الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: أحداث القيامة الكبرى
،
وفيه تسعة مطالب:
1 -
دنو الشمس، ولجوم العرق.
2 -
إثبات الميزان.
3 -
نشر الدواوين.
4 -
الحساب يوم القيامة.
5 -
الحوض المورود.
6 -
الصراط.
7 -
القنطرة بين الجنة والنار.
8 -
أول من يستفتح باب الجنة، وأول الأمم دخولا الجنة.
9 -
إثبات الشفاعة.
المطلب الأول دنو الشمس ولجوم العرق
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: "وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلا، وتدنوا منهم الشمس ويلجمهم العرق""
(1)
.
وهذا الذي حكاه الإمام ابن تيمية عن أهوال القيامة من دنو الشمس من أهل الموقف حتى يلجمهم العرق إلجاماً، هو الأمر المستقر عند السلف الذي لم يحك عنهم خلافه ودلت عليه الدلائل الشرعية الصحيحة.
(1)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة النبوية (3/ 145)
فأخرج الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ القِيَامَةِ، حَتَّى يَبْلُغَ العَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ»
(1)
.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 6] قَالَ: «يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ»
(2)
.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -قَالَ: «يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ»
(3)
.
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن المقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم -يَقُولُ: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ» - قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: فَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ؟ أَمَسَافَةَ الْأَرْضِ، أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ - قَالَ:«فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا» قَالَ: وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ
(4)
.
دل مجموع هذه الأحاديث الصحيحة على أمور:
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب من يسأل الناس تكثرًا ح (1475).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب قول الله تعالى:(ألا يظن أولئك أنهم مبعثون) ح (6531)، دار طوق النجاة، ط 1 - 1422 هـ.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب قول الله تعالى:(ألا يظن أولئك أنهم مبعثون) ح (6532)، دار طوق النجاة، ط 1 - 1422 هـ.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة، باب في صفة يوم القيامة ح (2864).
1 -
أن الشمس تدنو من الخلائق يوم القيامة، بمعنى: تقرب، وجاء في الحديث:«أن الشمس تدنو كمقدار ميل» ، وفي رواية الترمذي بالشك:«حَتَّى تَكُونَ قِيدَ مِيلٍ أَوْ اثْنَيْنِ» ، يعني: أو ميلين.
والميل: اسم مشترك بين مسافة الأرض، والمرود الذي تكحل به العين ولذا أشكل المراد على سليم بن عامر
(1)
. ورجح جماعات أن المراد: ميل المسافة، لأنها إذا كان بينها وبين الرؤوس مقدار المرود، فهي متصلة بالرؤوس لقلة مقدار المرود
(2)
.
2 -
أن الناس يكونون على قدر أعمالهم السيئة في العرق، وقد جاء في الحديث الصحيح:«يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ»
(3)
.
قال الإمام ابن العربي:" الرشح، العرق، لأنه يخرج من البدن شيئاً فشيئاً كما يرشح الإناء المتخلل الأجزاء"
(4)
.
وهذا هول من أهوال القيامة، وحال من أحوالها، الذي يجب الإيمان به فالناس على قدر أعمالهم، يكونون في رشحهم. وهذا الرشح والعرق يحتمل أن يكون المراد به: عرق الإنسان نفسه خاصة، ويحتمل أن يكون عرق نفسه وغيره
(5)
.
(1)
القرطبي: المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم، دار ابن كثير - دمشق، ط 5 1431 هـ (7/ 154).
(2)
القرطبي: المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم، دار ابن كثير - دمشق، ط 5 1431 هـ (7/ 154).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الجنة: باب صفة يوم القيامة ح (2862).
(4)
ابن العربي: عارضة الأحوذي، مكتبة ابن تيمية - القاهرة، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها (9/ 263)
(5)
القاضي عياض: إكمال المعلم بفوائد مسلم، دار الوفاء -مصر ط 2 - 1425 هـ (8/ 393).
وأما سبب كثرة العرق: لتراكم الأهوال، ودنو الشمس من رؤوسهم وزحمة بعضهم بعضاً، وما يكون في الموقف الرهيب من شدة الضغط وتزاحم الناس، وحر الشمس وحرارة الأنفاس وحرارة النار المحدقة بأرض المحشر
(1)
.
وأورد البعض إشكالاً مفاده: إن كان العرق كالبحر يلجم البعض فيكف يصل إلى كعب الآخر؟
وأجيب عن هذا الإشكال بأوجه منها
(2)
:
أ. يجوز أن يخلق الله تعالى ارتفاعاً في الأرض التي تحت قدم كل إنسان بحسب عمله، فيرتفع عن الأرض بحسب ارتفاع ما تحته.
ب. أن يحشر الناس جماعات متفرقة، فيحشر كل من يبلغ عرقه إلى كعبيه في جهة، وكل من يبلغ حقويه في جهة، وهكذا، والقدرة صالحة لأن تمسك عرق كل إنسان عليه بحسب عمله، فلا يتصل بغيره وإن كان بإزائه، كما أمسك جرية البحر لموسى عليه السلام، حيث طلب لقاء الخضر، ولنبي إسرائيل حين اتبعهم فرعون.
وجزم الشيخ على القاري بالقول الثاني فقال: "المعتمد هو القول الأخير فإن أحد الآخر كله على وفق خرق العادة، أما ترى أن شخصين في قبر واحد يعذب أحدهما وينعم الآخر، ولا يدري أحدهما عن غيره"
(3)
.
وفي هذا يقول الإمام ابن العربي:" كل أحد يقوم عرقه معه، وهو خلاف المعتاد في الدنيا، فإن الجماعة إذا وقفوا في الأرض المعتدلة، أخذهم الماء أخذاً ولا يتناوبون، وهذا من القدرة التي تخرق العادات، والإيمان بها من الواجبات "
(4)
.
(1)
القاضي عياض: إكمال المعلم، دار الوفاء -مصر ط 2 - 1425 هـ (8/ 393)
(2)
ابن الملقن: التوضيح، دار النوادر -دمشق ط 1 1429 هـ (23/ 508).
(3)
القاري: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، دار الفكر - بيروت، ط 1 1422 هـ (8/ 3517).
(4)
ابن الملقن: التوضيح، دار النوادر -دمشق ط 1 1429 هـ (23/ 508).
3 -
أن هذا الموقف موقف رهيب عظيم، فليس "ببعيد أن يكون الناس كلهم في صعيد واحد، وموقف سواء يشرب بعضهم من الحوض ومن غيره وكذا حكم النور، والغرق يغرق في عرقه، أو يبلغ منه ما شاء الله، جزاء لسعيه في الدنيا، والآخر في ظل العرش، كما في الدنيا، يمشي المؤمن بنور إيمانه في الناس، بخلاف الكافر والمؤمن في الوقاية بخلافه، والمؤمن يروى ببرد اليقين والهداية، بخلاف المبتدع، وكذا الأعمى"
(1)
، ويكفي القول بأن "هذا المقام مقام هائل لا تفي بهوله العبارات، ولا تحيط به الأوهام ولا الإشارات، وأبلغ ما نطق به في ذلك الناطقون: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)} [ص:67 - 68] "
(2)
.
أهل الإيمان واليقين في معزل عن هذا الأذى، قال الإمام ابن عبد البر:" من كان في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله، نجا من هول ذلك الموقف إن شاء الله "
(3)
، وما أجمل ما سطرته يراع الإمام الغزالي في هذا المشهد قائلاً:"اعلم أن كل عرق لم يخرجه التعب في سبيل الله من حج وجهاد وصيام وقيام وتردد في قضاء حاجة مسلم وتحمل مشقة في أمر بمعروف ونهي عن منكر، فسيخرجه الحياء والخوف في صعيد القيامة ويطول فيه الكرب، ولو سلم ابن آدم من الجهل والغرور، لعلم أن تعب العرق في تحمل مصاعب الطاعات أهون أمراً وأقصر زماناً من عرق الكرب والانتظار في القيامة، فإنه يوم عظيمة شدته طويلة مدته"
(4)
.
(1)
ابن الملقن: التوضيح، دار النوادر -دمشق ط 1 1429 هـ (23/ 508).
(2)
القرطبي: المفهم، دار ابن كثير - دمشق، ط 5 1431 هـ (7/ 157)
(3)
ابن عبد البر: التمهيد، وزارة عموم الأوقاف - المغرب، 1387 هـ، (2/ 283).
(4)
الغزالي: إحياء علوم الدين، دار المعرفة - بيروت، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها، (4/ 515).