الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذه الآية الكريمة، تعكس صورة المجتمع الذي يعيش بين الاهتداء والأمن، شريطة وجود الإيمان وانتفاء الظلم بجميع أنواعه، فهم آمنون من المخاوف والعذاب والشقاء، مهتدون إلى صراط الله المستقيم، وهذا الأمن والاهتداء حاصل بقدر إيمانهم،" فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقاً لا بشرك ولا بمعاص، حصل لهم الأمن التام، والهداية التامة، وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده، ولكنهم يعملون السيئات، حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن، وإن لم يحصل كمالها"
(1)
.
5 - مصدر من مصادر القوة للأفراد لمواجهة الباطل:
إن الباطل بجميع صوره وأنواعه، يقف حاجزاً أمام العاجزين، الذين لم تمتد أبصارهم إلى ما وراء الماديات، فلم يعرفوا إلا الحياة الدنيا، فاشتغلوا بها وجعلوها غاية ومقصداً، ولذا فهم عاجزون عن دفع أي شبهة وشهوة بخلاف من امتدت نفوسهم إلى ما وراء الماديات، وتعلقت قلوبهم بفاطر الأرض والسماوات، تجدهم أثبت الناس عند الفتن، وأشدهم في مواجهة الباطل.
فالقرآن الكريم يحكي عن سحرة فرعون، الذين أُغدق عليهم من نعيم الدنيا الموهوم، لم يشعروا بلذة السعادة والطمأنينة، إلا حين آمنوا بالله تعالى، فقالوا لفرعون بعد أن توعدهم:{فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} طه 72، أي:" أمرك وسلطانك في هذه الحياة الدنيا، وسيزول عن قريب"
(2)
، فإن قضاءك وحكمك إنما يكون في الدنيا، وهي كيف كانت فانية، وإنما مطلبنا سعادة الآخرة وهي باقية، والعقل يقتضي تحمّل الضرر الفاني، المتوصل به إلى السعادة الباقية، وإن الذي يذكره فرعون محض الدنيا، وإن منافع الدنيا ومضارها، لا تعارض منافع الآخرة ومضارها
(3)
.
(1)
السعدي: تيسير الكريم الرحمن، مؤسسة الرسالة، ط 1 1420 هـ، ص (263).
(2)
السمعاني: تفسير القرآن، دار الوطن - الرياض، ط 1 1418 هـ (3/ 342).
(3)
الرازي: مفاتيح الغيب، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط 3 1420 هـ (22/ 77 بتصرف).
لما وقّر الإيمان في قلوب السحرة، وعلموا ما عند الله جل وعلا من الأجر والفضل، قالوا:{إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)} [طه 73]، أي: والله جل وعلا خير لنا منك، وأبقى وأدوم ثواباً مما كنت وعدتنا ومنيتنا
(1)
.
والعجيب أن السحرة حين آمنوا وصدقوا وأيقنوا، تحولوا في لحظة من كفر وضلال، إلى إيمان واطمئنان وإجلال، وتحولوا من كفرة صادين عن سبيل الله تعالى، إلى وعاظ هادين إلى سبيل الرحمن، فكان من تمام وعظهم، ما قالوه لفرعون يحذرونه من نقمة الله، وعذابه الدائم السرمدي، ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد، قال الله تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)} [طه:74 - 76].
يقول الإمام القرطبي:" ومن قال هذا من قول السحرة قال: لعل السحرة سمعوه من موسى، أو من بني إسرائيل، إذ كان فيهم بمصر أقوام، وكان فيهم أيضاً المؤمن من آل فرعون، قلت: ويحتمل أن يكون ذلك إلهاماً من الله لهم، أنطقهم بذلك لما آمنوا"
(2)
.
فهذا الثبات والرسوخ، أثر من آثار الإيمان بالآخرة، إذ هو المحفز للصبر والتحدي، ومواجهة الباطل بكل عدته وقوته، ولذا قُلبت راية الكفر والظلم في الصباح، إلى راية الإيمان والعدل والتضحية في المساء.
(1)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، دار طيبة للنشر والتوزيع ت: سامي سلامة (5/ 305).
(2)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب المصرية - القاهرة، ط 2 - 1384 هـ، (11/ 227).