الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول اختلاف قوانين الدنيا عن قوانين الاخرة وسننها
" لقد جئنا من عالم، وسننتقل إلى عالم الغيب مرة أخرى، ولكل عالم سننه الخاصة به، والانتقال من عالم إلى عالم، يصحبه تحول في السنن التي تحكمنا أثناء ذلك الانتقال.
ألا ترى أن السنن التي تحكمنا ونحن أجنة في بطون أمهاتنا، تختلف عن السنن التي تنتظرنا خارج الرحم، بل إن السنن التي تحكم سكان الأرض على سطحها، تختلف عن السنن التي تحكم رواد الفضاء خارج الأرض فكيف بالسنن التي تنتظرنا بعد موتنا، وخروجنا من الحياة الدنيا "
(1)
.
فالحياة الآخرة لها " قوانين ونواميس وخصائص، تتناسب معها، ومع صلاحيتها للبقاء الأبدي، وأن السنن التي تسير عليها حياتنا في هذه الدنيا لا تتحكم في حياتنا الآخرة والأبدية، لأنها نشأة أخرى، لا نعرف من تفاصيلها، ولا من سننها ونواميسها، وما تكون عليه، إلا ما علمناه ربنا بوحيه "
(2)
ومن أبرز الشواهد الدالة على اختلاف الموازين والسنن الدنيوية، عن الموازين والسنن الأخروية - المسؤولية الذاتية الفردية -، فموازين الدنيا وقوانينها قد تجد فيها مدخلا لتحمل التبعات عن الجاني، فالعاقلة تحمل عن القاتل دية قتل الخطأ، في حين أن المسؤولية في الآخرة فردية، قال سبحانه وتعالى:{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم:95]، وقال جل شأنه:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر:18].
وقد يحكم الحاكم في القضية، على ظاهر ما يسمع من الشهود، وقد يصدر منهم الصدق أوالكذب، والأمانة أو الغش والخداع، أما في الدار الآخرة فالشهود صادقة، يُعبِّر كل شاهد عما لامس ووقع، قال تعالى:{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [فصلت (19 - 23].
(1)
عثمان جيلان: الإعجاز العلمي في عجب الذنب: 1، انظر موقع الهيئة العالمية للإعجاز.
(2)
الغزالي خليل: ثمرات الإيمان بالله واليوم الآخر، مقال ضمن مجلة البحوث الإسلامية، العدد 8، 1403 هـ (280)
ولذا قال الإمام ابن عبد البر في شرحه لحديث القبر وفتنته: " أحكام الآخرة لا مدخل فيها للقياس والاجتهاد، ولا للنظر والاحتجاج، والله يفعل ما يشاء لا شريك له "
(1)
.
" وقد ورد في السمع عن الصادق صلى الله عليه وسلم أمور تُوصف بها الآخرة، على خلاف أمور الدنيا، كخبر الصراط، ومرور الناس عليه، وخبر الميزان وتجسيم الأعمال ووزنها، ووصف أحوال أهل الجنة والنار، وقد قال تعالى: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47)} [النجم:47]، أي: خِلقة غير هذه النشأة الدنيوية "
(2)
، فوجب الإيمان والتسليم، قال الإمام القرطبي:" وهذا الباب ليس فيه مدخل للقياس، ولا مجال للنظر فيه، وإنما التسليم والانقياد لقول الصادق المرسل إلى العباد "
(3)
.
قال الحافظ ابن حجر معززا هذا المعنى: " ويقتضي الإيمان بأمور الآخرة أن ليس للعقل فيها مجال، ولا يعترض عليها بعقل، ولا قياس، ولاعادة وإنما يؤخذ بالقبول، ويدخل تحت الإيمان بالغيب، ومن توقف في ذلك دل على خسرانه وحرمانه "
(4)
.
ومن هنا يُعلم أن " العوالم الأخروية من أحوال الموت فما بعده، إلى الجنة والنار، ليست متولدة من الدنيا تولدا طبيعيا، بانقلاب الأطوار المتناسبة فيدركه العقل بالقواعد والقياسات والتنظير بما يراه من المكتشفات، وكذا يقال في سائر الغيبيات التي أثبتها الشرع، كالملائكة، والجن، ما في السماوات، وغيرها ليست متولدة من الأشياء التي للقواعد بها ارتباط وللعقل فيها مجال "
(5)
.
(1)
ابن عبد البر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: (22/ 254).
(2)
ابن عزوز: العقيدة الإسلامية: ص (310).
(3)
القرطبي: التذكرة: ص (171).
(4)
ابن حجر: فتح الباري: (11/ 395).
(5)
ابن عزوز: العقيدة الإسلامية: ص (308)