قال:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} ولم يقل: أَفقركم أَو أَغناكم.
ثمّ اعلم أَنَّ الفَقْر والغِنَى ابتلاء لعبده كما قال تعالى: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ كَلَاّ} أَى ليس كلّ من أَعطيتهُ ووسَّعت عليه فقد أَكرمته، لا كلُّ من ضيَّقت عليه وقَتَرت عليه الرزق فقد أَهنته والإِكرام أَن يكرم العبد بطاعته ومحبَّته ومعرفته، والإِهانة أَن يسلبه ذلك. ولا يقع التفاضل بالغنى والفقر بل بالتقوى. وقال بعضهم: هذه المسأَلة محال أَيضاً من وجه آخر، وهو أَنَّ كًّلا من الغنىّ والفقير لا بدّ له من صبر وشكر، فإِنَّ الإِيمان نصفان: نصفٌ صبر، ونصفٌ شكر. بل قد يكون قسط الغنِىّ من الصَّبر أَوفى، لأَنه يصبر عن قدرة، فصبره أَتمّ من صبر من يصبر عن عجز، ويكون شكر الفقير أَتمّ، لأَن الشكر هو استفراغ الوسع فى طاعة الله، والفقير أَعظم فراغا بالشكر من الغنِىّ. وكلاهما لا يقوم قائمة إِيمانه إِلا على ساق الصَّبر والشكر.
نعم الَّذى رجع الناس إِليه فى المسأَلة أَنَّهم ذكروا نوعا من الشكر، ونوعا من الصَّبر، وأَخذوا فى التَّرجيح، فجردوا غنيًّا مُنفقاً متصدِّقاً باذلا ماله فى وجوه القُرَب، شاكرًا الله عليه؛ وفقيرا متفرِّغاً لطاعة الله ولأوراد العبادات، صابرًا على فقره، هل هو أَكمل من ذلك الغنى أَم بالعكس. فالصَّواب فى مثل هذا أَنّ أَكملهما أَطوعهما، فإِن تساوت طاعتهما تساوت درجتهما والله أَعلم.
والعرب تقول: سَدّ الله مَفاقِره، أَى وجوه فقره. ويقال: افتقر فهو مفتقِر وفقير، ولا يكاد يقال: فَقُر. وإِن كان القياس يقتضيه.
وأَصل الفقير هو المكسور الفَقَار. عَمِل به الفاقرةَ أَى الدَّاهية الَّتى كسرت فَقَاره. وأَفقرك الصَّيدُ: أَمكنك عن فقاره. أَفْقَرته ناقتى: أَعرته فَقَارها للركوب، وما أَحسن قول الزَّمخشرى:
أَلَا أَفقر الله عبداً أَبَتْ
…
عليه الدّناءة أَن يُفْقِرَا
ومن لا يُعير قَرا مَرْكَبٍ
…
فقل كيف يَعقِره للقِرَى
وما أَحسن فِقَر كلامه، أَى نُكته، وهى فى الأَصل حُلِىّ تصاغ على شكل فِقَر الظهر.