الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثامن أول من يستفتح باب الجنة ، وأول الأمم دخولاً إلى الجنة:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - في الواسطية -:" وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم وأول من يدخل الجنة من الأمم: أمته "
(1)
.
مما اتفقت عليه الأمة، ودلت عليه دلائل الكتاب والسنة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، وفضائله كثيرة.
يقول الإمام ابن تيمية:" وفضائله صلى الله عليه وسلم وفضائل أمته كثيرة، ومن حين بعثه الله، جعله الله الفارق بين أوليائه، وبين أعدائه "
(2)
.
ويقول الإمام ابن القطان الفاسي في حكاية إجماع العلماء على فضائل النبي صلى الله عليه وسلم:" وكذلك اختص محمداً صلى الله عليه وسلم -بأن أنزل عليه القرآن العظيم، والذكر الحكيم المعجز
…
، الذي ليس في قدر المخلوقين الإتيان بمثله، ولو تظاهر على ذلك الإنس والجن، وبأن جعله خاتم النبيين، والشفيع للمذنبين من الأولين والآخرين، وبأن أرسله إلى الخلق أجمعين، وخصه بالحوض المورود، والكوثر المحمود "
(3)
.
ويقول الإمام الغزالي في عقيدته:" وفضله على سائر الأنبياء، وجعله سيد البشر، ومنع كمال الإيمان بشهادة التوحيد، وهو قولك (لا إله إلا الله)،مالم يقترن بها الشهادة بالرسول، وهو قولك (محمد رسول الله) "
(4)
.
وشرف النبي صلى الله عليه وسلم وعلو منزلته، أمر متفق عليه، تواترت مقالات العلماء والأئمة في بيانه:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" وقد اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاهاً عند الله، ولا جاه لمخلوق عند الله أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته"
(5)
.
(1)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة النبوية (3/ 147)
(2)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة النبوية (11/ 163)
(3)
ابن القطان: الإقناع في مسائل الإجماع، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 1426 هـ، (1/ 50)
(4)
الغزالي: بداية الهداية، دار المنهاج جدة، ط 1 1425 هـ، ص (282)
(5)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة النبوية:(1/ 145)
فهو عليه الصلاة والسلام: أفضل أولي العزم، وخاتم النبيين، وإمام المتقين، وسيد ولد آدم، وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذا وفدوا صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب لواء الحمد، وصاحب الحوض المورود، وشفيع الخلائق يوم القيامة، وصاحب الوسيلة والفضيلة
(1)
.
وقد اشتملت عبارة شيخ الإسلام - في عقيدته إلى أهل واسط - على مسألتين اتفق عليها العلماء، وهما:
1 -
أنه صلى الله عليه وسلم أول من يستفتح باب الجنة.
2 -
أنه أمته صلى الله عليه وسلم أول الأمم دخولاً إلى الجنة.
وهاتان المسألتان وجه الشرف فيهما: مرجعه شرف صاحب الرسالة. فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل البشر مقاماً، وأعلاهم منزلة، وأكملهم رتبة، اختصه الله جل وعلا بجملة من الخصائص، وميزه على سائر الخلق ببعض الميزات،"وجمع الله جل وعلا له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه فيمن قبلهم"
(2)
.
ومن هذه الخصائص والميز: أنه أول من يستفتح باب الجنة، وهذا قد دلت عليه دلائل السنة المطهرة، وهو مقام يُظهر الله جل وعلا فيه شرف النبي صلى الله عليه وسلم وعلو مكانته، وعظيم منزلته على العالمين، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
أخرج مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ يَشْفَعُ فِي الْجَنَّةِ وَأَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا» .
وفي لفظ له: «أَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ» .
وفي لفظ آخر: «آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتفْتِحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ «فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ» ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ "
(3)
.
(1)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة النبوية:(11/ 162)
(2)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة:(11/ 162)
(3)
أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: ح (196 - 197).
وما خص الله جل وعلا به نبيه صلى الله عليه وسلم من كونه أول من يستفتح باب الجنة
…
هو بسبب سؤال أهل الموقف له، يقول الحافظ ابن حجر:" وتقدم في بعض طرقه، أن من جملة سؤال أهل الموقف استفتاح باب الجنة"
(1)
.
وقوله (فأستفتح): أي أطلب فتح الباب، ويكون بالقرع لا بالصوت كما يرشد إليه خبر أحمد:(آخذ بحلقة الباب فأقرع)
(2)
.
ومما يدل على كمال التشريف والتكريم للنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث هذا قوله
…
(فأستفتح): وذلك أن الفاء محتملة لمعنى: السببية، والتعقيب، ووجه السببية: أي يتسبب عن الإتيان الاستفتاح.
وأما التعقيب فوجهه: الإشارة إلى أنه قد أذن له من ربه بغير واسطة أحد لا خازن ولا غيره، وذلك من أن ورد باب كبير، فالعادة أن يقف حتى ينتهي خبره إليه ويستأمر، فإن أذن في إدخاله فتح له، فالتعقيب إشارة إلى أنه قد صانه ربه عن ذل الوقوف، وأذن له في الدخول قبل الوصول، بحيث صار الخازن مأموره منتظراً لقدومه.
ويظهر وجه الشرف أيضاً في قول الخازن للنبي صلى الله عليه وسلم:" بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ ".
وفي رواية: "ولا أقوم لأحد بعدك"، وذلك لأن قيامه إليه خاصة، إظهاراً لمرتبته ومزيته، ولا يقوم في خدمة أحد غيره
(3)
.
ولذا لا يكاد يخلو مُصنف من مصنفات أهل السنة والجماعة، من ذكر فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه. وذُكر في السنة المطهرة، روايات تبين معنى قوله عليه الصلاة والسلام:(فأستفتح):
(1)
ابن حجر: فتح الباري، دار المعرفة - بيروت، 1379 هـ (11/ 436).
(2)
المناوي: التيسير بشرح الجامع الصغير: (1/ 7)، المناوي: فيض القدير: (1/ 35).
(3)
المناوي: فيض القدير: (1/ 35)، ابن القيم: حادي الأرواح، ص (110).
فجاء في حديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَأْخُذُ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ فَأُقَعْقِعُهَا»
(1)
. ومعنى: فأقعقعها: أي: أحركها لتصوت، والقعقعة حكاية حركة الشيء، يُسمع له صوت
(2)
. ويقول الإمام ابن القيم: "وهذا صريح في أنها حلقة حسية، تُحرك وتُقعقع "
(3)
.
وجاء في السنة المطهرة، بيان أولية النبي صلى الله عليه وسلم -لاستفتاح باب الجنة: فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُفْتَحُ لَهُ بَابَ الْجَنَّةُ إِلا أَنَّهُ تَأْتِي امْرَأَةٌ تُبَادِرُنِي فَأَقُولُ لَهَا: مَا لَكِ وَمَنْ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: أَنَا امْرَأَةٌ قَعَدْتُ عَلَى أَيْتَامٍ لِي»
(4)
.
قال العلامة الخلوتي:" قلت: قد حصل الفتح المقدم على الوصول
…
بدعوته عليه السلام بالاستفتاح، ولو لم يكن دعاؤه قد سبق لما فتحت، ثم تبقى الأبواب بدعائه مفتوحة إلى أن يفرغ من الحساب، فإذا جاء أهل الجنة بعد الحساب والصراط، يجدونها مفتوحة ببركة دعائه المقدم على ذلك"
(5)
.
وأورد بعض العلماء سؤالات على الحديث:
(1)
أخرجه الترمذي في جامعه أبواب تفسير القرآن، باب من سورة بني إسرائيل ح (3148).
(2)
المباركفوري: تحفة الأحوذي: (8/ 466).
(3)
ابن القيم: حادي الأرواح، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 1403 هـ، ص (61).
(4)
أخرجه البزار في مسنده ح (9527): (19/ 19)، قال الإمام المنذري: في الترغيب والترهيب: "رواه أبو يعلى وإسناده حسن إن شاء الله "(3/ 236)، وحسنة الهيثمي في الزواجر، وقال أبو الحسن الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 162)، "رواه أبو يعلى وفيه عبد السلام بن عجلان: وثقه أبو حاتم وابن حبان وقال: يخطي ويخالف، وبقية رجاله ثقات "، وحكم محقق مسند أبي يعلى: حسن سليم أسد على الحديث بأنه جيد فقال: إسناده جيد (12/ 7)، وذهب العلامة الألباني إلى تضعيف الحديث في السلسة الضعيفة:(11/ 624).
(5)
الخلوتي: روح البيان، دار الفكر - بيروت، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها (8/ 144).
1 -
عُلِمَ من سياق الحديث أن طلب الفتح إنما هو من الخازن، وإلا لما كان هو المجيب. فإن قلت: ورد عن الحسن وقتادة وغيرهما: أن أبواب الجنة يرى ظاهرها من باطنها، وعكسه، وتتكلم، وتعقل ما يقال لها:(انفتحي انغلقي)
(1)
.
فلم طلب الفتح من الخازن ولم يطلبه منها بلا واسطة؟
قيل: الظاهر أنها مأمورة بعدم الاستقلال بالفتح والغلق، وأنها لا تستطيع ذلك إلا بأمر عريفها المالك لأمرها بإذن ربها، وإنما يطالب بما يراد من القوم عرفاؤهم.
2 -
قيل: ما ثبت من أن الخازن هو متولي الفتح عارضه حديث سلمان رضي الله عنه: «حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ مِنْ ذَهَبٍ فَيَقْرَعَ الْبَابَ فَيُقَالُ مَنْ هَذَا فَيُقَالُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَالَ فَيَفْتَحُ اللَّهُ لَهُ»
(2)
.
فالجواب: بأنه لا معارضة بينهما؛ لأن الله تعالى هو الفاتح الحقيقي، وتولي الخازن لذلك، إنما هو بإقدار الله تعالى له وتمكينه.
3 -
قيل: إن ظاهر الحديث مُشكل بما ذكره بعض الأئمة، من أن أبواب الجنة تفتح لأهلها قبل مجيئهم، بدليل قوله تعالى:{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)} [ص: 50].
(1)
الطبري: جامع البيان، مؤسسة الرسالة، ط 1 1420 هـ، ت: أحمد محمد شاكر، ص (21/ 222).
(2)
أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنة (813)، وقال العلامة الألباني: إسناده صحيح على شرط الشيخين، ولكنه موقوف على سلمان وهو الفارسي، إلا أنه في حكم المرفوع، لأنه أمر غيبي لا يمكن أن يقال بالرأي ولا هو من الإسرائيليات: ظلال الجنة في تخريج السنة (3841).
وأجيب: بأنه لا تعارض أو تدافع بين الآية والحديث؛ لأن سياق الآية الكريمة، يدل على أن المعنى: أنهم إذا دخلوها لم تغلق أبوابها عليهم، بل تبقى مفتحة؛ إشارة إلى تعرفهم، وذهابهم، وإيابهم، ودخول الملائكة عليهم من كل باب، بالتحف والألطاف من ربهم، وإلى أنها دار أمن، لا يحتاجون فيها إلى غلق الأبواب، كما كانوا في الدنيا
(1)
.
4 -
واستشكل في الحديث الشريف: الأولية في الاستفتاح والدخول للنبي صلى الله عليه وسلم بما ورد:
(أ) - عند الترمذي من حديث بريدة رضي الله عنه، قال:«أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَدَعَا بِلَالًا، فَقَالَ: «يَا بِلَالُ بِمَ سَبَقْتَنِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ إِنِّي دَخَلْتُ الْبَارِحَةَ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي»
(2)
.
وأجيب عن سبق بلال للنبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث، بأنه ليس من حيث الحقيقة، وإنما هو بطريق التمثيل؛ لأن عادته في اليقظة، أنه كان يمشي أمامه فلذلك تمثل له في المنام، ولا يلزم من ذلك السبق الحقيقي في الدخول، وإنما رآه أمامه في منامه، والمراد: سريان الروح في حالة النوم في تلك الحالة
…
تنبيها على فضيلة عمله.
(ب) - وبما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُفْتَحُ لَهُ بَابَ الْجَنَّةُ إِلا أَنَّهُ تَأْتِي امْرَأَةٌ تُبَادِرُنِي فَأَقُولُ لَهَا: مَا لَكِ وَمَنْ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: أَنَا امْرَأَةٌ قَعَدْتُ عَلَى أَيْتَامٍ لِي»
(3)
.
(1)
المناوي: فيض القدير: (1/ 35)، الزرقاني: شرح الزرقاني على المواهب: (7/ 384، 11/ 387)، ابن القيم: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح:، ص (53 - 45) الحلبي: السيرة الحلبية: (1/ 332)
(2)
أخرجه أحمد في المسند ح (12469)، (19/ 451)، وأخرجه ابن منده في كتاب الإيمان ح (877).
(3)
أخرجه البزار في مسنده ح (9527: (19/ 19)، قال الإمام المنذري: في الترغيب والترهيب: واه أبو يعلى وإسناده حسن إن شاء الله (3/ 236)، وحسنة الهيثمي في الزواجر:(1/ 420)
وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ عَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ»
(1)
.
والجواب عن هذه الآثار: محمول على تعدد الدخول للنبي صلى الله عليه وسلم فالدخول الأول لا يُتقدم، ولا يشاركه فيه أحد، ويتخلل بينه وبين ما بعده دخول غيره، ويدل على تعدد الدخول، الحديث الذي أخرجه أحمد وغيره عن أنس رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنِّي لَأَوَّلُ النَّاسِ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْ جُمْجُمَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ، وَأُعْطَى لِوَاءَ الْحَمْدِ، وَلَا فَخْرَ وَأَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَإِنِّي آتِي بَابَ الْجَنَّةِ، فَآخُذُ بِحَلْقَتِهَا، فَيَقُولُونَ: مَنْ هَذَا؟ فَأَقُولُ: أَنَا مُحَمَّدٌ، فَيَفْتَحُونَ لِي، فَأَدْخُلُ، فَإِذَا الْجَبَّارُ مُسْتَقْبِلِي، فَأَسْجُدُ لَهُ، فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَتَكَلَّمْ يُسْمَعْ مِنْكَ، وَقُلْ يُقْبَلْ مِنْكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: اذْهَبْ إِلَى أُمَّتِكَ، فَمَنْ وَجَدْتَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ شَعِيرٍ مِنَ الْإِيمَانِ، فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، فَأُقْبِلُ فَمَنْ وَجَدْتُ فِي قَلْبِهِ ذَلِكَ فَأُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ. فَإِذَا الْجَبَّارُ مُسْتَقْبِلِي، فَأَسْجُدُ لَهُ»
(2)
.
وكرر الدخول أربعاً، يقول العلامة المناوي:" وبه تندفع الإشكالات
…
ويستغني عن تلك التكلفات، وقد قيل: بضعف حديث أبي بكر"
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده ح (7): (1/ 10)، وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (8247).
(2)
أخرجه أحمد في المسند ح (12469): (19/ 451) وأخرجه ابن منده في كتاب الإيمان ح (877)
(3)
المناوي: فيض القدير، المكتبة التجارية الكبرى - مصر، ط 1 1356 هـ (1/ 35)
(ج) - وبما أخرجه أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَرَانِي بَابَ الْجَنَّةِ الَّذِي تَدْخُلُ مِنْهُ أُمَّتِي» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مَعَكَ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَمَا إِنَّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي»
(1)
قال الإمام ابن شاهين:" تفرد أبو بكر بهذه الفضيلة، لم يشركه فيها أحد "
(2)
، وفيه دليل على أنه أفضل هذه الأمة
(3)
.
وأجيب عن هذا الأثر من وجهين:
أ. أن الحديث فيه ضعف، فلا يحتج به
(4)
. ورد: بأن الحاكم أخرجه في مستدركه وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي"
(5)
.
ب. وعلى فرض صحة الحديث فيحمل قوله: «أول من يدخل الجنة من أمتي» ، أي من الرجال بعده عليه الصلاة والسلام.
وجاء ما يعارض ما قرره هذا الحديث، من أن أبا بكر أول من يدخل الجنة، من أمة النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ مَنْ يُصَافِحُهُ الْحَقُّ عُمَرُ، وَأَوَّلُ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ»
(6)
، وأُجيب عن هذا التعارض من وجهين:
(1)
أخرجه أبو داود في سننه، في كتاب السنة، باب في الخلفاء ح (4652).
(2)
ابن شاهين: شرح مذاهب أهل السنة، مؤسسة قرطبة، ط 1 1415 هـ، ص (132)
(3)
القاري: مرقاة المفاتيح، دار الفكر - بيروت، ط 1 1422 هـ (9/ 3890)
(4)
ضعفه الشيخ الألباني في مصنفاته: مشكاة المصابيح (3/ 1700)
(5)
أخرجه الحاكم في مستدركه ح (4444)، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 1411 هـ (3/ 77)
(6)
أخرجه ابن ماجه في سننه، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب فضل عمر ح (104) دار إحياء الكتب العربية، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها.
أ. أن حديث أبي بن كعب ضعيف، لاتقوم به حجة، قال الإمام ابن كثير:"هذا الحديث منكر جدا، وما أبعد أن يكون موضوعا، والآفة فيه من داوود بن عطاء هذا "، وقال العلامة البوصيري:" هذا إسناد ضعيف، فيه داود بن عطاء المديني، وقد اتفقوا على ضعفه وباقي رجاله ثقات"
(1)
.
ب. على فرض الصحة، فلا تعارض بينهما؛ لأن الأولية في حق الصديق مطلقة، والأولية في حق عمر مقيدة بهذه الأمور في الحديث، أفاده الإمام ابن القيم
(2)
، وقد حكم على الحديث في موضع آخر، بأنه منكر جداً
(3)
. والوجه الأول أولى بالتقديم؛ لما ذُكر.
فالخلاصة: أن قرع باب الجنة ابتداءً، هو من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ومكرماته التي شرفه الله جل وعلا بها
(4)
.
ولذا يقول الإمام العراقي في ألفيته في السيرة، في بيان خصائص الرسول الكريم
(5)
:
أُرسل للناس جميعاً أعطيا
…
مقامه المحمود حتى رضيا
وخص بالشفاعة العظمى التي
…
يحجم عنها كل من لها أُتي
أول من تنشق عنه الأرض
…
ولا ينام قلبه بل غمض
أول من يقوم للشفاعة أول من يقرع باب الجنة
أكثر الأنبياء حقا تبعاً يرى وراءه كقدام معا
شرف أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم:
يقول الإمام ابن تيمية في الواسطية: "وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته "
(6)
.
وهذا الدخول الأولي، شرف لهذه الأمة، شَرُفَت به؛ لشرف نبيها صلى الله عليه وسلم.
(1)
ابن كثير: جامع المسانيد والسنن، مكتبة الأسدي، مكة المكرمة، ط 3 1425 هـ (14537)، البوصيري: مصباح الزجاجة، دار العربية - بيروت، ط 2 - 1403 هـ (1/ 17)
(2)
حاشية الإمام ابن القيم على السنن، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 2 - 1415 هـ (12/ 265)
(3)
ابن القيم: حادي الأرواح، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 1403 هـ، ص (113)
(4)
المقريزي: إمتاع الأسماع، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 1420 هـ (3/ 309)
(5)
العراقي: ألفية السيرة النبوية، دار المنهاج - بيروت، ط 1 1426 هـ (1/ 100)
(6)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة النبوية (3/ 147)
يقول الإمام ابن كثير: "وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم فإنه أشرف خلق الله، وأكرم الرسل على الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم، لم يعطه نبي قبله، ولا رسول من الرسل، فالعمل على منهاجه وسبيله يقوم القليل منه، ما لا يقوم الكثير من أعمال غيرهم مقامه "
(1)
.
وقد قامت الدلائل الشرعية، على شرف هذه الأمة، يقول الإمام فخر الدين:" أن من كانت معجزاته أظهر يكون ثواب أمته أقل.
قال السبكي: إلا هذه الأمة، فإن كانت معجزات نبيها أظهر، وثوابها أكثر من سائر الأمم "
(2)
.
ومن الأدلة الشرعية على إثبات أولية هذه الأمة لدخول الجنة:
ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ «
(3)
.
وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم: «أول زمرة من أمته تدخل الجنة فقال: أَوَّلُ زُمْرَةٍ مِنْ أُمَّتِي تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى أَشَدِّ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً «
(4)
.
يقول الإمام البغوي:"يريد: نحن الآخرون خروجاً في الدنيا، السابقون في الفضل والكرامة يوم القيامة"
(5)
.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ «
(6)
.
(1)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: ت: سامي سلامة (1/ 399)
(2)
القسطلاني: المواهب اللدنية، المكتبة التوفيقية - القاهرة:(2/ 405)
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة ح (855).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة صفة نعيمها وأهلها، باب أول صورة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر ح (2834) دار إحياء التراث العربي - بيروت، ت: محمد فؤاد عبد الباقي.
(5)
البغوي: شرح السنة، المكتب الإسلامي - دمشق، ط 2 - 1403 هـ (4/ 201)
(6)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة ح (876).
يقول الإمام ابن بطال:" السابقون يعني: أن أمته يسبقون سائر الأمم بالدخول في الجنة"
(1)
.
ويقول الإمام ابن الجوزي:" المعنى: نحن السابقون في الزمان، السابقون في دخول الجنة "
(2)
.
وهم السابقون في الفضل والكرامة على الله تعالى، فسبق هذه الأمة شامل لكل المواقف، فإنهم أول من يحاسب يوم القيامة، ومن يجوز على الصراط ومن يدخل الجنة
(3)
.
يقول الإمام ابن القيم:" هذه الأمة أسبق الأمم خروجاً من الأرض وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف، وأسبقهم إلى ظل العرش، وأسبقهم إلى الفصل والقضاء بينهم، وأسبقهم إلى الجواز على الصراط، ، وأسبقهم إلى دخول الجنة، فالجنة محرمة على الأنبياء حتى يدخلها محمد، ومحرمة على الأمم حتى تدخلها أمته"
(4)
.
وأورد الإمام العراقي سؤالاً على الحديث مفاده:" فإن قلت: كون هذه الأمة آخر الأمم أمر واضح، فما فائدة الإخبار به؟
قلت: يحتمل أنه ذُكر توطئة لوصفهم بالسبق يوم القيامة، وأنه لا يتخيل من تأخرهم في الزمن، تأخرهم في الحظوظ الأخروية، بل سابقون لها ويحتمل أن يراد بذلك: الدلالة على أنهم آخر الأمم، وأن شريعتهم باقية إلى آخر الدهر، مادام التكليف موجوداً، فسائر الأمم وإن سبقوا لكن انقطعت شرائعهم ونسخت، بخلاف هذه الأمة، فإن شريعتها باقية مستمرة، وهذا الاحتمال أمكن من الأول؛ لأنه يكون حينئذ في وصفهم بالآخرية شرف، كما أن وصفهم بالسبق شرفاً، وعلى الأول يكون مجرد ذكره توطئة"
(5)
.
(1)
ابن بطال: شرح صحيح البخاري، مكتبة الرشد - الرياض، ط 2 - 1423 هـ (2/ 475).
(2)
ابن الجوزي: كشف المشكل، دار الوطن - الراياض، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها (3/ 411).
(3)
ابن رجب: فتح الباري، مكتبة الغرباء - المدينة النبوية، ط 1 1417 هـ (8/ 71).
(4)
ابن القيم: حادي الأرواح، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 1403 هـ، ص (113).
(5)
العراقي: طرح التثريب، مكتبة الباز - مكة، ط 1 1424 هـ (3/ 153).
إذن: فهذه الأمة المرحومة، وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية فهي سابقة لهم في الآخرة، بأنهم أول من يحشر، وأول من يحاسب، وأول من يقضى بينهم، وأول من يدخل الجنة
(1)
.
ومما يؤكد هذه الأولية لهذه الأمة في دخول الجنة: ما جاء عن عمر رضي الله عنه قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الْجَنَّةُ حُرِّمَتْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى أَدْخُلَهَا، وَحُرِّمَتْ عَلَى الْأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتِي»
(2)
. وهذه فضيلة لهذه الأمة.
يقول الحلبي في سيرته عن هذه الرواية وغيرها: " منقبة عظيمة لهذه الأمة المحمدية، وهي أنه لا يدخل أحد الجنة من الأمم السابقة، ولو من صلحائها، وعلمائها، وزهادها، حتى يدخل من كان يعذب في النار من عصاة هذه الأمة، بناء على أنه لا بد من تعذيب طائفة من هذه الأمة في النار، ولا بُعد في ذلك؛ لأنه تقدم أن أول من يحاسب من الأمم هذه الأمة، فيجوز أن الأمم لا يفرغ حسابهم، ولا يأتون إلى باب الجنة، إلا وقد خرج من كان يعذب من هذه الأمة في النار، ودخل الجنة "
(3)
.
وورد في السنة أن لهذه الأمة باباً خاصاً يدخلون منه:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَرَانِي بَابَ الْجَنَّةِ الَّذِي تَدْخُلُ مِنْهُ أُمَّتِي»
(4)
.
(1)
ابن حجر: فتح الباري، دار المعرفة - بيروت، 1379 هـ (2/ 354)
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط ح (942)، دار الحرمين - القاهرة (1/ 289)، وحسن إسناده العلامة الحلبي في السيرة الحلبية، دار الكتب العلمية (1/ 332)
(3)
الحلبي: السيرة الحلبية، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 2 - 1427 هـ (1/ 332)
(4)
أخرجه أبو داود في سننه، في كتاب السنة، باب في الخلفاء ح (4652) المكتبة العصرية - بيروت.