الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن هنا تجد أن مظاهر هذا الكون بأجمعه، تدل على أمر المعاد، وتشهد بوقوع يوم التناد، " وهذا شأن آيات الرب تعالى، فإنها أدلة معينة على مطلوب معين، مستلزمة للعلم به، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} [الأعراف:74] وهذه الآيات التي فصلها، هي التي بينها في كتابه من أنواع مخلوقاته، وهي آيات أفقية وحسية، آيات في نفوسهم، وذواتهم، وخلقهم وآيات في الأقطار والنواحي، مما يحدثه الرب تبارك وتعالى، مما يدل على وجوده، ووحدانيته، وصدق رسله، وعلى المعاد والقيامة "
(1)
.
المطلب الأول أدلة القرآن الكريم على إثبات اليوم الآخر، (الأدلة النقلية)
" إن كل عاقل إذا أمعن النظر في الآيات القرآنية الكريمة، يجدها قد سلكت في إثبات الآخرة، والنشر، والحشر، والحساب، وجميع ما هنالك، أحسن الطرق التي تنير العقول، وتبصرها منهاج الوصول إلى اعتقاد ذلك والإذعان إليه "
(2)
.
إن القرآن الكريم أشار تصريحا وتلميحا، إلى ما لا يُعد ولا يُحصى من الشواهد، والدلائل، والأمارات، الواردة في القيامة والمعاد، ويذكرنا القرآن الكريم في توجيهاته ووصاياه، بأن خالقنا سبحانه وتعالى سينقلنا من هذا المشهد المؤقت الذي نعايشه، إلى المشهد الدائم في الحياة الآخرة، وأنه جل شأنه سيبدل هذه المملكة السيارة، القابلة للفناء، إلى تلك المملكة السرمدية المخلوقة للبقاء
(3)
.
وقد أبرزت النصوص القرآنية الشواهد الدالة على اليوم الآخر، ومنحت المفاتح العقلية الرشيدة للوصول إليه، وقررت أدلة المعاد أحسن تقرير وأبينه، وأبلغه، وأوصله إلى العقول والفِطر
(4)
.
ومن الطرق التي سلكها القرآن المجيد ففي إثبات المعاد واليوم الآخر ما يلي:
1) الإخبار عنه:
(1)
ابن القيم: الروح، دار الحديث - القاهرة، 1424 هـ، ص (168).
(2)
عبدالله سراج الدين: الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها: ص (4).
(3)
سعيد حوى: الإسلام، دار السلام للطباعة - ط 3 - 1417 هـ، ص (701).
(4)
ابن القيم: زاد المعاد، مؤسسة الرسالة -بيوت، ط 27 - 1415 هـ (3/ 595).
الإخبار عن اليوم الآخر، وتقرير المعاد، جاء مستفيضا في القرآن الكريم وقد أكثر الله جل وعلا من ذكره، وأعلى من شأنه، فأخبر سبحانه وتعالى عنه وعما يكون فيه من الجزاء الأوفى
(1)
.
ومن أوجه ذكره في القرآن، والإخبار عنه:
أ الإقسام به: فقد أقسم المولى سبحانه وتعالى بيوم القيامة، في مواضع عدة في كتابه الكريم، فقال جل شأنه:{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)} [القيامة:1] قال الزجاج: " لا اختلاف بين الناس أن معناه: أقسم بيوم القيامة "
(2)
، وجواب القسم محذوف تقديره: لتبعثن، دل عليه قوله {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)}
(3)
[القيامة:36] وهذا بناء على أن (لا) في الآية زائدة، وأما على تقدير كونها نافية، فيكون تقدير محذوفها، فعل مناسب للمقام، وتقديرها هنا مثلا: لا صحة لما تزعمون أنه لا حساب ولا عقاب، ثم استأنف فقال: أقسم بيوم القيامة
(4)
" وقد أقسم الله جل شأنه في كتابه العزيز على أمور كثيرة، ترجع في جملتها إلى أمرين: الأول: أصول الإيمان، والثاني: حال الإنسان "
(5)
.
(1)
ابن سعدي: القواعد الحسان لتفسير القرآن، مكتبة الرشد - الرياض، ط 1 - 1420 هـ، ص (28).
(2)
الزجاج: معاني القرآن، عالم الكتب - بيروت، ط 1 - 1408 هـ (5/ 351).
(3)
السمين: الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، دار القلم - دمشق، (10/ 565).
(4)
مناع القطان: مباحث في علوم القرآن، مكتبة المعارف، ط 3 - 1421 هـ، ص (304).
(5)
محمد بكر إسماعيل: دراسات في علوم القرآن، دار المنار، ط 2 - 1419 هـ، ص (320).
ومن أصول الإيمان التي أقسم الله تعالى بها، القسم على الجزاء، والوعد والوعيد، ففي مثل قوله تعالى:{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)} [الذاريات:1 - 6] ثم ذكر تفصيل الجزاء، وذكر الجنة والنار، وذكر أن في السماء رزقهم وما يوعدون، ثم قال:{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات:
(1)
].
" ولم يرد في القرآن كله كلمة (أقسم) أبدا، وإنما استخدم لفظ (لا أقسم) و (لا) لتأكيد القسم، فقد يكون الشيء من الوضوح بمكان، بحيث لا يحتاج لقسم، وهذا تعظيم للشيء نفسه، وقد تعني (لا أقسم) أحيانا اكثر من القسم - زيادة في القسم "
(2)
.
وأقسم جل وعلا بمخلوقاته على جملة المعاد في كثير من الآيات:
- فقوله تعالى: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)} [الضحى:1 - 2] قسم " على إنعامه على رسوله، وإكرامه له، وإعطائه ما يرضيه، وذلك متضمن لتصديقه له، فهو قسم على صحة نبوته، وعلى جزائه في الآخرة، فهو قسم على النبوة والمعاد "
(3)
.
(1)
ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن، دار المعرفة - بيروت، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها، ص (6).
(2)
فاضل السامرائي: لمسات بيانية، دار عمار - الأردن، ط 3 - 1423 هـ، ص (588).
(3)
ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن، دار المعرفة - بيروت، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها، ص (72).
- وقوله سبحانه وتعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} [العصر:1 - 2]" فأقسم بالعصر الذي هو زمان أفعال الإنسان ومحلها، على عاقبة تلك الأفعال وجزائها، ونبه بالمبدأ، وهو خلق الزمان والفاعلين، وأفعالهم على المعاد، وأن حكمته التي اقتضت خلق الزمان، وخلق الفاعلين وأفعالهم، وجعلها قسمين خيرا وشرا، تأبى أن يسوي بينهم، وان لا يجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته "
(1)
.
- وقوله سبحانه وتعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)} [الانشقاق:16 - 18] قسمٌ، وجوابه {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)} [الانشقاق:19]، والمعنى هو تنقل الإنسان حالا بعد حال، من حين كونه نطفة، إلى مستقرة من الجنة أو النار. فكم بين هذين من الأطباق والأحوال للإنسان، وعليه: فالمقسم به وعليه من أعظم الأدلة على ربوبية الله تعالى وتوحيده، وصفات كماله، وصدقه، وصدق رسله، وعلى المعاد، ولهذا عقب ذلك بقوله:{فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)} [الانشقاق:20]؛ إنكارا على من لم يؤمن بعد ظهور هذه الآيات المستلزمة لمدلولها أتم استلزام
(2)
.
فالمتأمل في القسم الوارد في القرآن الكريم، يجد أنه ينبه العقول، ويوقظ الفطر، لأمر المعاد والآخرة، فهذا وجه من أوجه اهتمام القرآن الكريم بأخبار المعاد.
ووجه آخر في أمر القسم الذي يُؤكد به أمر المعاد، وهو أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقسم على الجزاء والمعاد في ثلاث آيات، فقال تعالى:
…
[يونس:53].
- {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3].
(1)
ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن، دار المعرفة - بيروت، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها، ص (84).
(2)
ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن، دار المعرفة - بيروت، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها، ص (113).
- {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)[التغابن:7].
يقول الإمام ابن القيم: " وهذا لأن المعاد إنما يعلمه عامة الناس بأخبار الأنبياء "
(1)
، فالنبي صلى الله عليه وسلم أكد إخباره عن البعث والمعاد باليمين، فهو تهديدٌ له وقعٌ في القلب، فكأنه قيل لهم: ما تنكرونه كائن لا محاله
(2)
.
ب الإخبار المؤكد لقيام الساعة وإتيانها:
يقول المولى سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} [الحجر:85]، فهي مؤكدة بـ {وَإِنَّ} (إن) واللام
(3)
، وفيه " إشارة إلى حتمية الحساب والجزاء "
(4)
" فإن ساعة إنفاذ الحق آتية لا محالة، فلا يريبك ما تراه من سلامة مكذبيك وإمهالهم "
(5)
.
يقول الشيخ الأمين الشنقيطي: " ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة، أن الساعة آتية، وأكد ذلك بحرف التوكيد الذي هو {وَإِنَّ} (إن) وبلام الابتداء
…
وذلك يدل على أمرين: أحدهما: إتيان الساعة لا محالة، والثاني: أن إتيانها أنكره الكفار؛ لأن تعدد التوكيد يدل على إنكار الخبر "
(6)
.
والآيات الدالة على إتيان الساعة، وأنها كائنة وواقعة لا محالة كثيرة في القرآن الكريم، منها قوله تعالى:
- {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} [الحج:7].
(1)
ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن، دار المعرفة - بيروت، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها، ص (113).
(2)
النسفي: مدارك التنزيل (3/ 492)، ابن كثير: تفسير القران العظيم ت: سامي سلامة (4/ 274).
(3)
الأشقر: القيامة الكبرى، دار النفائس - الأردن، ط 6 - 1415 هـ، ص (73).
(4)
عبدالكريم الخطيب: التفسير القرآني للقرآن، (7/ 259).
(5)
ابن عاشور: التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر - تونس، 1984 م، (14/ 76).
(6)
الأمين الشنقيطي: أضواء البيان، دار الفكر - بيروت، 1415 هـ، (2/ 313).
- {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)} [الروم:55].
فالتأكيد في هذه الآيات دليل على أمرين:
الأول: أن الساعة آتية لا محالة، والثاني: ليخرس ألسنة الذين ينكرون وقوعها وحدوثها
(1)
.
ج - تنويع الألفاظ والأساليب في الإخبار عن اليوم الآخر:
فقد أخبر المولى سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، عن الآخرة بألفاظ مختلفة كلها تدل على إمكانها، وإثباتها، ووقوعها.
فذكر لفظ الآخرة فيما يزيد على مائة مرة، فجاء ذكرها في عدة مقامات:
- ففي مقام مدح المؤمنين، يقول جل شأنه:{وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} [[البقرة:4].
- وفي مقام دعائهم وتضرعهم لربهم، يقول سبحانه وتعالى:
…
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} [البقرة:201].
- وفي مقام مدح بعض عباده الصالحين، يقول تعالى مثنيا على نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام:{وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)} [البقرة:130] وقال جل وعلا عن نبيه عيسى عليه السلام: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)} [آل عمران:45]،وقال سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)} [الضحى:4]" والمعنى: أي الذي أعطاك ربك في الآخرة، خير لك وأعظم من الذي أعطاك في الدنيا"
(2)
، قال ابن إسحاق:" أي ما عندي في مرجعك إلي يا محمد خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا"
(3)
، " ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -أزهد الناس في الدنيا وأعظمهم لها اطراحا، كما هو معلوم بالضرورة من سيرته"
(4)
(1)
محمد طنطاوي: التفسير الوسيط (8/ 75).
(2)
الخازن: لباب التأويل، (4/ 438).
(3)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، (2/ 95).
(4)
ابن كثير: تفسير القران العظيم ت: سامي سلامة (8/ 425).
- وفي مقام آخر يمدح عباده المؤمنين، وأوليائه المتقين، فيقول جل شأنه: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي
الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} [يونس:62 - 64]. فالله تعالى ولي المؤمنين، وناصرهم، ومؤيدهم في الدنيا، ورافع شأنهم ومقامهم في الآخرة، يقول نبي الله يوسف عليه السلام في مقام الخضوع والاعتراف:{فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} [يوسف:101].
- وفي مقام آخر يمتن الله تبارك وتعالى على عباده، بأنه له الآخرة والأولى، فيعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، وذلك أن سياق الآيات الواردة في هذا المقام، تتحدث عن المشركين، حيث قال الله تعالى عن شأنهم:{أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24)} [النجم:24]
قيل في معنى ذلك: هل له كل ما اشتهى؟، وقيل: للإنسان ما تمنى من البنين، أي يكون له
دون البنات، وقيل: أم للإنسان ما تمنى من شفاعة الأصنام
(1)
فجاء الجواب: {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)} [النجم:25]" أي إنما الأمر كله لله ملك الدنيا والآخرة، والمتصرف في الدنيا والآخرة، فهو الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن "
(2)
.
(1)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، (17/ 104).
(2)
ابن كثير: تفسير القران العظيم ت: سامي سلامة (7/ 485)
ولما كانت الآخرة والأولى بيده سبحانه وتعالى، كما قال:{وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)} [الليل:13] أخبر أن الآخرة خير من الأولى فقال سبحانه:
…
{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى:17] فـ " أخبر تعالى أن ما عنده من نعيم الجنة، ومواهب الآخرة، خير لمن اتقى، وعلم واهتدى، ثم بين الفرق بين حال الدنيا، وحال الآخرة، بأن هذه تنفد وتنقضي عن الإنسان، أو ينقضي عنها، ومنن الآخرة باقية دائمة"
(1)
، فذكر سبحانه وتعالى أن " آخرة المتقي خير من دنياه "
(2)
، فقال سبحانه وتعالى:{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)} [النساء:77] وقال: {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)} [الزخرف:35] ولهذا يحمده أولياؤه إذا دخلوا الجنة، فيقولون:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر:74]{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف:43]
…
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر:34] وهذا من مقتضيات حمده في الآخرة، قال تعالى:{وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} [سبأ:1].
- وفي مقام ذم المكذبين للمعاد، يقول جل وعلا:{وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)} [المؤمنون:74] قال ابن عباس رضي الله عنهما: لناكبون: لعادلون، وقال الحسن: تاركون له، وقال قتادة: حائرون، وقال الكلبي: معرضون. قال الإمام أبو حيان بعد ذكر هذه الأقوال: " وهذه أقوال متقاربة المعنى "
(3)
.
(1)
ابن عطية: المحرر الوجيز (3/ 419).
(2)
ابن كثير: تفسير القران العظيم، ت: سامي سلامة (2/ 360)
(3)
أبو حيان: البحر المحيط، دار الفكر - بيروت، 1420 هـ، (7/ 576).
- " وهكذا كل من خالف الحق، لا بد أن يكون منحرفا في جميع أموره "
(1)
قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص:50]{بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)}
…
[سبأ:8].
فالتعبير بلفظ الآخرة ذُكر في القرآن الكريم مطولا، فتارة يُذكر في مقام المدح، وتارة في مقام الذم للمكذبين به، أو المتناسين شأنه.
د- الإخبار عنها بذكر شيء من أحداثها وتفاصيل ما يجري فيها:
فذكر سبحانه جل في علاه ما يتعلق بالبعث وأنه حق فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)} [الروم: 56]، وقال سبحانه وتعالى:{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)} [المؤمنون:16]، وقال:{وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)} [الأنعام:36].
(1)
السعدي: تيسير الكريم الرحمن، مؤسسة الرسالة، ط 1 - 1420 هـ، ص (556).
وأشار سبحانه وتعالى إلى أن بعثهم في قدرته كخلقهم سواء، فقال سبحانه:{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)} [لقمان:28] قال الإمام ابن الجوزي: "ومعناها: ما خلقكم أيها الناس جميعاً في القدرة إلا كخلق نفس واحدة، ولا بعثكم جميعاً في القدرة إلا كبعث نفس واحدة، قاله مقاتل"
(1)
، ولذا قال جل شأنه:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)} [القيامة:3 - 4]، قال الإمام ابن كثير:" أي: أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه؟ بلى سنجمعها، ولو شئنا لبعثناه أزيد مما كان، فتجعل بنانه - وهي أصابعه مستوية "
(2)
.
وقال جل وعلا: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)} [الطارق:8]، قال ابن عباس وقتادة والحسن، وعكرمة: إنه على رد الإنسان بعد الموت لقادر
(3)
. فإن من قدر على البدء قدر على الإعادة
(4)
.
(1)
ابن الجوزي: زاد المسير ت: عبدالرزاق المهدي، ص (3/ 435).
(2)
ابن كثير: تفسير القران العظيم، ت: سامي سلامة (8/ 276).
(3)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (20/ 7).
(4)
ابن كثير ت: سامي سلامة (8/ 276)، ابن تيمية: المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 55).
وهذا أيضاً من الأدلة على البعث، وهي من الطرق التي يسلكها القرآن الكريم لإثبات المعاد، "يستدل على ذلك بالنشأة الأولى، وأن الإعادة أهون من الابتداء، كما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} [الحج:5]، وكما في قوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)} {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} يس (78)، وكما في قوله: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)} (الإسراء (98)، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (الروم (27) "
(1)
.
ولذا لما أتى الكذاب أبي بن خلف بعظم بال ففركه أمام النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (من يحي العظام وهي رميم، أنزل الله تعالى البرهان الساطع: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} (يس (79)، فانصرف مبهوتاً ببرهان نبوته، قال الإمام ابن كثير:" وهذا أقطع للحجة، وهو استدلاله للميعاد بالبداءة، فالذي خلق الخلق بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً، قادر على إعادتهم "
(2)
.
وقوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)} (الأعراف (29)، دليل على المعاد، قال الإمام ابن القيم:" فإن الآية اقتضت حكمين: أحدهما: أنه يعيدهم كما بدأهم على عادة القرآن في الاستدلال على الميعاد بالبداءة"
(3)
.
(1)
ابن تيمية: الصفدية (320)، درء تعارض العقل والنقل (1/ 32)، مجموع الفتاوى (17/ 251).
(2)
ابن كثير: البداية والنهاية ت: علي شيري (6/ 304).
(3)
أحكام أهل الذمة، (2/ 1031)، ابن القيم: أعلام الموقعين (1/ 113)، جلاء الأفهام ص (175).
وكذلك من الأدلة التي كررها الرب سبحانه وتعالى في كتابه مراراً، الاستدلال بالنظير على النظير كما في قوله تعالى:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)} (الروم (19)، فدل بالنظير على النظير، وقرب أحدهما من الآخر بلفظ الإخراج، أي: يخرجون من الأرض أحياء كما يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي "
(1)
.
ومنه أيضاً قوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)} (الحج (5)، وقوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)} (الحج (6) وقوله تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} (الحج (7)، وقوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [فصلت:39]، فقد جعل الله سبحانه إحياء الأرض بعد موتها، نظير إحياء الأموات، وإخراج النبات منها نظير إخراجهم من القبور، ودل بالنظير على نظيره، وجعل ذلك آية ودليلاً على خمسة مطالب:
أحدها: وجود الصانع وأنه الحق المبين، الثاني: أنه يحي الموتى، الثالث: عموم قدرته على كل شيء، الرابع: إتيان الساعة وأنها لا ريب فيها، الخامس: أنه يخرج الموتى من القبور، كما أخرج النبات من الأرض
(2)
.
(1)
ابن القيم: أعلام الموقعين، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 - 1411 هـ (1/ 108).
(2)
ابن القيم: إعلام ا لموقعين (1/ 112)، ابن القيم: زاد المعاد (3/ 595).
قال الإمام ابن القيم: وقد كرر سبحانه ذكر هذا الدليل في كتابه مراراً لصحة مقدماته، ووضوح دلالته، وقرب تناوله، وبعده عن كل معارضة شبهة، وجعله تبصرة وذكرى، كما قال تعالى:{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} (ق (7) {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) {ق (8)
(1)
.
ومن الأحداث التي عرض لها القرآن الكريم عرضاً وافياً:
(مشاهد القيامة): الحساب، والحشر، والعرض، والميزان، وغيرها من الأهوال والأحوال والصفات، ولذا فإن عقيدة المعاد قد حظيت بنصيب وافر من الآيات القرآنية، فلا تكاد تخلو سورة من سور القرآن الكريم من بضع آيات تتكلم عن عالم الآخرة، حتى إنه قيل: إن عدد الآيات التي أخبرت عن المعاد على نحو التصريح أو التلويح، قد بلغ أكثر من ألف آية
(2)
.
ومما يستدل به على المعاد، تسمية اليوم الأخر بأسماء تدل على أهميته وتعظيمه، ولذا أكثر القرآن الكريم من عرضها وبيانها.
قال الحسن في قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)} (المدثر (8): الناقور: والحسرة والبطشة الكبرى، والتغابن، والتناد، هذا كله يوم القيامة.
وقال قتادة: {الْحَاقَّةُ (1)} ، {مَا الْحَاقَّةُ (2)} [الحاقة:1 - 2]: حقت لكل عامل عمله، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)} قال: تعظيماً ليوم القيامة، وقال السدي:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة:4]: هو يوم الدين هو يوم الحساب. وقال سفيان بن عيينة: {يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9]: يوم يغبن أهل الجنة أهل النار، {يَوْمَ التَّنَادِ (32)} [غافر:32] يوم ينادي أهل النار أهل الجنة، {يَوْمَ التَّلَاقِ (15)} [غافر:15]، يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض
(3)
.
(1)
ابن القيم: إعلام الموقعين (1/ 112)، ابن القيم: مدارج السالكين (3/ 224).
(2)
الكعبي: المعاد يوم القيامة، مركز الرسالة، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها، ص (26).
(3)
ابن أبي الدنيا: الأهوال (22 وما بعده).
2) الاستدلال على المعاد بخلق السموات والأرض (قياس الأولى)
(1)
:
وقد بين الله سبحانه وتعالى هذا الدليل في القرآن الكريم في أكثر من آية فقال سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)} [الإسراء:99].
{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)} (يس (81){أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)} (الأحقاف (33){لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (غافر (57)، وهذا أبلغ الأدلة على المعاد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:" فإنه من المعلوم ببداهة العقول، أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق أمثال بني آدم والقدرة عليه أبلغ، وأن هذا الأيسر أولى بالإمكان والقدرة من ذلك"
(2)
.
فالله سبحانه وتعالى أكد هذا القياس بضربٍ من الأولى، فقد دلهم سبحانه بخلق السموات والأرض على الإعادة والبعث، فالقادر على خلق ما هو أكبر وأعظم منكم أقدر على خلقكم، وليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته
(3)
.
(1)
منظور رمضان: منهج القرآن الكريم في إثبات عقيدة البعث بعد الموت، بحث منشور في موقع جامعة أم القرى، دون ذكر تأريخ، ص (94)، الصلابي: فقه القدوم على الله ص (107)، السعدي: الفتاوى السعدية، ص (49)، مصطفى حلمي: منهج علماء الحديث، ص (236)، السيوطي: الإتقان في علوم القرآن (4/ 62).
(2)
ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل (1/ 32).
(3)
ابن القيم: إعلام الموقعين، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 - 1411 هـ (1/ 114).
قال أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} (الأعراف (54)، أي: لابتداع خلق السموات والأرض عندكم من خلق الناس - إن كنتم تستعظمون خلق الناس- ولكن أكثر الناس لا يعلمون: أي لا يعلمون أن خلق جميع ذلك هيّن على الله عز وجل وفي هذا تنبيه من الله عز وجل لمن كذب بالبعث، فنبههم أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق الناس بعد موتهم وإعادتهم
(1)
.
فالذي خلق السموات والأرض، ولم يكرثه خلقهن، بل قال لها: كوني فكانت، بلا ممانعة ولا مخالفة، بل طائعة مجيبة خائفة وجلة، أفليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى إنه على كل شيء قدير
(2)
.
ومن هنا استدل على المشركين المنكرين للبعث بهذه الآيات في قدرته على البعث، فقال سبحانه وتعالى:{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)} (النازعات 27 يعني: " أخلقكم بعد الموت أشد عندكم وفي تقديركم أم السماء؟ وهما في قدرة الله واحد
(3)
.
قال الإمام ابن عطية: " وفي هذه الآية دليل على أن بعث الأجساد من القبور، لا يتعذر على قدرة الله تعالى"
(4)
.
(1)
القيسي: الهداية إلى بلوغ النهاية، مجموعة بحوث الكتاب والسنة - كلية الشريعة - الشارقة، ط 1 - 1429 هـ (10/ 6451).
(2)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم ت: سامي سلامة (7/ 304).
(3)
البغوي: معالم التنزيل (8/ 329).
(4)
ابن عطية: المحرر الوجيز (5/ 434).
فمن تأمل عرف الحقيقة، ومن تفكر توصل إلى النتيجة، فأي الأمرين أشد وأصعب في تقديركم " أخلقكم بعد موتكم أم خلق السماء على عظمها وانطوائها على تعاجيب البدائع التي تحار العقول عن ملاحظة أدناها "
(1)
. ولذا يقول الإمام ابن القيم: " ولهذا قل أن تجيء سورة في القرآن إلا وفيها ذكرها، إما إخبارا عن عظمها وسعتها، وإما إقساماً بها، وإما دعاءً إلى النظر فيها، وإما إرشادا للعباد أن يستدلوا بها على عظمة بانيها ورافعها، وإما استدلالاً منه سبحانه بخلقها على ما أخبر به من المعاد والقيامة"
(2)
.
(3)
تنبيه القرآن الكريم إلى النظر في العوالم الكونية يؤدي إلى إثبات اليوم الآخر:
كثيرا ما يُذكر المولى سبحانه وتعالى بآياته الكونية التي أُمرنا التفكر والتأمل والتدبر فيها، كما قال سبحانه وتعالى:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)} [الأعراف:185]، وقوله سبحانه:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} [آل عمران:190].
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)} [يونس:6].
(1)
أبو السعود: إرشاد العقل السليم (9/ 101).
(2)
ابن القيم: مفتاح دار السعادة (2/ 198).
فهذه الآيات الكونية تدل على " أن هذا العالم البديع المحكم والمصنوع المتقن، الذي يسير بنظام وإحكام، لا يجوز في مقتضيات العقول الصحيحة أن يكون أمره عبثاً، ولا أن يكون بناؤه بطالاً، ويستحيل عقلاً أن يكون ليس وراءه حكمة عليا هي نتيجة لحكمة خلقه ونشأته، بل لا بد وأن هناك نشأة أخرى وراءه هذه النشأة، تظهر فيها نتائج التكاليف الشرعية، ويميز الله تعالى فيها الخبيث من الطيب والصالح من الطالح، والمسيء من المحسن ولولا تلك النشأة الآخرة لضاعت حكمة خلق هذا العالم، ولكان أمره عبثاً باطلاً: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} (آل عمران (191) بل ولولا حقيقة الآخرة لضاعت حكمة الشرائع الإلهية الحكيمة القويمة، لأنه حينئذ يتساوى الحق والباطل، والعدل والظلم، والفساد والصلاح، وهذا أمر باطل محال كإحالة وبطلان تساوي الظلمة والنور والعمى والبصر، والجهل والعلم، والأحياء والأموات، وإلى هذا نبه الله سبحانه وتعالى العقلاء فقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)} (الحجر (85)، وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)} (الدخان (38)، وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} (ص (27) "
(1)
،
(1)
عبدالله سراج الدين: الإيمان بعوالم الآخرة، مطبعة الأصيل - حلب، ط 2 - 1404 هـ، ص (6 - 7) ..
سلْ هذه الكواكب العظيمة الخلق " من الذي خلقها وأحسن خلقها، ورفع مكانها، وزين بها قبة العالم وفاوت بين أشكالها ومقاديرها، وألوانها وحركاتها وأماكنها من السماء، وأنت إذا تأملت أحوال هذه الكواكب وجدتها تدل على المعاد كما تدل على المبدأ وتدل على وجود الخالق وصفاته وكماله وربوبيته وحكمته ووجدانيته أعظم دلالة، فكما جعل الله النجوم هداية في طريق البر والبحر، فهي هداية في طريق العلم بالخالق سبحانه وقدرته وعلمه وحكمته، والمبدأ والمعاد والنبوة "
(1)
.
ومن أعجب آيات الله الكونية الدالة على المعاد: الليل والنهار، قال الله:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (فصلت (37)، " فانظر إلى هاتين الآيتين وما تضمنتاه من العبر والدلالات على ربوبية الله وحكمته كيف جعل الليل سكناً ولباساً، يغشى العالم فنسكن فيه الحركات، وتأوي الحيوانات إلى بيوتها، والطير إلى أوكارها، وتستجم فيه النفوس، وتستريح من كد السعي والتعب، حتى إذا أخذت منه النفوس راحتها وسبتها وتطلعت إلى معيشتها وتصرفها، جاء فالق الإصباح سبحانه وتعالى النهار يقدم جيشه بشير الصباح، فهزم تلك الظلمة ومزقها كل ممزق، وكشفها عن العالم، فإذا هم يبصرون، فانتشر الحيوان وتصرف في معاشه ومصالحه وخرجت الطيور من أوكارها، فيا له من معاد ونشأة دال على قدرة الله سبحانه على المعاد الأكبر"
(2)
.
(1)
ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن، دار المعرفة - بيروت، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها، ص (284).
(2)
ابن القيم: مفتاح دار السعادة، دار الكتب العلمية، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها، (203)
فالنظر في آيات الله تعالى ومخلوقاته، دليل يهدي إلى الحق والصواب، فكما أن في المفعولات من المصالح والحكم والغايات المحمودة الدالة على حكمته سبحانه، فكذا ما فيها من ابتداء الشيء في غاية النقص والضعف ثم سوقه إلى تمامه ونهايته دليل على وقوع المعاد، وما فيها من أحوال النبات والحيوان وتصرف المياه دليل على إمكانه
(1)
، ولذا كانت هذه الحياة بما فيها دليلاً على الحياة يوم المعاد
(2)
.
(4)
الاستدلال بوقائع وأحداث حصل فيها إحياء الأموات، وحكاية رجوع بعض الناس لهذا العالم المشاهد:
القرآن الكريم حافل بذكر النماذج والشواهد الدالة على إمكان المعاد وذلك بتحقق وجوده في الواقع الدال على عدم امتناعه، فقد ورد في النصوص ما يدل على البعث، استناداً إلى تحققه بالفعل في هذه
الحياة، وأنه إذا كان الله قد بعث بعض من مات في هذه الحياة، فهذا دليل على الإمكان الخارجي لبعث الأموات بعد موتهم
(3)
.
فالقرآن لم يكتف في بيان مكان المعاد بمجرد الإمكان الذهني، بل بين الأدلة التي تؤكد - يقيناً - وقوع المعاد فعلاً، وهو الإمكان الخارجي في الواقع
(4)
.
والوقائع المذكورة في القرآن الكريم التي حصل فيها الإحياء بعد الموت كثيرة، وهي أمثلة حسية مشاهدة، فيميتهم ربهم جل وعلا ثم يحييهم ليُبين لهم قدرته على ذلك، وهي أدلة محكمة لا تدع مجالاً للشك، ولا سبيلاً للتردد
(أ): قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)} [البقرة: 55 - 56].
(1)
ابن القيم: الفوائد، دار الكتب العلمية -بيروت، ط 2 - 1393 هـ، ص (20 - 21 بتصرف).
(2)
ابن القيم: مدارج السالكين، دار الكتاب العربي - بيروت، ط 3 - 1416 هـ (3/ 244).
(3)
ابن القيم: مدارج السالكين، دار الكتاب العربي - بيروت، ط 3 - 1416 هـ (3/ 244).
(4)
تامر متولي: منهج الشيخ محمد رشيد في العقيدة، ص (815)، وانظر: ابن تيمية: درء التعارض (1/ 30 - 32).
قال الربيع بن أنس: قوله " ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ": فبعثوا من بعد موتهم، لأن موتهم ذلك كان عقوبة لهم فبعثوا من بعد الموت ليوفوا آجالهم
(1)
.
والقائلون هذا الكلام، هم السبعون الذي حملهم موسى إلى الطور ليسمعوا كلام الله تعالى، فإنهم لما سمعوا كلام الله قالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، أي: عياناً، "فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ" أي الموت. "وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ" أي: ينظر بعضكم إلى بعض حين أخذكم الموت
(2)
.
وهذا دليل واضح، وبرهان ساطع، على إمكان وقوع المعاد، قال النحاس: وهذا احتجاج على من لا يؤمن بالبعث من قريش، واحتجاج على أهل الكتاب إذا أخبروا بهذا
(3)
.
(ب): وقال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)} [البقرة:72 - 73].
فالشاهد من قصة قتيل بني إسرائيل: أن الله تعالى أحيا ميتهم بعد موته، فشهد على قاتله، ثم سقط ميتاً، وهذه من أعظم الآيات والدلائل على كمال القدرة الإلهية، فمن قدر على إحياء النفس واحدة، قدر على إحياء الأنفس كلها
(4)
1)، ففي الآية دليل على البعث في الآخرة.
وسواء كان الخطاب موجهاً لقوم موسى عليه السلام أو كان موجهاً لمشركي قريش، فهو حجة ظاهرة بينة على البعث والمعاد.
(1)
ابن أبي حاتم: تفسير القرآن العظيم، مكتبة الباز -مكة، ط 3 - 1419 هـ (1/ 112)
(2)
السمعاني: تفسير القرآن، دار الوطن - الرياض، ط 1 - 1418 هـ (1/ 81).
(3)
عمر بن عادل: اللباب في علوم الكتاب، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 - 1419 هـ (2/ 87).
(4)
الزمخشري: الكشاف، دار الكتاب العربي - بيروت، ط 3 - 1407 هـ (1/ 153).
"كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى": أي: إحياء كمثل هذا الإحياء
(1)
، الذي تشاهدونه وترونه واقعاً، ولا تدرون كيف وقع، ومثل هذا اليسر الذي لا مشقة فيه ولا عسر، إن المسافة بين طبيعة الموت، وطبيعة الحياة مسافة هائلة قدير الرؤوس، ولكنها في حساب القدرة الإلهية أمر يسير، كيف؟ هذا مالا أحد يدريه، ولا يمكن لأحد إدراكه، إن إدراك الماهية الكيفية هنا سر من أسرار الألوهية، لا سبيل إليه في عالم الفانين، وإن كان في طوق العقل البشري إدراك دلالته والاتعاظ بهما
(2)
(ج): وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)} [البقرة:243].
أخبر الله تعالى أن أهل هذه القرية خرجوا من ديارهم ومنازلهم فارين من الطاعون. وقيل: من الجهاد في سبيل الله، فنزلوا وادياً أفيح، فملؤوا ما بين عدوتيه، فأرسل الله إليهم ملكين أحدهما من أسفل الوادي، والآخر من أعلاه، فصاحا بهم صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد فميزوا إلى حظائر، وبنا عليهم جدران وقبور وفنوا وتمزقوا، فلما كان بعد دهر، مر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له: حزقيل، فسأل الله أن يحييهم على يديه، فأجابه وأمره أن يقول: أيتها العظام البالية، إن الله يأمرك أن تجتمعي، فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض، ثم أمره فنادى: أيتها العظام إن الله يأمرك بأن تكتسي حلماً وعصباً وجلداً، فكان ذلك وهو يشاهده، ثم أمره فنادى: أيتها الأرواح إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره، فقاموا أحياء ينظرون قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة
(3)
(1)
الشوكاني: فتح القدير، دار ابن كثير - دمشق، ط 1 - 1414 هـ (1/ 118).
(2)
سيد قطب: في ظلال القرآن، دار الشروق - بيروت، القاهرة، ط 17 - 1412 هـ (1/ 80).
(3)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم ت: سامي سلامة (1/ 611).
ففي هذه القصة: تنبيه على المعاد، وأنه كائن لا محالة
(1)
، واحتجاج على المنكرين للبعث، فدلهم عليه بإحياء الموتى في الدنيا
(2)
.
قال ابن كثير:" وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة "
(3)
.
آية عظيمة من آيات الله عز وجل الشاهدة على كمال القدرة، تفيد علماً جازماً قاطعاً بأن الذي يقدر على إحياء الرحم عن الرحم الحيواني، لقادر على إحياء النفس الميتة
(4)
، فهذا الرجل جرت عليه هذه الأحداث المشاهدة، فأخبر عن نفسه عندما عاين من قدرة الله تعالى في إحيائه الموتى، فتيقن ذلك بالمشاهدة فأقر أنه يعلم أن الله على كل شيء قدير، أي: أعلم أن هذا الضرب من العلم الذي لم أكن أعلمه على معاينه
(5)
.
(هـ) وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى .... } [البقرة:260].
(1)
أبو حيان: البحر المحيط، دار الفكر - بيروت، 1420 هـ، ت: صدقي جميل، (2/ 559).
(2)
ابن الجوزي: زاد المسير، ت: عبدالرزاق المهدي، ص (1/ 220).
(3)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم ت: سامي سلامة (1/ 661).
(4)
الراغب الأصفهاني: تفسير الراغب الأصفهاني (1/ 544).
(5)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (3/ 396).
أحب خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي ملئ قلبه إيماناً ويقيناً أن يترقى في درجات اليقين من العلم إلى المشاهدة والمعاينة، فهو يعلم من كمال قدرة الله عز وجل، أنه يحيي ويميت، ولذا ناظر بها النمرود فقال:"ربي الذي يحيي ويميت"، فأحب أن يترقى من علم اليقين في ذلك إلى عين اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدة
(1)
، فقال:" رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ".
قال الإمام الرازي: "وهي أيضاً دالة على صحة البعث"
(2)
.
ومع ما في هذه الآية الكريمة من دلالة على ولايته تعالى للمؤمنين، إلا إن فيها دليلاً واضحاً، وبرهاناً ساطعاً على فضل نبي الله إبراهيم، قال أبو السعود: وناهيك بالقصة دليلاً على فضل الخليل، وعن القرعة في الدعاء وحسن الأدب في السؤال، حيث أراه الله تعالى ما سأله في الحال عل أيسر ما يكون من الوجوه
(3)
.
فهاتان الآيتان المتتاليتان دليلان عظيمان محسوسان في الدنيا قبل الآخرة على البعث والجزاء، واحد أجراه الله على يد رجل شاك في البعث على الصحيح، كما تدل عليه الآية الكريمة، والآخر على يد خليله إبراهيم
(4)
.
(و) وقال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)} (الكهف (10 - 12)، وقال سبحانه وتعالى:{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ .... } [الكهف:19].
(1)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم ت: سامي سلامة (1/ 689).
(2)
الرازي: مفاتيح الغيب (7/ 34).
(3)
أبو السعود: إرشاد العقل السليم (1/ 257).
(4)
السعدي: تيسير الكريم الرحمن، الرسالة، ط 1 - 1420 هـ، ت: عبدالرحمن اللويحق، ص (93).
ما حصل لأهل الكهف من أحداث تُعد من كراماتهم، وإسباغ ألطاف الله تعالى عليهم، وهي في ذاتها دليل يقيني على البعث والمعاد، ولذا أشار سبحانه وتعالى لهذا المقصد الأساس من سرد أحداث هذه القصة فقال:" وكذلك أعثرنا عليهم" أي: كما بعثناهم بعد طول رقدتهم، وكذلك أعثرنا عليهم، أي: أطلعنا عليم الفريق الذي كانوا في شك من بعث الأجساد، ليعلموا أن وعد الله حق: أي: في بعث الأجساد يوم القيامة. وأن الساعة لا ريب فيها: أي إتيانها لا شك فيه
(1)
.
وقد ذكر غير واحد من السلف، أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث، وفي أمر القيامة، وقال عكرمة: كان منهم طائفة قد قالوا: تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد، فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك
(2)
، فأطلعهم الله تعالى على أصحاب الكهف، فاستدلوا بهم على صحة بعث الأجساد، لأن انتباههم بعد ذلك النوم الطويل، يشبه من يموت ثم يبعث
(3)
والنوم أخو الموت.
إن العبرة في خاتمة هؤلاء الفتية، هي في دلالتها على البعث، بمثل واقعي محسوس، يقرب إلى الناس قضية البعث، فيعلموا أن وعد الله بالبعث حق وأن الساعة لا ريب فيها، وعلى هذا النحو بعث الله الفتية من نومهم، وأعثر قومهم عليهم
(4)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فإن قصة أصحاب الكهف هي من آيات الله، فإن مكثهم نياماً لا يموتون ثلاثمائة سنة آية دالة على قدرة الله ومشيئته، وأنه يخلق ما يشاء، وهي آية دالة على معاد الأبدان"
(5)
.
(1)
مكي بن أبي طالب: الهداية إلى بلوغ النهاية، مجموعة بحوث الكتاب والسنة - كلية الشريعة - الشارقة، ط 1 - 1429 هـ (6/ 4352).
(2)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، ت: سامي سلامة (5/ 146).
(3)
ابن عادل: اللباب في علوم الكتاب، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 - 1419 هـ (12/ 452).
(4)
سيد قطب: في ظلال القرآن، دار الشروق - بيروت، القاهرة، ط 17 - 1412 هـ (4/ 2264).
(5)
ابن تيمية: الجواب الصحيح، ص (5/ 384)، ابن تيمية: الرد على المنطقيين ص (319).
فهذه الشواهد الحية المذكورة في القرآن العزيز، مع ضميمة ما أثبته القرآن من معجزة المسيح عيسى عليه السلام من إحياء الموتى بإذن الله، قال تعالى عن المسيح:{وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ..... } [آل عمران:49].
فهذه الأمور التي قصها الله من إحياء الآدميين من بعد موتهم مرة بعد مرة ومن إحياء الحمار، ومن إبقاء الطعام والشراب مائة عام لم يتغير، ومن إبقاء النيام ثلاثمائة وتسع سنين، ومن تمزيق الطيور الأربعة، وجعلهن أربعة أجزاء على الجبال، ثم إتيانهن سعياً لما دعاهن إبراهيم الخليل عليه السلام فيها أنواع من الاعتبار، منها: أن هذا من أعظم الدلالة عل إمكان معاد الأبدان، وإعادة الأرواح إليها، فإنه لا أدل على إمكان الشيء من وقوعه، أو وقوع نظيره، فلما كان هذا واقعاً، علم أنه ممكن
(1)
.
(5)
: أن الله سبحانه وتعالى أثبت إمكان الحشر والنشر، بناءً على أنه تعالى قادر على أمور تشبه الحشر والنشر، وقد قرر الله تعالى هذه الطريقة على وجوه فأجمعها ما جاء في سورة الواقعة
(2)
. فقد احتج سبحانه وتعالى على إمكان المعاد في هذه السورة بأمور أربعة:
الأول: قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)} [الواقعة:58 - 59].
وهذا احتجاج على المكذبين بالبعث بالقدرة على ابتداء الخلق، كما قال تعالى:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)} [يس:78]
(3)
(1)
ابن تيمية: الصفدية، مكتبة ابن تيمية - مصر، ط 2 - 1406 هـ (1/ 186).
(2)
الرازي: مفاتيح الغيب، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط 3 - 1420 هـ (2/ 354).
(3)
الزجاج: معاني القرآن وإعرابه، عالم الكتب - بيروت، ط 1 - 1408 هـ، ص (1/ 114).
ووجه الحجة عليهم: بهذه النطفة التي تمنون في أرحام نسائكم {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ} : أي: أأنتم تخلقون هذا المني حتى يصير فيه الروح، {أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} 2) أي: بل نحن الخالقون.
قال الأزهري: " إن الله احتج عليهم بأبلغ دليل في البعث والإحياء بعد الموت في هذه الآية، وذلك أن المني الذي يسقط من الإنسان ميت، ثم يخلق الله منه شخصًا حياً، وقد كانوا مقرين أن الله خلقهم من النطف، وكانوا منكرون للإحياء بعد الموت، فألزمهم أنهم لما أقروا بخلق حي من نطفة ميتة يلزمهم أن يقروا بإعادة الحياة في ميت، ومعنى الآية: كما أقررتم بذلك فأقروا بهذا "
(1)
.
وقال الإمام الرازي في تقرير هذه الحجة بوجه بديع مفاده: " أن أجزاء المني الحاصل من فضلة الرحم يجمع أجزاء طلبه، وأن تلك الأجزاء كانت متفرقة، فكانت أولاً في أطراف العالم، فجمعها المولى سبحانه في بدن ذلك الحيوان، وكذا كانت متفرقة في أطراف بدن الحيوان، فجمعها الله سبحانه وتعالى في أوعية المني، ثم أخرجها ماء دافقاً إلى قرار الرحم، فإذا كانت هذه الأجزاء متفرقة، فجمعها الله سبحانه في أوعية المني، ثم أخرجها ماء دافقاً إلى قرار الرحم، وكوّن منها ذلك الشخص، فإذا افترقت بالموت مرة أخرى فكيف يمتنع عليه جمعها مرة أخرى"
(2)
.
الثاني: قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)} [الواقعة:63 - 64].
وهذه حجة أخرى على منكري البعث ووجهها:
(1)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب المصرية - القاهرة، ط 2 - 1384 هـ، (17/ 216)
(2)
الرازي: مفاتيح الغيب، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط 3 1420 هـ (2/ 35).
أن هذا خطاب للمكذبين بالبعث يقول فيه المولى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63)} أي: أخبروني عما تحرثون من أرضكم فتطرحون فيها البذر، أنتم تنبتونه وتحصلونه زرعاً، فيكون فيه السنبل والحب أم نحن نفعل ذلك؟ وإنما منكم البذر وشق الأرض، فإذا أقررتم بأن إخراج السنبل من الحب ليس إليكم، فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وإعادتهم
(1)
.
فالقصة العجيبة التي تمثلها كل حبة وكل ندرة، والخارقة التي تنبت من قلبها وتنمو وترتفع فكلها من صنع الخالق، ولو شاء لم تبدأ رحلتها، ولم تتم قصتها، ولجعلها حطاماً قبل أن يؤتى ثمارها، ولكن هي بمشيئته تعالى تقطع رحلهاً من البدء إلى الختام، وهي وصرة من صور الحياة التي تنشئها القدرة الإلهية وترعاها.
فماذا في النشأة الأخرى من غرابة، وهي هي النشأة الأولى؟
(2)
الثالث: قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)} [الواقعة: 68 - 70].
ووجه هذه الحجة على المكذبين بالبعث:
أن الله تعالى يقول لهم {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} أي: السحاب {أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)} أي: بل نحن المنزلون، فهو سبحانه ينبههم على عظيم قدرته
(3)
، فكأنه يقول لهم: فإذا عرفتم بأني أنزلته، فلم لا تشكروني بإخلاص العبادة لي؟ ولم تنكرون قدرتي على الإعادة
(4)
.
(1)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 17/ 214)،ابن عادل: اللباب في علوم الكتاب ـ (18/ 441952)
(2)
سيد قطب: في ظلال القرآن، دار الشروق - بيروت، القاهرة، ط 17 1412 هـ (6/ 3469).
(3)
السمعاني: تفسير القرآن،، دار الوطن - الرياض، ط 1 1418 هـ (5/ 356).
(4)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب المصرية - القاهرة، ط 2 - 1384 هـ، (17/ 221)
وذكر الإمام الرازي
(1)
وجه الدلالة من الآية في الحجة على المكذبين بالبعث من عدة أوجه كلها تدل على جواز الحشر:
أولها: أن الماء جسم ثقيل بالطبع، واصعاد الثقيل، أمر على خلاف الطبع، فلا بد من قاهر يقهر الطبع، ويبطل الخاصية، ويصعد ما من شأنه الهبوط والنزول.
ووجه دلاله هذا الدليل على جواز الحشر: أن صعود الثقيل قلب للطبيعة، فإذا جاز ذلك، فلم لا يجوز أن يظهر الحياة والرطوبة من حساوة التراب والماء؟
ثانيها: أن تلك الذرات المائية اجتمعت بعد تفرقها، فلما قدر على جمع تلك الذرات المائية بعد تفرقها، فلِمَ لا يجوز جمع الأجزاء الترابية بعد تفرقها؟
ثالثها: تسييرها بالرياح، فإذا قدر على تحريك الرياح التي تضم بعض الأجزاء المتجانسة إلى بغض، فلم لا يجوز ها هنا؟
رابعها: إنزالها في مظان الحاجة، والأرض الجرز، فإذا أنشأ سبحانه وتعالى السحاب لحاجة الناس، فهاهنا الحاجة إلى إنشاء المكلفين مرة أخرى ليصلوا إلى ما استحقوه من الثواب والعقاب أولى.
الرابع: قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72)} [الواقعة:71 - 72].
قال أبو حيان:" والنار من أعظم الدلائل على البعث، وفيها انتقال من شيء إلى شيء، وأحداث شيء بعد شيء"
(2)
.
ووجه الدليل والحجة من الآية: هذه النار التي تظهر منها بالقدح من الشجر الرطب: {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72)} أي: المخترعون الخالقون، فإذا عرفتم قدرتي فاشكروني، ولا تنكروا قدرتي على البعث
(3)
.
(1)
الرازي: مفاتيح الغيب، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط 3 1420 هـ (2/ 354 - بتصرف)
(2)
أبو حيان: البحر المحيط، دار الفكر - بيروت، 1420 هـ، ت: صدقي جميل، ص (10/ 90).
(3)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن،، دار الكتب المصرية - القاهرة، ط 2 - 1384 هـ، (17/ 221).
"فإن النار صاعدة، والشجرة هابطة، وأيضاً النار لطيفة، والشجرة كثيفة، وأيضاً نورانية، والشجرة ظلمانية، والنار حارة يابسة، والشجرة باردة رطبة، فإذا أمسك الله تعالى في داخل تلك الشجرة الأجزاء النورانية النارية، فقد جمع بقدرته بين هذه الأشياء المتنافرة، فإذا لم يعجز عن ذلك، فكيف يعجز عن تركيب الحيوانات وتأليفها "
(1)
!
إن أدلة إثبات المعاد وإمكانه كثيرة، ولها طرق عديدة، فمن طرقه التي يثبت بها غير ما ذُكر:
(أ) أن أسماء الله تعالى وصفاته، مستلزمة لإثبات المعاد واليوم الآخر، فمن تأمل" ما أخبر به الله ورسوله من شأن ذلك اليوم وأحكامه، وظهور عزته تعالى وعظمته، وعدله، وفضله ورحمته، وأثار صفاته المقدسة التي لو خلقوا لدار البقاء، لتعطلت وكماله سبحانه ينفي ذلك، وهذا دليل مستقل لمن عرف الله تعالى وأسمائه وصفاته على وقوع المعاد"
(2)
.
فمن تأمل اسم الله السلام، وجده متضمنا للكمال السالم من كل ما يضاده فمن عرفه هذا الاسم، ووفاه معناه، وجده مستلزماً لإرسال الرسل
…
وإنزال الكتب، وشرع الشرائع، وثبوت المعاد
(3)
.
وكذا اسمه الحميد المجيد سبحانه وتعالى، يمنع ترك الإنسان سدى مهملاً معطلاً، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب، وكذلك اسمه الحكيم يأبى ذلك
(4)
.
فهذه من موجبات أسمائه الحسنى ومقتضياتها الدالة على المعاد.
(ب) أن النظر في المفعولات، وما فيها من ابتداء الشيء في غاية النقص والضعف، ثم سوقه إلى تمامه ونهايته دال على وقوع المعاد
(5)
.
(1)
الرازي: مفاتيح الغيب، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط 3 1420 هـ (2/ 355)
(2)
ابن القيم: شفاء العليل، دار المعرفة - بيروت، 1398 هـ، ص (244).
(3)
ابن القيم: أحكام أهل الذمة، رمادي للنشر - الدمام، ط 1 1418 هـ (1/ 415)
(4)
ابن القيم: مدارج السالكين، دار الكتاب العربي - بيروت، ط 3 1416 هـ (1/ 419)
(5)
ابن القيم: الفوائد، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 2 - 1393 هـ، ص (21)
(ج)
…
أنك إذا فكرت في الأكل والشرب واللباس والجماع والراحة وسائر ما يستلذ به، رأيته يدفع بها ما قابله من الآلام والبليات، أفلا تراك تدفع بالأكل ألم الجوع، وبالشرب ألم العطش، وباللباس ألم الجحر والبرد، وكذا سائرها، ومن هنا قال بعض العقلاء: أين لذاتها لنا، هي دفع الآلام لا غير فأما اللذات الحقيقية فلها دار أخرى، ومحل آخر غير هذه، فوجود هذه الآلام واللذات الممتزجة المختلطة من الأدلة على المعاد، وأن الحكمة التي اقتضت ذلك هي أولى باقتضاء دارين، دار خالصة للذات لا يشوبها ألم ما ودار خالصة للآلام لا يشوبها لذة ما، والدار الأول الجنة والدار الثانية النار
(1)
.
(د) أن خلق آدم عليه السلام من تراب، من أبين الأدلة على المعاد، وكذا قصة يحيى وعيسى عليهما السلام، فإنه تعالى استدل على إمكانهما، بعين ما استدل به على جواز الحشر، حيث قال:{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)} [مريم:9]. ومن تأمل طريقة القرآن الكريم في إثبات المعاد واليوم الآخر، وجدها مغنية، كافية شافية، موصلة إلى المطلوب، متضمنة للجواب عن الشبه العارضة لكثير من الناس.
فالله سبحانه وتعالى يضرب الأمثال المعقولة التي تدل على إمكان المعاد تارة ووقوعه تارة أخرى، فيذكر أدلة القدرة الدالة إلى إمكان المعاد، وأدلة الحكمة المستلزمة لوقوعه
(2)
.
وقد أشارت آيات سورة ياسين مجتمعة على أدلة البعث وإمكانه
(3)
.
(1)
ابن القيم: مفتاح دار السعادة، دار الكتب العلمية، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها، (1/ 275).
(2)
الرازي: مفاتيح الغيب (2/ 356)، آمنة نصير: الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في مباحث العقيدة، ص (444).
(3)
ابن القيم: إعلام الموقعين، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 1411 هـ (1/ 107 - 110 بتصرف).
فلما جاء المجادل المشرك المعاند المكذب، سرد له القرآن جملة أدلة المعاد، فذكّره مبدأ خلقه، ليدله به على النشأة الثانية، فقال سبحانه:{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس: 77 - 78] فهذا الجاحد لو ذكر خلقه لما ضرب المثل، فأجيب عن سؤاله حين سأل متعنتاً {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79] فهذا جواب ساطع، واستدلال قاطع على تكبره وتكذيبه، ثم أكد هذا المعنى بالإخبار بعموم علمه لجميع الخلق.
ثم أرشد عباده إلى دليل واضح جلي، متضمن للجواب عن شبه المنكرين بألطف الوجوه وأبينها وأقربها إلى العقل فقال:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)} [يس:80] فالذي أخرج النار من
…
الشجرة الخضراء، قادر على إخراج الأموات من قبورهم.
ثم ذكر ما هو أوضح للعقول من كل دليل، وهو خلق السموات والأرض مع عظمها وسعتها، وأنه لا نسبة للخلق الضعيف إليهما، فمن لم تعجز قدرته وعلمه عن هذا الخلق العظيم الذي هو أكبر من خلق الناس، كيف تعجز عن إحيائهم بعد موتهم!
ثم قرر هذا المعنى بذكر وصفين من أوصافه المستلزمة لما أخبر به فقال: {بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)} (بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) فكونه خلاقاً عليماً يقتضى أن يخلق ما يشاء، ولا يعجزه ما أراده من الخلق.
ثم قرر هذا المعنى بأن عموم إرادته وكمالها، لا يقصر عنه و، ولا عن شيء أبداً، فقال:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس:82] فلا يمكنه الاستعصاء عليه، ولا يتعذر عليه، بل يأتي طائعاً منقاداً لمشيئته وإرادته.