الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني سر الاقتران بين ركني الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر
ورد هذا الاقتران والتلازم في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسوله عليه الصلاة والسلام كثيرا، ومن شواهده في القرآن الكريم، قول المولى سبحانه وتعالى:
- {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].
ومن شواهده في السنة المطهرة، قول النبي صلى الله عليه وسلم:
- «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً «
(1)
.
- «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ «
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب ح (104)، وأخرجه مسلم في كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها ح (1353).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب تقصير الصلاة، باب في كم تقصر الصلاة ح (1088، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحج، باب سفر الرأة مع محرم إلى حج وغيره ح (1338).
- «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا «
(1)
.
- «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ «
(2)
.
- «لَا يُبْغِضُ الْأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ «
(3)
.
دلت هذه النصوص الشرعية الشريفة المنيفة على قضيتين:
الأولى: ما نبه عليه بعض أهل العلم والفضل: من أن الإشارة إلى اليوم الآخر في هذه النصوص، متضمن للإيمان بالأنبياء والكتب.
قال الإمام ابن عطية: " وفي الإيمان باليوم الآخر اندرج الإيمان بالرسل والكتب، ومنه يتفهم، لأن البعث لم يعلم إلا بإخبار رسل الله عنه تبارك وتعالى "
(4)
، وقال أيضا:" وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالأنبياء، لأنه من جائزات العقل التي أثبتها السمع من الأنبياء "
(5)
. وكذا أشار إلى هذا المعنى الإمام أبو حيان فقال: " وقد اندرج في الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالرسل؛ إذ البعث لا يُعرف إلا من جهة الرسل "
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب حد المرأة على غير زوجها ح (1280)،، وأخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة ح (1486).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب البر والصلة، باب من كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فلا يُؤذ جاره ح (6018)، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف ح (47).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار من الإيمان ح (76).
(4)
ابن عطية: المحرر الوجيز: (1/ 158).
(5)
ابن عطية: المحرر الوجيز: (1/ 158).
(6)
أبو حيان: البحر المحيط: (1/ 312 - 391).
وقد دل الإيمان باليوم الآخر، على بقية الإركان بدلالة اللزوم، يقول العلامة المناوي:" واكتفى بهما عن الإيمان بالرسل والكتب وغيرهما لأن الإيمان باليوم الآخر على ما هو عليه يستلزمه "
(1)
.
الثانية: ما أشار إليه العلماء، من أسرار وحِكَم تخصيص اقتران الإيمان بالله تعالى باليوم الآخر أكثر من غيره، فقد ذكروا أوجها متعددة في سر هذا الاقتران يجمعها قوة اللفظ والتعبير، الموجب للخوف والتغيير. فلفظ اليوم الآخر يُشعر برهبة مع طُمأنينة، وارتعاد مع سكون، ووجل مع حذر فيحرك النفس، ويُحفز الوجدان، ويقود الجوارح؛ للاستعداد والعمل.
وإن الدوافع الفطرية الجامحة التي فُطر عليها البشر، من حب للبقاء والأخذ والنماء، والتملك والارتقاء، التي ربما جنح المرء فيها عن طريق الصواب ليحصلها، فأمام هذه الدوافع والمغريات، تقف التجارب البشرية عاجزة لضبطها ووقف زحفها، وحينها " لا شيء يمكن أن يعين الإنسان على ضبط هذه الدوافع، والوقوف بها عند الحدود المأمونة التي فرضها الله، قدر ما يعينه الإيمان باليوم الآخر، الذي يعوض فيه الإنسان عن كل حرمان تعرض له في الأرض، بنعيم دائم لا ينفد، فضلًا عن كونه نعيمًا أجمل وأصفى وأجود "
(2)
.
فالتذكير باليوم الآخر " يقوي الوازع النفسي الذي يصد الإنسان عن الباطل والشر، والظلم والبغي، ويُرغبه في التزام الحق، والخير وعمل البر "
(3)
.
(1)
المناوي: فيض القدير: (6/ 209).
(2)
محمد قطب: منهج التربية الإسلامية: (2/ 290).
(3)
محمد رشيد رضا: تفسير المنار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990 م (11/ 175).
وإن كفر " الإنسان بهذا الركن من أركان الإيمان، يستلزم كفره بحكمة ربه وعدله في خلقه، وكفره بنعمته بخلقه في أحسن تقويم، وتفضيله على أهل علله (الأرض)، حيث سخرها وكل ما فيها لمنافعه
…
، ومن لوازم هذا الكفر والجهل كله، احتقاره لنفسه باعتقاده أنه خلق عبثا لا لحكمة بالغة، وأن وجوده في الأرض موقوت محدود بهذا العمر القصير، المنغص بالهموم والمصائب والظلم والبغي والآثام، وأنه يترك سدى لا يجزى كل ظالم من أفراده بظلمه وكل عادل بعدله وفضله، وإذ كان هذا الجزاء غير مطرد في الدنيا لجميع الأفراد تعين أن يكون جزاء الآخرة هو المظهر الأكبر للعدل العام "
(1)
.
وقد تباينت ألفاظ العلماء في التعبير عن سر هذا التخصيص، مع اتفاقهم على
…
المعنى العام الذي أشرنا إليه:
قال الإمام النسفي في سر هذا الاقتران: " لأن حاصل المسائل الاعتقادية يرجع إلى مسائل المبدأ، وهي العلم بالصانع وصفاته وأسمائه ومسائل المعاد وهي العلم بالنشور، والبعث من القبور، والصراط، والميزان، وسائر أحوال الآخرة "
(2)
.
وقال الإمام أبو حيان: " وذكر الإيمان بالله لأنه
…
هو الذي يحصل به التخويف، وتجنى فيه ثمرة مخالفة النهي "
(3)
، وقال في موضع آخر: وذكر اليوم الآخر؛ لأن فيه ظهور آثار عبادة الله من الجزاء الجزيل "
(4)
.
وقال العلامة علي القاري: " تخصيص اليوم الآخر بالذكر دون شيء من مكملات الإيمان بالله ; لأن الخير والمثوبة، ورجاء الثواب والعقاب، كلها راجعة إلى الإيمان باليوم الآخر، فمن لا يعتقده لا يرتدع عن شر، ولا يقدم على خير "
(5)
.
ففي تخصيص ذكر الإيمان باليوم الآخر؛ تنبيه وإرشاد؛ لإيقاظ النفس وتحرك الهمم؛ للمبادرة والامتثال
(6)
.
(1)
محمد رشيد رضا: تفسير المنار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990 م (11/ 175).
(2)
النسفي: مدارك التنزيل: (1/ 47).
(3)
أبو حيان: البحر المحيط: (2/ 495).
(4)
أبو حيان: البحر المحيط: (3/ 312).
(5)
القاري: مرقاة المفاتيح: (7/ 2731).
(6)
المناوي: فيض القدير: (6/ 209).
وقال العلامة العثيمين: " وكثيراً ما يقرن الله الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر لأن الإيمان باليوم الآخر يحدو بالإنسان أن يعمل العمل الصالح، وأن يبتعد عن العمل السيء لأنه يؤمن أن هناك يوماً آخر يجازى فيه الإنسان المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته "
(1)
، وقال في موضع آخر:" ولهذا الله يقرن الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر دائما؛ لأن الإيمان بالله ابتداء، والإيمان باليوم الآخر انتهاء فتؤمن بالله، ثم تعمل لليوم الآخر الذي هو المقر "
(2)
وقال الشيخ عبد المحسن العباد: " جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ذكر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر في هذه الأمور الثلاثة؛ لأنَّ الإيمانَ بالله هو الأساسُ في كلِّ شيء يجب الإيمانُ به، فإنَّ أيَّ شيء يجب الإيمان به تابعٌ للإيمان بالله، وأمَّا الإيمانُ باليوم الآخر، ففيه التذكير بالمعَاد، والجزاء على الأعمال، إن خيراً فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشرٌّ "
(3)
.
وقد رد الشيخ شهاب الدين الخفاجي على من ذهب إلى أنه لا تخصيص في مثل هذا الاقتران، فقال: " وما قيل: من أنه لا تخصيص هنا؛ لأنّ قوله: (بالله
…
إلخ)، قسم منهم أو منه تعالى، عدول عن جادّة الصواب بلا داع كما لا يخفى، وما تكلفه لتوجيهه غنيّ عن الردّ. وكون الإيمان بالله، والحشر، والنشر أعظم المقاصد الاعتقادية وأجلها ظاهر، مع أنّ من آمن بالله على ما يليق بجلال ذاته، آمن بكتبه ورسله وشرائعه، ومن علم أنّ إليه المصير استعدّ لذلك بالأعمال الصالحة "
(4)
.
(1)
العثيمين: تفسير سورة الواقعة:، ص (372)، العثيمين: شرح رياض الصالحين: (5/ 527).
(2)
العثيمين: لقاءات الباب المفتوح، لقاء رقم (196)، بتاريخ 18/ 10/1419 هـ.
(3)
العباد: فتح القوي المتين: ص (62).
(4)
شهاب الدين الخفاجي: حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي: (7/ 305).
ومن هنا نعلم أن " الإيمان باليوم الآخر آكد أركان الإيمان، فهو آكد من الإيمان بالكتب، ومن الإيمان بالرسل، ومن الإيمان بالملائكة؛ لأن الخلاف في الإيمان بها قليل، بخلاف الإيمان باليوم الآخر، فإن المنكرين له كثير، ولما كان الأمر كذلك، جاءت الأدلة الكثيرة عليه "
(1)
.
قال العلامة ابن أبي العز الحنفي: " الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة، والعقل، والفطرة السليمة. فأخبر الله سبحانه عنه في كتابه العزيز وأقام الدليل عليه، ورد على المنكرين، في غالب سور القرآن.
وذلك: أن الأنبياء كلهم متفقون على الإيمان بالله، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم، وهو فطري، كلهم يقر بالرب، إلا من عاند، كفرعون، بخلاف الإيمان باليوم الآخر، فإن منكريه كثيرون "
(2)
.
ولما كان الإيمان بالله تعالى أمرا فطريا، لا تستطيع الفطر السوية، ولا العقل السليم جحوده، سلَّم به الكثيرون. ولكن مع اجتماع النفس الأمارة بالسوء وغلبة الهوى والعناد، وفساد الاعتقاد، والرغبة في التفلت عن التكاليف الشرعية، وفقدان الوازع الإيماني، أنكر الكثير من الناس الإيمان بالمعاد، ولم يُسلِّموا به؛ ليسلموا من تبعات التسليم والقبول والانقياد بهذه القضية.
" ولذا فإن المناهج الأرضية الحديثة، لا وجود للمعالم الأخروية فيها فضلا عن مراعاتها. فالمناهج الإنسانية المعاصرة قامت على نظرة إلحادية في الأصل، تجعل الحياة الدنيا هي المستقر والمآل، والغاية التي تنتهي عندها حياة الفرد، فيسعى لتحقيق كل أمنياته، وأهدافه فيها "
(3)
.
(1)
الجبرين: شرح الطحاوية: اللقاء (63)، دون ذكر تأريخ اللقاء. ويراجع موقع الشيخ الرسمي على الشبكة العنكبوتية.
(2)
ابن أبي العز: شرح الطحاوية: ص (401).
(3)
علي حسن فرج: أهمية الإيمان باليوم الآخر، مقال في موقع الألوكة بتاريخ 19/ 4/1431 هـ
أما المنهج الشرعي القرآني فهو يقوم على تربية النفس، وتقوية الوازع الديني الإيماني، فتجعل من الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، ومعبرا إليها
…
تذكره كل لحظة بقضية الجزاء العادل يوم الدين، إذ " الحكمة والعدل يقضيان بالحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، كما يقضيان بأن ينال المحسن إحسانه، والمسيء إساءته
…
حتى يُطَهَّر المسيء من دنس النفس، ويكون أهلا لرحمة الله الكاملة
…
وقد تعرّض أحد القضاة الفرنسيين لتاريخ القضاء في فرنسا، وأصدر كتابا ذكر فيه عددا من الحالات، حكم فيها بالإعدام أو الإدانة على متّهمين، ثم برّأتهم الأيّام والحقائق، وأحصى عددا من الحالات، برّأ القضاء فيها متّهمين ثم أثبتت الأيام وحقائق الأحداث أنّهم مدانون.
ثم عقّب القاضي بقوله: إنه لا بدّ من جزاء وحساب أمام قاض آخر، لا تخفى عليه خافية ولا تغيب عنه حادثة، في دار أخرى؛ ليعوّض الناس عن أخطاء القضاء في الدنيا، وليكون حكمه فيصلا ومنصفا للمظلومين، ورادعا للمجرمين "
(1)
.
(1)
جعفر شرف الدين: الموسوعة القرآنية - خصائص السور، دار التقريب بين المذاهب:(3/ 7)