الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 - تماسك المسلم عن السقوط والانهيار:
كم هي الأمور المؤلمة التي تمر على الإنسان، فتغير مسار حياته، فيسير في أودية الدنيا حيران، تتخطفه الأحزان والأوهام، وتخط جسده الهموم والأسقام. وفي ساعة الانكسار والهزيمة، التي يرى أن حياته لم يبق لها معنى، وأن وجوده أصبح سدى دون مغزى، في هذه الساعة فقط، يسري في فؤاده أمل كبير، يخيم على حياته، فيُحي فيها الإيمان المغمور، ويُوقظ فيها الخير المبرور، ويُخرج منها الكنز المستور. إنه الأمل المنشود في الحياة الآخرة التي جعلها الرب جل وعلا، كمال نعيم للمؤمنين، ووسام عز للمتقين، وتاج شرف للمصدقين، فيسري هذا الأمل في نفسه، فيغذيه بمعاني الثبات، ويفجّر في داخله روح الحياة، فتحول بينه وبين تلك المزعجات المؤلمات، فيبقى ثابتاً صابراً محتسباً، يعلم أن ما عند الله خير وأبقى {وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)} [الأعراف:169].
وهذا التماسك المبني على التعلق بالله جل وعلا، يورث أثراً نفسياً آخر من آثار الإيمان باليوم الآخر، وهو:
6 - التسليم والرضا بكل ما يجري من المقادير:
حين يصبح الإنسان ويمسي، ولسانه يلهج بالرضا عن الله تعالى يقول:«رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً» ، فهو يقر ويعترف بأن كل ما يجري في هذا الكون، إنما هو بقضاء من الله وقدره فيقابله بالرضا والتسليم، فالرضا عن الله تعالى من المقامات العلية، وهي من أعلى مقامات اليقين بالله تعالى
(1)
، حتى قال بعضهم:"الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا، وسراج العابدين"
(2)
، فطوبى لرجل عاش راضياً عن الله تعالى مُسَلّماً له بكل ما جرى به القلم.
إن الرضا مقام كبير، ومنزلة عزيزة، وهو مقام أعلى من مقام الصبر، "أجمع العلماء على أنه مستحب مؤكد استحبابه"
(3)
.
(1)
أبو طالب المكي: قوت القلوب، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 2 - 1426 هـ (2/ 63).
(2)
القشيري: الرسالة القشيرية، دار المعارف - القاهرة، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها، (2/ 342).
(3)
ابن القيم: مدارج السالكين، دار الكتاب العربي - بيروت، ط 3 1416 هـ (2/ 169).
ذكر الحافظ أبو نعيم، أن ذر بن عمر بن ذر، مات فجأة، وكان من حاله أنه كان باراً بأبيه، فلما مات ذر، قال أصحابه: الآن يضيع الشيخ، فإنه كان بارا به، فسمعها الشيخ فبقي متعجباً، ثم التفت إليهم وقال: أضيع والله حي لا يموت! ثم سكت حتى دفن، فلما واروه التراب، وقف على قبره ليسمعهم، فقال: رحمك الله يا ذر، ما علينا بعدك من خصاصة، وما بنا إلى أحد مع الله حاجة، وما يسرني أن أكون المقدم قبلك، ولولا هول المطلع لتمنيت أن أكون مكانك، ثم رفع رأسه وقال:(اللهم قد وهبت حقي فيما بيني وبينه له، اللهم فهب حقك فيما بينك وبينه له)، فبقي القوم متعجبين مما جاء منهم، ومما جاء منه من الرضا والتسليم
(1)
.
وقال أهل العلم: الرضا ثمرة من ثمرات المحبة
(2)
، له تعلق بالقلب، كماله الحمد. والحمد على الرضا له مشهدان:
أحدهما: علم العبد بأن الله سبحانه مستوجب لذلك، مستحق له لنفسه أحسن كل شيء خلقه، وأتقن كل شيء، هو العليم الحكيم.
الثاني: أن يعلم أن اختيار الله لعبده المؤمن، خير من اختياره لنفسه
(3)
.
إن علامة الرضا عن الله تعالى: الرضا بقضاء الله، وهو سكون القلب إلى
…
أحكام الله، والتفويض إلى الله قبل الرضا، والرضا بعد التفويض
(4)
.
أخرج مسلم في صحيحه، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا»
(5)
.
(1)
المنبجي: تسلية أهل المصائب، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 2 - 1426 هـ، ص (80).
(2)
الغزالي: إحياء علوم الدين، دار المعرفة - بيروت، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها (4/ 343).
(3)
المنجي: تسلية أهل المصائب، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 2 - 1426 هـ، ص (159).
(4)
المحاسبي: آداب النفوس، دار الجيل - بيروت، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها (151).
(5)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا ح (34).