الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني أمثلة تبين حقيقة الاختلاف في الموازيين والقوانين الدنيوية والأخروية
في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ يُحْشَرُ الكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «ألَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ» ، قَالَ قَتَادَةُ: بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّنَا
(1)
، وهذا المشي على حقيقته، قال الحافظ ابن حجر: " وقد تقدم في التفسير أن الحاكم أخرجه من وجه آخر عن أنس بلفظ كيف يحشر أهل النار على وجوههم قوله أليس الذي أمشاه إلخ ظاهر في أن المراد بالمشي حقيقته
…
فالجواب الصادر عن النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر في تقرير المشي على حقيقته "
(2)
.
وذهب مجاهد إلى أن المراد به: مثل يُراد به الضال
(3)
، قال الإمام ابن الملقن:"وقيل: هو مثل الكافر والمؤمن، أن هذا ضال وهذا مهتد، وهذا قول مجاهد في تفسير قوله: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} [الملك:22]، وقال قتادة في تفسير الآية، بل هو حقيقة، وظاهر الحديث هنا حجة له "
(4)
.
وقيل في الحكمة من حشر الكافر على وجهه: " أنه عوقب على عدم السجود لله في الدنيا، بأن يسحب على وجهه في القيامة؛ إظهارا لهوانه بحيث صار وجهه مكان يده ورجله في التوقي عن المؤذيات "
(5)
.
فـ " من هذا الحديث علمنا: أنه يجب فيما يرد من الأخبار عن اليوم الآخر أن يحمل على ظاهره، ولو كان غير معتاد في الدنيا؛ لأن أحوال العالم الآخر لا تقاس على أحوال هذا العالم "
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن، باب قوله (الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم) ح (4743)، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب يحشر الكافر على وجهه ح (2806).
(2)
ابن حجر: فتح الباري: (11/ 382).
(3)
مجاهد: تفسير مجاهد، ت: د. محمد أبو النيل، ص (667).
(4)
ابن الملقن: التوضيح لشرح الجامع الصحيح (30/ 31).
(5)
ابن حجر: فتح الباري: (11/ 382)
(6)
ابن باديس: تفسير ابن باديس، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 - 1416 هـ، ص (185)
" والحاصل: أنه لابد من الإيمان بالغيب في أحوال الآخرة، والآن ربما استبعد العبد شيئا من ذلك حيث لم يدركه بعقله، فحوّل يقينه إلى الظن وربما وصل الأمر به إلى جحود شيء من ذلك فيكفر، والعياذ بالله تعالى "
(1)
.
ومن هنا قال الإمام ابن رجب: " ومما يدخل في النهي عن التعمق والبحث عنه: أمور الغيب الخبرية التي أمر بالإيمان بها، ولم يبين كيفيتها، وبعضها قد لا يكون له شاهد في هذا العالم المحسوس، فالبحث عن كيفية ذلك هو مما لا يعني، وهو مما ينهى عنه، وقد يوجب الحيرة والشك، ويرتقي إلى التكذيب "
(2)
.
وقال الشيخ العثيمين مقررا هذه الحقيقة في مسائل الغيب: " فالحاصل: أن هذه المسائل على الإنسان أن يُسلِّم بها، ولا يعارضها بعقل؛ لأن العقول أقصر من أن تدرك ذلك "
(3)
.
ويكفي في إدراك حقيقة هذه القضية، أن الإنسان لو تصور قول الله عز وجل في عقاب أهل النار - أعاذنا الله تعالى منها -:{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)} [الحج:19 - 22]، فلو تصور " كيف تقطع النار ثيابا؟ كيف تصهر الأمعاء والأحشاء بالحميم الذي يصب من فوق الرؤوس؟ وهل يبقى فيهم بعد انصهارهم ما يضرب بمقامع الحديد؟ كيف؟
(1)
ابن عزوز: العقيدة الإسلامية، دار البشاير الإسلامية - بيروت، ط 1 - 1421 هـ، ص (310).
(2)
ابن رجب: جامع العلوم والحكم، مؤسسة الرسالة - بيروت، ط 7 - 1422 هـ (2/ 172).
(3)
العثيمين: شرح صحيح البخاري، مكتبة الطبري - القاهرة، ط 1 - 1429 هـ (6/ 423).
إن الأمر لو كان على سنن الدنيا وقوانينها؛ لأدى إلى موتهم، ولكن ذلك يحقق لهم طلبتهم من مالك خازن جحيمهم، والله لا يريد أن يخفف عنهم من عذابها، ولا أن يقضي عليهم فيموتوا، ولذلك جعل لهذه الحياة الأبدية نظاما وسننا غير التي نعرفها في هذه الحياة الدنيا "
(1)
.
(1)
الغزالي خليل: ثمرات الإيمان بالله واليوم الآخر - ضمن مجلة البحوث الإسلامية، العدد 8 - 1403 هـ (283)
ومن هنا يتبين أن " حقائق وطبائع الأشياء الدنيوية، مختلفة عن حقائق وطبائع الأشياء الأخروية "
(1)
وإن اتفقت في الأسماء. ومن كمال الشوق إلى الجنة أن القرآن الكريم حين أخبرنا عن نعيم الجنة، أخبرنا بما هو معلوم لنا كقوله تعالى:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)} [محمد:15]، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخبر فيه عن إدام أهل الجنة، وفيه:
…
«تَكُونُ الأَرْضُ يَوْمَ القِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً، يَتَكَفَّؤُهَا الجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ، نُزُلًا لِأَهْلِ الجَنَّةِ» ، فَأَتَى رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ فَقَالَ: بَارَكَ الرَّحْمَنُ عَلَيْكَ يَا أَبَا القَاسِمِ، أَلَا أُخْبِرُكَ بِنُزُلِ أَهْلِ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ:«بَلَى» قَالَ: تَكُونُ الأَرْضُ خُبْزَةً وَاحِدَةً، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْنَا ثُمَّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِإِدَامِهِمْ؟ قَالَ: إِدَامُهُمْ بَالَامٌ وَنُونٌ، قَالُوا: وَمَا هَذَا؟ قَالَ: ثَوْرٌ وَنُونٌ، يَأْكُلُ مِنْ زَائِدَةِ كَبِدِهِمَا سَبْعُونَ أَلْفًا «
(2)
.
" فهل عسل الدنيا كعسل الآخرة؟ وهل خمر الدنيا كخمر الآخرة؟ وهل المساكن والنساء في الدنيا، كالمساكن والنساء في الآخرة؟ بينهما فرق عظيم:
(1)
أحمد عبد اللطيف: شرح الرسالة التدمرية، ص (192).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق، باب يقبض الله الأرض يوم القيامة ح (6520، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب نزل أهل الجنة ح (2792).
- العسل في الجنة أنهار، وفي الدنيا يخرج من بطون النحل.
- واللبن في الجنة أنهار، وفي الدنيا يخرج من ضروع البهائم.
- والنساء لا يمتخطون، ولا يتغوطون، ولا يتبولون، بخلاف نساء الدنيا "
(1)
.
- إذن: " فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عما في الجنة من المخلوقات: من أصناف المطاعم، والملابس، والمناكح، والمساكن؛ فأخبرنا أن فيها لبنا، وعسلا، وخمرا، وماء، ولحما، وحريرا، وذهبا، وفضة، وفاكهة وحورا، وقصورا، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء "
(2)
.
فهذه الأمور كلها حق، وهي موافقة في الاسم لما في الدنيا من حيث المعنى لا في الحقيقة، " أما موافقته لما في الدنيا في المعنى فلأن الله تعالى قال عن القرآن:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)} [الزخرف:3]،ولولا موافقته له في المعنى؛ ما فهمناه ولا عقلناه.
وأما مخالفته له في الحقيقة فلقوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة:17]، وقوله في الحديث القدسي:
…
{أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: " ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء "
(3)
.
فالاتفاق يكون في الأسماء والمعنى العام المشترك، أما الحقائق فهي مختلفة.
فإن قيل: ما الداعي لإثبات قدر مشترك بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة؟
فالجواب: لو لم نثبت القدر المشترك، وهو الاتفاق في الاسم، وفي المعنى الكلي العام، لما فهم الخطاب
(4)
.
(1)
أحمد عبد اللطيف: شرح الرسالة التدمرية، مكتبة الشنقيطي - جده، ط 1 - 1433 هـ، ص (192).
(2)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى: (3/ 28).
(3)
العثيمين: تقريب التدمرية، دار ابن الجوزي - الدمام، ط 1 - 1419 هـ، ص (42).
(4)
الخميس: شرح الرسالة التدمرية، دار أطلس الخضراء، 1425 هـ، ص (181).
ويقول الشيخ العثيمين في شرحه لحديث الثور والنون في صحيح البخاري: " ولكن لاحظ أن الثور الذي ذُكر هنا ليس كالثور الذي نشاهده؛ لأن ما في الجنة من الأسماء، يتفق مع ما في الدنيا في الاسم فقط، أما الحقيقة فبينهما تباين عظيم "
(1)
.
فـ " عالم الغيب عالم عجيب، لا نعرف عنه إلا ما أخبرنا به الوحي الصادق وليس لنا معه إلا الإيمان والتصديق، دون القياس والتجريب؛ لأن المسألة خارجة عن قوانين عالمنا الحسي "
(2)
(1)
العثيمين: شرح صحيح البخاري، مكتبة الطبري - القاهرة، ط 1 - 1429 هـ (6/ 423).
(2)
سعيد حوى: الإسلام، دار السلام للطباعة - ط 3 - 1417 هـ، ص (723).