الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحين يتأمل في الميزان الذي توزن فيه أعمال العباد، يسعى حثيثاً لملئه بكل خير، "فإذا أردت أن ترى صورة الوزن هاهنا، انظر إلى نفسك في هذا العالم ما علا فوقك نور كله، وسمو وارتفاع إلى الله، وإلى الدار الآخرة والجنة، وما سفل من الدنيا إلى أسفل سافلين، غفلة وعصيان، وجهل وظلام، إلى سجين ونار جهنم، والعبد قائم بينهما، موزون بحركاته وسكناته، في الخير والشر"
(1)
.
وحين يتأمل في الصراط وزلته، وأن النار تحته تتخطف المجرمين والظالمين، بكلاليب وخطاطيف من نار، وأن أهل الإيمان يسعون فيه قدر أعمالهم، سعى لما يخلصه من هذا الهول، ويصرف عنة هذا الخوف، فسارع إلى الخيرات، وسابق إلى الحسنات، وفر عن المعاصي والسيئات.
وحين يتأمل في مكرمات الرحمن في الآخرة، وما أعده سبحانه لأهل طاعته، تتوق نفسه أن يكون من أهلها، وأن ينهل من بركتها وخيرها، فيعلم أن لا رجاء في تحصيلها، إلا لمن كان على الحق قائماً، وعلى الطاعة ملازماً، وعلى الإيمان والتوحيد محافظاً، فحينها لا يجد بُداً من أن يسير في ركابهم، ويلتحق بنجائبهم؛ لعله يفوز بأعلى المراتب، ويحظى بالمكرمات، وأفضل المكاسب.
إن آثار الإيمان باليوم الآخر على الفرد، لا تنحصر في جهة دون أخرى، وإنما تشمل هذه الآثار جهات عدة من حياة الفرد، ولذا فالحديث عن هذه الآثار
…
ينتظم المطالب التالية:
المطلب الأول: الثراء المعرفي الموجب للأثر التعبدي وغيره:
يسعى الفرد المسلم لتحقيق ذاته في هذه الحياة، وهذا منوط بالأسباب التي جعلها الله تعالى، كفيلة لتحقيق هذا الهدف، وهي بدورها تعكس آثارها النفسية، والسلوكية، والأخلاقية، والتعبدية، على هذا الفرد المسلم، وهذه الآثار الإيجابية التي يجنيها المسلم، جراء إيمانه باليوم الآخر، فتظهر آثارها في أقواله وأفعاله، وحركاته وسكناته، هي أثر نابع عن الثراء المعرفي، الموجب لهذا الأثر التعبدي وغيره.
وهذا الثراء المعرفي له مظاهر، وأسباب، ونتائج، هي موجب الأثر التعبدي وغيره.
(1)
القصري: شعب الإيمان: ص (603)
إن مما يحمل الفرد المسلم على التعبد، كمال المعرفة، ولذلك كان العلماء هم خير البرية؛ لأنهم أشد الناس خشية، يقول جل وعلا:{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} [فاطر:28]، ويقول جل وعلا:{أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)} إلى قوله {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} [البينة:6 - 7].
فاقتضت الآيتان أن العلماء هم الذي يخشون الله تعالى، وأن الله يخشون الله تعالى هم خير البرية، فينتج أن العلماء هم خير البرية
(1)
.
ولذا قال الإمام القرافي:" خير البرية من يخشى الله تعالى، وكل من يخشى الله فهو عالم، فخير البرية عالم"
(2)
.
إن الحاجة الملحة للإحاطة بالثراء المعرفي، الموجب للأثر التعبدي وغيره، يعتبر من أهم الأسباب الداعية إلى معرفة مظاهر المعرفة، والبحث عن نتائجها، والتي تعبر عن الأثر التعبدي وغيره.
أما مظاهر الثراء المعرفي فيقوم على:
1 -
معرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، وظهور آثار هذه المعرفة في العالم الدنيوي والأخروي.
2 -
المعرفة بالرسول صلى الله عليه وسلم المخبر عن الله تعالى.
3 -
معرفة دلالات النصوص الشرعية، والوقوف على مراميها، واستظهار حكمها، وأحكامها.
وبعد التعرف على مظاهر المعرفة الموجبة للأثر التعبدي، يرد التساؤل المفروض: كيف يُحَصِّل المرء الثراء المعرفي؟
والجواب: أن تحصيل هذا الثراء المعرفي، يقوم على كثرة النظر والاطلاع لكلام أهل العلم والمعرفة.
1 -
أما الثراء المعرفي المتعلق بمعرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، فيكون بالنظر إلى طريقين، دعا إليهما الرب سبحانه وتعالى في القرآن
(3)
:
(1)
ابن جماعة: تذكرة السامع والمتكلم، دار الضياء - مصر، ط 1 1423 هـ، ص (42)
(2)
القرافي: الذخيرة، دار الغرب الإسلامي - بيروت، ط 1 1994 م (1/ 41)
(3)
ابن القيم: الفوائد، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 2 - 1393 هـ، ص (20)
(أ) النظر في مفعولاته، وهي آياته المشهودة، كقوله تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} [البقرة:164].
"والقرآن كله مملوء من دعاء العباد إلى التفكر في الآيات، والنظر في أحوال المخلوقات"
(1)
.يقول شيخ الإسلام:" القرآن يأمر ويمدح التفكر والتدبر والنظر، والاعتبار، والفقه، والعلم، والعقل، والسمع، والبصر والنطق ونحو ذلك من أنواع العلم وأسبابه وكماله، ويذم أضداد ذلك"
(2)
والنظر إلى المخلوقات العلوية والسفلية على وجه التفكر والاعتبار، مأمور به مندوب إليه
(3)
؛ لأنه يوصل إلى معرفة الباري جل في علاه.
يقول الإمام ابن القيم:" الفكرة في آياته المشهودة، والاعتبار بها والاستدلال بها على أسمائه وصفاته، وحكمته، وإحسانه، وبره، وجوده وقد حض الله سبحانه عباده على التفكر في آياته، وتدبرها، وتعقلها، وذم الغافل عن ذلك "
(4)
.
(ب) النظر في آيات المسموعة كقوله تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [محمد: 24]، وكقوله:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون:68]، وكقوله {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29].
(1)
ابن القيم: مدارج السالكين، دار الكتاب العربي - بيروت، ط 3 1416 هـ (1/ 281)
(2)
ابن تيمية: الاستقامة، جامعة الإمام محمد بن سعود - المدينة النبوية، ط 1 1403 هـ (2/ 159)
(3)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة النبوية (15/ 343).
(4)
ابن القيم: الجواب الكافي، دار المعرفة - المغرب، ط 1 1418 هـ، ص (156).
والمقصود منه: التفكر والتأمل في آيات القرآن كلها، والفهم الخاص عن الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم
(1)
، يقول الإمام ابن القيم:" وإنما دعاهم إلى التفكر والتدبر؛ ليطلعهم ذلك على حكمته البالغة، وما فيه من الغايات والمصالح المحمودة، التي توجب لمن عرفها، إقراره بأنه تنزيل من حكيم حميد"
(2)
.
فتكوين الثراء المعرفي في هذا الباب، يكون بالآيات المسموعة المتلوة وبالآيات المشهودة المرئية، وكلاهما أدلة، وآيات على توحيد الله تعالى وأسمائه وصفاته وكماله، وصدق ما أخبرت به الرسل عنه
(3)
.
وكذا فإن ما أخبرت به الرسل عن الله جل في علاه، هو مصدر من مصادر تكوين الثراء المعرفي، كحديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ «
(4)
، فقوله: إن الله جميل: أي في ذاته، وصفاته وفعاله، وكل جمال صوري، أو جميل معنوي، فهو أثر جماله، فلا جمال، ولا جلال، ولاكمال إلا له سبحانه
(5)
، وهذا أثر معرفي كبير، إذ الله جل وعلا له الجمال المطلق، ومن أحق بالجمال، فإن كل جمال في الوجود من آثار صنعته فله جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، ولولا حجاب النور على وجهه، لأحرقت سبحات وجهه، ما انتهى إليه بصره من خلقه
(6)
.
وهذا أحد الوجهين الذي اشتمل عليه الحديث، فإنه اشتمل على وجهين وقاعدتين:
الأولى: تتعلق بالمعرفة، ويتضمنها قوله «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ «.
والثانية: تتعلق بالسلوك، ويتضمنها قوله «يُحِبُّ الْجَمَالَ «.
(1)
ابن القيم: الفوائد، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 2 - 1393 هـ، ص (170).
(2)
ابن القيم: شفاء العليل، دار المعرفة - بيروت، 1398 هـ، ص (200).
(3)
ابن القيم: مدارج السالكين، دار الكتاب العربي - بيروت، ط 3 1416 هـ (1/ 66).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب تحريم الكبر وبيانه ح (91).
(5)
القاري: مرقاة المفاتيح، دار الفكر - بيروت، ط 1 1422 هـ (8/ 3190).
(6)
المناوي: فيض القدير، المكتبة التجارية الكبرى - مصر، ط 1 1356 هـ (1/ 224)
فكل ما يصدر عن الله جل وعلا، فإنه جميل وليس بقبيح، بل حسن تستحسنه العقول السليمة، وتستسيغه النفوس، وهذا الجمال لله سبحانه وتعالى حق، وهو إلى الله سبحانه، ليس للإنسان فيه حيلة، وليس له فيه كسب، وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما للإنسان فيه كسب وهو التجمل
(1)
.
يقول الإمام ابن القيم:" وجماله سبحانه على أربع مراتب: جمال الذات وجمال الصفات، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء
…
قال ابن عباس: حجب الذات بالصفات، وحجب الصفات بالأفعال، فما ظنك بجمال حجب بأوصاف الكمال، وستر بنعوت العظمة والجلال.
ومن هذا المعنى يفهم بعض معاني جمال ذاته، فإن العبد يترقى من معرفة الأفعال إلى معرفة الصفات، ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات، فإذا شاهد شيئاً من جمال الأفعال، استدل به على جمال الصفات، ثم استدل بجمال الصفات، على جمال الذات. ومن هنا يتبين: أنه سبحانه له الحمد كله وأن أحداً من خلقه لا يحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه "
(2)
.
وقال في موضع آخر:" والمحبة لها داعيان: الجمال، والجلال، والرب تعالى له الكمال المطلق من ذلك، فإنه جميل يحب الجمال، بل الجمال كله له، والإجلال كله منه، فلا يستحق أن يحب لذاته من كل وجه سواه "
(3)
.
وأما الجانب السلوكي في الحديث، المقصود من قوله «يُحِبُّ الْجَمَالَ «: فهذا هو مقتضى وموجب الأثر، الذي يحدثه الثراء المعرفي للأسماء والصفات.
(1)
ابن عثيمين: شرح رياض الصالحين، دار الوطن - الرياض، 1426 هـ، (3/ 542)
(2)
ابن القيم: الفوائد، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 2 - 1393 هـ، ص (183)
(3)
ابن القيم: الجواب الكافي، دار المعرفة - المغرب، ط 1 1418 هـ، ص (228)
يقول الإمام ابن القيم:" والرب تعالى يحب أسماءه وصفاته، ويحب مقتضى صفاته وظهور آثارها في العبد، فإنه جميل يحب الجمال، عفو يحب أهل العفو كريم يحب أهل الكرم، عليم يحب أهل العلم، وتر يحب أهل الوتر، قوي والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف، صبور يحب الصابرين، شكور يحب الشاكرين، وإذا كان سبحانه يحب المتصفين بآثار صفاته، فهو معهم بحسب نصيبهم من هذا الأصناف"
(1)
.
ويقول شيخ الإسلام في هذا المعنى:" فإن الشارع قد ذكر أنه يحب إتصاف العبد بمعاني أسماء الله تعالى، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ «
…
«إِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ» ، «إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا» ، «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ» ، «إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي» ، «إِنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ «"
(2)
.
2 -
وأما الثراء المعرفي المتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم والموجب للأثر التعبدي وغيره فيكون بالنظر إلى أمور:
(أ) النظر إلى شرف نسبه، وطهارة منشئه، عليه الصلاة والسلام. وهذا مما لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه، "فإنه نخبة بني هاشم، وسلالة قريش وحميها وأشرف العرب، وأعزهم نفراً من قبل أبيه وأمه، ومن أهل مكة، ومن أكرم بلاد الله على الله، وعلى عباده"
(3)
.
عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، قال: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ»
(4)
.
(1)
ابن القيم: عدة الصابرين، دار ابن كثير - دمشق، ط 3 1409 هـ، ص (48).
(2)
ابن تيمية: بيان تلبيس الجهمية، المجمع لطباعة المصحف الشريف - المدينة النبوية، (6/ 520).
(3)
القاضي عياض: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، دار الفيحاء - عمان (1/ 184).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم ح (2276).
(ب) بالنظر إلى كمال الأخلاق، وجمال الآداب، التي جُبل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فهو إمام في المكارم، إمام في الأخلاق، إمام في الآداب، "وليس من شك في أن النسب الزكي، إذا انضم إليه الخلق الرضي، كان خيراً وأزكى"
(1)
.
(ج) النظر إلى كماله صلى الله عليه وسلم: فقد حاز النبي صلى الله عليه وسلم الكمال المعتبر في البشر من أربعة أوجه: "كمال في خَلقه، وكمال في خلُقه، وفضائل الأقوال، وفضائل الأعمال "
(2)
.
وقد عُرِفَ صدق النبي صلى الله عليه وسلم بآية وبغير آية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" كثير من الناس يعلم صدق النبي بلا آية، وكثير من الناس يعلم صدق المخبر بلا آية البتة، بل إذا أخبره وهو خبير بحاله، أو بحال ذلك المخبر، أو بهما علم بالضرورة: إما صدقه، وإما كذبه"
(3)
.
وهو الذي عبر عنه الإمام ابن تيمية بالمسلك الشخصي، والمسلك النوعي وهو معرفة طبيعة الشخص الذي يدعي النبوة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا المسلك الشخصي:" وكذلك أبو بكر وزيد بن حارثة وغيرهما، علموا صدقة علماً ضرورياً، لما أخبرهم بما جاء به وقرأ عليهم ما أنزل عليه، وبقي القرآن الذي قرأه آية، وما يعرفون من صدقه وأمانته، مع غير ذلك من القرائن، يوجب علماً بأنه صادق".
(4)
(د) بالنظر إلى مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر، والنهي عما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله تعالى إلا بما شرع.
فطاعته وتصديقه، معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" ونحن نعلم يقينا بالاضطرار، أن من دين الإسلام: أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب الله تعالى علينا طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر "
(5)
.
(1)
أبو شهبة: السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة، دار القلم -دمشق، ط 8 1427 هـ (2/ 619).
(2)
الماوردي: أعلام النبوة، مكتبة الهلال - بيروت، ط 1 1409 هـ، ص (217).
(3)
ابن تيمية: النبوات، أضواء السلف - الرياض، ط 1 1420 هـ (2/ 886).
(4)
ابن تيمية: النبوات: (2/ 886)، ابن تيمية: شرح العقيدة الأصفهانية، ص (93).
(5)
ابن تيمية: الصفدية، مكتبة ابن تيمية - مصر، ط 2 - 1406 هـ (1/ 258).
وهذا النظر وغيره، مقتضٍ لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم والمحبة الصادقة متقضية للإتباع والاستقامة والالتزام، على منهجه صلى الله عليه وسلم وهذا هو الثراء المعرفي، الموجب للأثر التعبدي وغيره.
3 -
أما الثراء المعرفي المتعلق بمعرفة دلالات النصوص الشرعية، والوقوف على مراميها، واستظهار حكمها وأحكامها، فإنه كذلك موجب للأثر التعبدي وغيره. فإن من عرف دلالات النصوص، ووقف على دقائقها واستشف أعماقها ، أوجبت له خضوعاً، وانكساراً، واعترافاً، بجلال وكمال المُرسِل والمُرسَل، وازداد يقينه، وقوي تصديقه بالنصوص الشرعية.
وأما تكوين الثراء المعرفي، المتعلق بمعرفة دلالات النصوص فهو بحاجة إلى:
- همة عالية، وشغف بالعلم، وسعي حثيث لطلبه.
- وعالم متميز متخصص ميسر للعلوم، مقرب للمعاني.
- مع كثرة النظر والطلاع.
- وصحبة صالحة، تعين على مواصلة العلم.
- بناء مكتبة متنوعة، تعين على تكوين الثراء المعرفي.
إن تكوين الثراء المعرفي، له طرقه وسبله الوفيرة، وقد أُلفت فيها المؤلفات وأفردت فيها المصنفات، ولمبتغي الخير، والزيادة، والإفادة، التماسها والنظر فيها.
لا ريب أن تكوين هذا الثراء المعرفي، يتبعه أثر معرفي موجب للأثر التعبدي وغيره.
فإذا علمت أن الله جل جلاله، الملك الحق المبين، فآمنت بالملك الإلهي المطلق، والعدالة الإلهية المطلقة، التي لا يمكن أن يضيع معها حق، أو يهضم معها نصيب، قال تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)} [النساء:124].
وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل:97].
وقال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)} [الإسراء:19].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)} [طه:112].
وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)} [الأنبياء:94]. وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)} [غافر:40].
فحين يشعر المرء بهذه الضمانات، وذلك الأمان بحفظ عمله الصالح، وأنه منمى مدخراً له، ثم مجازاته عليه بأحسن الجزاء، لا شك أنه سيسعى مع الساعين، ويتنافس مع المتنافسين، ولن يقف عند حدود عمل بعينه، بل سيسهم في كل باب خير بسهم، وسيُبقِي له في كل عين أثر.
وإذا علمت أن الله جل جلاله، الجبار المنتقم، فآمنت بالقدرة الإلهية المطلقة، والعدالة الإلهية المطلقة، التي تنتصر لكل مظلوم، وتأخذ الحق لكل مهضوم، قال جل جلاله:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)} [إبراهيم:42 - 43].
فحينها فقط ستسعى للتخلص من كل مظلمة، تعلقت بالنفس، أو المال أو العرض.
فلا شك أن الثراء المعرفي، موجب للأثر التعبدي، والسلوكي والأخلاقي والنفسي، والاجتماعي.
فالثراء المعرفي بالدار الآخرة، له انعكاسات إيجابية، فبه تنشأ سلوكيات وأعمال خير وبر، لم تكن لتنشئ لولاه، وتسود معانٍ من الولاء والإخاء والوفاء، لم تكن لتسود لولاه.