الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: قيل يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ
…
أَوْ نَفْسِهِ»
(1)
.
وعن زياد بن أبي زياد مولى بني مخزوم عَنْ خَادِمٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يَقُولُ لِلْخَادِمِ: «أَلَكَ حَاجَةٌ؟» قَالَ: حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ حَاجَتِي قَالَ: «وَمَا حَاجَتُكَ؟» قَالَ: حَاجَتِي أَنْ تَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ:«وَمَنْ دَلَّكَ عَلَى هَذَا؟» قَالَ: رَبِّي قَالَ: «إِمَّا لَا فَأَعِنِّي بِكَثْرَةِ السُّجُودِ»
(2)
.
المسألة الرابعة: المخالفون في أمر الشفاعة يوم الدين:
مع اتفاق الأئمة على ثبوت الشفاعة في الآخرة، وتواتر النصوص على إثباتها، إلا أن بعض الناس خالف في بعض أنواع الشفاعات، فنفوها؛ بناء على أصول فاسدة جرتهم إلى هذا النفي.
وممن أنكر الشفاعة جملة وتفصيلاً: الجهم بن صفوان، يقول العلامة الملطي:"وأنكر جهم الشفاعة، وأن قوماً يخرجون من النار"، وقال عن اتباع الجهم: "وأنكروا الشفاعة، أن يشفع رسول لله صلى الله عليه وسلم لأحد من أمته، وأن
…
يخرج الناس من النار بعدما دخلوها"
(3)
.
وكذا أنكرت الخوارج والمعتزلة، شفاعة الشافعين في أهل الكبائر، وممن نص على إنكارهم:
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب الحرص على الحديث ح (99).
(2)
أخرجه أحمد في السنن ح (16076)، وصححه إسناده الشيخ شعيب الأرناؤوط (25/ 479).
(3)
الملطي: التنبيهات والرد على أهل الأهواء والبدع، المكتبة الأزهرية الثراث- مصر:(99 - 134).
الإمام أبو الحسن الأشعري فقال:" واختلفوا في شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل هي لأهل الكبائر؟ فأنكرت المعتزلة ذلك، وقالت بإبطاله"
(1)
.
وقال الإمام أبو المظفر الإسفرايني في ذكر فضائح المعتزلة القدرية:" ثم زادوا على هذا ما هو أفضح منه، فأنكروا من مفاخر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان مختصاً به زائداً على الأنبياء، كوجود المعراج، وثبوت الشفاعة له يوم القيامة "
(2)
.
ويُشار هنا إلى أن المعتزلة والخوارج ونحوهم، لا ينكرون الشفاعة العظمى التي هي المفخرة للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الدين، وإنما استقر إنكارهم في الشفاعة لأهل الكبائر، وعليه فإن كان مقصود الإمام الاسفرايني إنكارهم الشفاعة العظمى فهذا غير مُسلّم؛ لأنه لم ينكرها أحد، إن كان المقصود إنكارهم الشفاعة في أهل الكبائر، فهذا الذي نحن فيه، ونقرره من كلام أهل العلم.
وقال الإمام المتولي: "شفاعة المصطفى عليه السلام، حق في حق العصاة من أمته، وأنكرت المعتزلة له ذلك وقالوا: لا يجوز الشفاعة لأهل الكبائر وشفاعته صلى الله عليه وسلم لرفع الدرجات لا لغفران السيئات"
(3)
.
وقال الإمام الرازي: " القول بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في حق فساق الأمة حق خلافًا للمعتزلة"
(4)
.
وقال العلامة العمراني:" وأنكرت المعتزلة والقدرية وأهل الزيغ الشفاعة وذلك لاعتمادهم على عقولهم الفاسدة، وأخذهم بالمتشابه من القرآن وتركهم الأخبار المروية الثابتة في الصحاح"
(5)
.
وقال الإمام العراقي:" ومنع منها الخوارج وبعض المعتزلة، على مذهبهم الفاسد في تخليد أهل الكبائر في النار".
(6)
(1)
الأشعري: مقالات الإسلاميين، 2/ 354، وانظر له: الإبانة، (241).
(2)
الإسفرايني: التبصير في الدين، عالم الكتب - لبنان، ط 1 1403 هـ، ص (66).
(3)
المتولي: الغنية في أصول الدين، المعهد الفرنسى للآثار الشرقيه، 1986 - القاهرة، ص (59).
(4)
الرازي: معالم أصول الدين، دار الكتاب العربي - بيروت:، ص (133)
(5)
العمراني: الانتصار، دار أضواء السلف - الرياض، ط 1 1419 هـ (3/ 688)
(6)
العراقي: طرح التثريب، مكتبة الباز - مكة، ط 1 1424 هـ (8/ 278)
ويقول الإمام ابن تيمية: "والخوارج والمعتزلة أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته"
(1)
.
ويقول الإمام ابن القيم:" كما رد الخوارج والمعتزلة النصوص المتواترة الدالة على خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة، فكذبوا بها، وقالوا: لا سبيل لمن دخل النار إلى الخروج منها بشفاعة ولا غيرها"
(2)
.
ويقول في موضع آخر:" وردت الخوارج ما شاء الله من الأحاديث الدالة على الشفاعة، وخروج أهل الكبائر من الموحدين من النار، بما فهموه من ظاهر القرآن"
(3)
.
ويقول أيضاً:" المثال الخامس: رد الخوارج والمعتزلة النصوص الصريحة المحكمة غاية الإحكام في ثبوت الشفاعة للعصاة، وخروجهم من النار بالمتشابه"
(4)
.
فالنقول عن الأئمة كثيرة جداً، في حكاية أقوال المخالفين من المعتزلة والخوارج، ومن نحا نحوهم في إنكار الشفاعة في أهل الكبائر، بناء ًعلى أصلهم الفاسد وهو:" أنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق، وهم في ذلك مخالفون للكتاب والسنة، أثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع مخالفة صريح المعقول.
ثم طرد الخوارج والمعتزلة هذا الأصل الفاسد، وقالوا: لا يجتمع في الشخص الواحد، طاعة يستحق بها الثواب، ومعصية يستحق بها العقاب ولا يكون الشخص الواحد محموداً من وجه، مذموماً من وجه، ولا محبوباً مدعوا من وجه، مسخوطاً ملعوناً من وجه، ولا يتصور أن الشخص الواحد يدخل الجنة والنار جميعاً عندهم، بل من دخل إحداهما لم يدخل الأخرى عندهم، ولهذا أنكروا خروج أحد من النار، أو الشفاعة في أحد من أهل النار"
(5)
.
(1)
ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم، دار عالم الكتب - بيروت، ط 7 1419 هـ (2/ 359)
(2)
ابن القيم: طريق الهجرتين، دار السلفية - القاهرة، ط 2 - 1394 هـ، ص (386)
(3)
ابن القيم: الطرق الحكمية، مكتبة دار البيان، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها، ص (66)
(4)
ابن القيم: إعلام الموقعين، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 1411 هـ (2/ 211)
(5)
ابن تيمية: الإيمان، المكتب الإسلامي - بيروت، ط 4 1413 هـ، ص (278).
ونشأ عن قولهم هذا القول: بوجوب الثواب، ولزوم العقاب على الله تعالى
(1)
.
فالعجب من هؤلاء وأمثالهم، أنهم قدموا عقولهم على النصوص الشرعية ثم احتجوا على باطلهم بنصوص من المتشابه، ولو أحسنوا لأخذوا بالمحكم البيّن الواضح، وأعرضوا عن المتشابه، ومما استدلوا به
(2)
:
1 -
قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)} [غافر:18]، قالوا: نفى الشفاعة عن الظالمين، والعاصي ظالم.
وأجيب: بأن المراد بالظالمين هنا: الكفار، وهؤلاء لا تلحقهم الشفاعة والله جل وعلا قد يسمي الكافر ظالماً كما في قوله تعالى:{لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} [المائدة:45]، وكذا احتجوا بالنصوص التي اشتملت على نفي الشفاعة، ويجاب عنها: إما بأنها لا تنفع المشركين، أو المقصود نفي الشفاعة التي أثبتها أهل الشرك ومن شابههم.
2 -
واحتجوا بما أخرجه مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا «
(3)
.
قالوا: هذا ذنب من فروع الإيمان وهو مخلد به، فلو كانت الشفاعة جائزة لكانت في حق هذا.
وأجيب عنه: بأن هذا محمول على من قتل نفسه مستحلاً لذلك، ومن استحل قتل نفسه، كفر بذلك، وخُلد في النار، ولا تنفعه الشفاعة.
وقيل: المراد بالخلود: طول المدة والإقامة المتطاولة، لا حقيقة الدوام، كما يقال: خلد الله ملك السلطان، وقيل: إن هذا جزاؤه، ولكن الله جل وعز أخبر أنه لا يخلد في النار من مات مسلماً.
(1)
الآمدي: غاية المرام، الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - القاهرة،:(1/ 306).
(2)
انظر: ابن بطال: شرح صحيح البخاري: (10/ 439)، محمد الطبري: الإيضاح في أصول الدين: ص (386)، ابن حزم: الفصل: (4/ 65)، السفاريني: لوامع الأنوار: (2/ 217).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل النفس ح (109).
3 -
قالوا: معلوم أن الدار الآخرة دار العدل والجزاء واستيفاء الحقوق فإذا أسقطت الذنوب، وأزيلت العقوبات بالشفاعات كان في ذلك استمرار لأهل الباطل في ذنوبهم، ثم يتكلون على الشفاعة، فيؤدي ذلك إلى فساد عظيم، مع الخروج عن حقيقة الجزاء والعدل، ورد المظالم، وهذا غير جائز.
أجيب: بأن الآخرة كما هي دار عدل وجزاء، فهي دار فضل وإنعام، ومن الإنعام أن تقبل شفاعة الشافعين في المذنبين، والعفو والمغفرة لا ينافي العدل من جهة أنه إسقاط حق. وإذا كان العفو محموداً في حق العباد، وفيه الفضل والإحسان في كونه فقيراً إلى عوضه، فالله تعالى الغني، أولى بالمحامد والمدائح، مع غنائه وفضله.
والخلاصة: أن الذي عليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة إثبات ما جاءت به السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من شفاعته لأهل الكبائر من أمته، وغير ذلك من أنواع شفاعاته، وشفاعة غيره من النبيين، والملائكة
(1)
.
وقال الإمام القرطبي: "وأما مذهب أهل السنة الذين جمعوا بين الكتاب والسنة، فإن الشفاعة تنفع العصاة من أهل الملة، حتى لا يبقى منهم أحد إلا دخل الجنة"
(2)
.
المسألة الخامسة: بيان فضل الله تعالى، وكمال عدله:
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - في الواسطية -:" ويخرج الله من النار أقواماً بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته، ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فينشئ لها أقواماً فيدخلهم الجنة"
(3)
.
اشتمل كلام الإمام ابن تيمية على قضيتين:
(1)
ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم، دار عالم الكتب - بيروت، ط 7 1419 هـ (2/ 360)
(2)
القرطبي: التذكرة، مكتبة دار المنهاج - الرياض، ط 1 1425 هـ، ص (776)
(3)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة النبوية (3/ 148)
1 -
إخراج قوم من النار دون شفاعة، بل بفضل الله ورحمته، وذلك: أنه لا يبقى في النار أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان، بل كلهم يخرجون منها ويدخلون الجنة، وقد ثبت هذا في حديث الصحيحين، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله تعالى يقول: «شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ: نَهَرُ الْحَيَاةِ، فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ»
(1)
.
وقد نص على هذا جماعة من أهل العلم:
يقول الإمام ابن أبي زمنين:" باب في الإيمان بإخراج قوم من النار، وأهل السنة يؤمنون بأن الله عز وجل، يدخل ناساً الجنة من أهل التوحيد، بعدما مستهم النار، برحمته تبارك وتعالى اسمه "
(2)
.
ومعلوم أن أحاديث الشفاعة، قد استفاضت وبلغت حد التواتر، ومن أعظمها شفاعة أرحم الراحمين سبحانه وتعالى، في المستغرقين في الخطايا والذنوب، الذين لم تعمل فيهم شفاعة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب صفة الجنة والنار ح (6560) وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب موت طريق الرؤية ح (183).
(2)
ابن أبي زمنين: أصول السنة، مكتبة الغرباء - السعودية، ط 1 1415 هـ، ص (181)
(3)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: (3/ 274)، الثعالبي: الجواهر الحسان: (4/ 69)
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَا زِلْتُ أَشْفَعُ إِلَى رَبِّي وَيُشَفِّعُنِي حَتَّى أَقُولَ: رَبِّ شَفِّعْنِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: فَيَقُولُ: لَيْسَتْ هَذِهِ لَكَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّمَا هِيَ لِي، أَمَا وَعِزَّتِي وَحِلْمِي وَرَحْمَتِي لَا أَدَعُ فِي النَّارِ أَحَدًا - أَوْ قَالَ: عَبْدًا - قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»
(1)
.
وعنه رضي الله عنه قال: حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: «
…
يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ لَكَ - أَوْ قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ إِلَيْكَ - وَلَكِنْ وَعِزَّتِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي وَجِبْرِيَائِي، لَأُخْرِجَنَّ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»
(2)
.
(1)
أخرجه أبو يعلي في مسنده ح (2786)،، وابن أبي عاصم في السنة ح (685)، وصححه الألباني في ظلال الجنة ح (828).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب التوحيد هم ح (7072)، وأخرجه مسلم، كتاب الإيمان ح (193).
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
…
فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالمَلَائِكَةُ وَالمُؤْمِنُونَ، فَيَقُولُ الجَبَّارُ: بَقِيَتْ شَفَاعَتِي، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدْ امْتُحِشُوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ بِأَفْوَاهِ الجَنَّةِ، يُقَالُ لَهُ: مَاءُ الحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ فِي حَافَتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ الحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، قَدْ رَأَيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ، وَإِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ، فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أَخْضَرَ وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ كَانَ أَبْيَضَ، فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ، فَيُجْعَلُ فِي رِقَابِهِمُ الخَوَاتِيمُ، فَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، فَيَقُولُ أَهْلُ الجَنَّةِ: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ أَدْخَلَهُمُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»
(1)
.
يقول الإمام ابن رجب:"والمراد بقوله: «لم يعملوا خيراً قط»: من أعمال الجوارح، وإن كان أصل التوحيد معهم، ولهذا جاء في حديث الذي أمر أهله أن يحرقوه بعد موته بالنار، إنه لم يعمل خيراً قط غير التوحيد، ويشهد لهذا ما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم -في حديث الشفاعة، قال: «فأقول: يارب ائذن لي فيمن يقول: لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي: لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله». خرجاه في الصحيحين وعند مسلم: فيقول: «ليس ذلك لك أو ليس ذلك إليك» وهذا يدل على أن الذين يخرجهم الله برحمته من غير شفاعة مخلوق، هم أهل كلمة التوحيد، الذين لم يعملوا معها خيراً قط بجوارحهم"
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ح (7439).
(2)
ابن رجب: التخويف من النار، دار البيان - بيروت، ط 2 - 1409 هـ، ص (256)
استدل البعض بالزيادة الواردة في الحديث: «أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه» ، بتجويز إخراج غير المؤمنين من النار. ورد هذا بوجهين، ذكرها الحافظ ابن حجر عن بعض أهل العلم:
1 -
أن هذه الزيادة ضعيفة؛ لأنها غير متصلة، كما قاله الإمام عبد الحق الإشبيلي في الجمع. ورد الحافظ هذا الجواب وقال عنه:" والوجه الأول غلط، فإن الرواية متصلة هنا، وأما نسبة ذلك لبعد الحق فغلط على غلط؛ لأنه لم يقله إلا في طريق أخرى، وقع فيها:«أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة خردل من خير» ، قال: هذه الرواية غير متصلة.
2 -
أن المراد بالخير المنفي: ما زاد على أصل الإقرار بالشهادتين، كما تدل عليه بقية الأحاديث"
(1)
.
ومما ينبه إليه في هذا المقام: أن البعض استدل بحديث الجهنميين، واعتمد على كلام الإمام ابن رجب السابق في أنهم لم يعملوا خيراً قط بجوارحهم على أن تارك العمل الظاهر بالكلية تحت المشيئة مستوجب للنجاة عند الله تعالى، وهؤلاء لهم استدلالات هي في حقيقتها شبه مخالفة لمقالات علماء السلف، وقد رد الأئمة على هذه الشبه، ومن تلك الشبه: حديث الجهنميين الذي معنا.
فذهب الإمام ابن رجب، إلى أنهم لم يعملوا شيئاً من أعمال الجوارح، وأنهم من أهل التوحيد دون تفصيل، في حين ذهب في أحاديث النطق بالشهادة وجعلها شرطاً لدخول الجنة، وترتيب النجاة على قولها، إلى أنها نصوص مطلقة، مقيدة بأحاديث أخرى، مما يدل على أن كلام الإمام ابن رجب ينبغي أن يُحمل على حالات خاصة، كبعض شرار الخلق في آخر الزمان حين يفشوا الجهل، ويندرس الدين.
(1)
ابن حجر: فتح الباري، دار المعرفة - بيروت، 1379 هـ (13/ 429)
وعلى هذا جاء حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً: «يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ، حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا نُسُكٌ، وَيُسَرَّى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فِي لَيْلَةٍ فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ، وَيَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ الْكَبِيرَةُ، يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَنَحْنُ نَقُولُهَا» قَالَ صِلَةُ بْنُ زُفَرَ لِحُذَيْفَةَ: فَمَا تُغْنِي عَنْهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا صِيَامٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا نُسُكٌ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حُذَيْفَةُ فَرَدَّدَهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ حُذَيْفَةُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَ:"يَا صِلَةُ تُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ"
(1)
.
وبالجمع بين روايات هذا الحديث، يتبيّن أن الجهنميين من أهل الصلاة
(2)
فلا يصح أن يُقال: إنهم تركوا العمل الظاهر بالكلية، فيكون الحديث خارجاً عن موضع النزاع.
إذن: فالواجب الجمع بين الروايات، ليُعلم العام من الخاص، والمطلق المقيد فتبقى النصوص على عمومها وإطلاقها، ويخصص أو يقيد ما عداها.
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك ح (8460) وقال: صحيح على شرط مسلم، وسكت عنه الذهبي، دار (4/ 520)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 127)، انظر: الحوالي: ظاهرة الإرجاء: (511)
(2)
انظر: محمد الخضير: الإيمان عند السلف وعلاقته: (2/ 136)
وكذلك مما يقال في توجيه الحديث: أن اللفظ الوارد فيه: «لم يعملوا خيراً قط» ، قد ورد في بعض الآثار الصحيحة، ولم يكن المراد منه، نفس المراد في حديثنا من نفي العمل الظاهر بالكلية، كما في حديث قاتل المائة، وفيه:«أنه لم يعمل خيراً قط»
(1)
. وقد جاء في وصف ملائكة الرحمة لهذا الرجل: «جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله» ، وهذا عمل صالح، وعليه: يمكن توجيه معنى النفي في الحديث بمعنى: النقص عن التمام والكمال، فيصير معنى هذه الكلمة على هذا الأصل: لم يعملوا خيرا قط على التمام والكمال، لا على ما أوجب عليه، وأمر به، أفاده الإمام ابن خزيمة
(2)
.
وفي حين ذهب البعض، إلى أن هذا الحديث من المتشابه، الذي يجب رده للمحكم
(3)
.
وذكر العلماء في تفسير قوله في الحديث: «فيقول الجبار: بقيت شفاعتي» : أنها من باب المطابقة لمن تقدمه من الشفاعات؛ لأن الله تعالى يخرجهم تفضلاً منه، من غير أن يشفع إلى أحد
(4)
.
وذكر الإمام القرطبي بعض السؤالات المفيدة، وأجاب عنها في كتابه التذكرة منها:
1 -
ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري قال: «فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم»
(5)
، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«يكتب على جباههم عتقاء الرحمن»
(6)
، وهذا تعارض!
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتبا التوبة، باب قبول توبة القاتل ح (2766).
(2)
ابن خزيمة: التوحيد: (2/ 732) وانظر: الإيمان لأبي عبيد: ص (41)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة، مكتبة الدار - المدينة النبوية، ط 1 1406 هـ (2/ 578).
(3)
ابن عثيمين: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين، دار الوطن، 1413 هـ (12/ 72).
(4)
ابن الملقن: التوضيح لشرح الجامع الصحيح، دار النوادر -دمشق ط 1 1429 هـ (33/ 346).
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ح (7439)، دار طوق النجاة، ط 1 1422 هـ.
(6)
الحديث أخرجه أبو نعيم في الحلية، دار الكتب العلمية - بيروت، 1409 هـ (5/ 372).
ووجه الجمع: أن يكون بعضهم سيماهم في وجوههم، وبعضهم سيماهم في رقابهم، وقد جاء في حديث جابر، وفيه بعد إخراج الشافعين، ثم يقول الله تبارك وتعالى:«أنا الله أخرج بعلمي ورحمتي، فيخرج أضعاف ما خرجوا وأضعافهم، ويكتب في رقابهم عتقاء الله عز وجل، فيدخلون الجنة، فيسمون فيها بالجهنميين»
(1)
، فيحتمل أن يكون المعنى في حديث أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما، فيخرجون كاللؤلؤ، يعرف أهل الجنة أشخاصهم بالخواتيم المكتوبة على جباههم، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولا تعارض على هذا.
2 -
إن قال قائل: لم سألوا محو ذلك الاسم عنهم «الجهنميون» وهو اسم شريف؛ لأنه سبحانه أضافه إليه، كما أضاف الأسماء الشريفة فقال: نبيي، وبيتي، وعرشي، وملائكتي، بخلاف المتحابين في الله، فقد جاء في الخبر:«إن المتحابين في الله مكتوب على جباههم، هؤلاء المتحابون في الله»
(2)
، ولم يسألوه محوه.
والجواب: إنما سألوا ذلك بخلاف المتحابين في الله؛ لأنهم أنفوا أن ينسبوا إلى جهنم، التي هي دار الأعداء، واستحيوا من إخوانهم لأجل ذلك، فلما منّ الله عليهم بدخول الجنة، أرادوا إكمال الامتنان، بزوال هذه النسبة عنهم وأما سيما المتحابين، فعلامة شريفة، ونسبة رفيعة، فلذلك لم يسألوا محوها
3 -
فإن قيل: ففي هذا ما يدل على أن بعض من يدخل الجنة، قد يلحقه تنغيص ما، والجنة لا تنغيص فيها ولا نكد!
قيل له: هذه الأحاديث تدل على ذلك، وأن ذلك يلحقهم عند دخول الجنة ثم يزول ذلك الاسم عنهم. وقد مثل بعض علمائنا هذا الذي أصاب هؤلاء بالبحر تقع فهي النجاسات، أنه لا حكم لها، كذلك ما أصاب هؤلاء بالنسبة إلى أهل الجنة، وهو تشبيه حسن
(3)
.
(1)
أخرجه ابن الجعد في مسنده ح (2639)، مؤسسة نادر - بيروت، ط 1 1410 هـ.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده ح (416)، دار الوطن - الرياض، ط 1 1997 م.
(3)
القرطبي: التذكرة، مكتبة دار المنهاج - الرياض، ط 1 1425 هـ، ص (786).
والخلاصة: أن الله جل وعلا يتفضل على بعض أهل النار فيخرجهم منها فضلاً، وكرماً، ووعداً منه حقاً، وكلمة صدقاً {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فسبحان الرؤوف بعباده
(1)
.
يقول الإمام أبو طالب المكي:" ويعتقد إخراج الموحدين من النار بعد الانتقام، حتى لا يبقى في جهنم موحد، بفضل الله بشفاعة الشافعين من النبيين والصديقين، وأن لكل مؤمن شفاعة بإذن الله، فيشفع النبيون والصديقون، والعلماء، والشهداء، وسائر المؤمنين، كل واحد وسع جاهه وقد منزلته. أجمعت الرواة بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات الشفاعة، وفي إخراج الموحدين من النار، وهم الجهنميون من أهل الطبقة العليا من النار وهو معنى قول الله تعالى:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)}
…
[الحجر: 2]، قال أهل التفسير: ذلك عند إخراج الموحدين من النار، ويبقى الباقي لرحمة أرحم الراحمين، فيخرج من النار بمشيئته، وسعة رحمته وفضل فضله من لم يشفع لهم الشافعون، ولم يقدم في الشفاعة لهم المرسلون، هكذا روينا معناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذه عقود السنة الهادية، وطريقة الأمة الراضية وقد أجمع السلف من المؤمنين على ما ذكرناه من قبل، أنه لم ينقل عن أحد منهم خلافه، ولا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضده، بل قد روي في كل ما ذكرناه أخبار توجب إيجابه، ومعاني تشهد لإثباته، وتولى الله تعالى إجماعهم على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تولى إظهار دينه على الدين كله "
(2)
.
…
وقال بعضهم:
وقل يخرج الله العظيم بفضله من النار أجساداً من الفحم تُطرح
(1)
القرطبي: التذكرة، مكتبة دار المنهاج - الرياض، ط 1 1425 هـ، ص (786).
(2)
أبو طالب المكي: قوت القلوب، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 2 - 1426 هـ (2/ 212).
على النهر في الفردوس تحيا بمائه كحب حميل السيل إذا جاء يطفح
(1)
والقضية الثانية التي اشتمل عليها كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الواسطية، قوله:"ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فينشئ لها أقواماً فيدخلهم الجنة"
(2)
.
ما ذكره الإمام ابن تيمية حق، دلت عليه نصوص السنة المطهرة، وهذا الكرم من الرب سبحانه وتعالى المنصوص عليه في الأحاديث الشريفة، في خلق أقوام ليدخلهم جنته سبحانه وتعالى، مداره أمران:
(أ) ما وعد به جل وعلا الجنة والنار من ملئهما، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَحَاجَّتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ، قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ: فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ عز وجل مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الجَنَّةُ: فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا «
(3)
.
(1)
عبد العزيز السلمان: مختصر الأسئلة والأجوبة الأصولية، ط 12 1418 هـ، ص (119).
(2)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة النبوية (3/ 148).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله (وتقول هل من مزيد) ح (4850)، وأخرجه مسلم في صحيحه كتبا صفة الجنة ونعيمها وأهلها ح (2846).
يقول الإمام ابن تيمية: " فإن الله جل وعلا، يُضيق النار على من فيها لسعتها، فإنه قد وعدها ليملأنها من الجِنّة والناس أجمعين، وهي واسعة فلا تمتلئ حتى يضيقها على من فيها، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً، فيدخلهم الجنة، فلا يضيقها سبحانه، بل ينشئ لها خلقاً فيدخلهم الجنة، لأن الله يدخل الجنة من لم يعمل خيراً؛ لأن ذلك من باب الإحسان، وأما العذاب بالنار فلا يكون إلا من عصى، فلا يعذب أحداً بغير ذنب"
(1)
.
(2)
كمال الكرم والرحمة الإلهية:
يقول الإمام ابن القيم: "والرب جل وعلا، وسع كل شيء رحمة وعلماً فوصلت رحمته إلى حيث انتهى علمه، فليس موجود سوى الله تعالى، إلا وقد وسعته رحمته وشملته، وناله منها حظ ونصيب، ولكن المؤمنين اكتسبوا أسباباً استوجبوا بها تكميل الرحمة ودوامها، والكفار اكتسبوا أسباباً استوجبوا بها صرف الرحمة إلى غيرهم
…
كتب على نفسه الرحمة، ولم يكتب عليها الغضب، وسبقت رحمته غضبه وغلبته، ولم يسبقها الغضب ولا غلبها ووسعت رحمته كل شيء، ولم يسع غضبه وعقابه كل شيء، وخلق الخلق ليرحمهم لا ليعاقبهم، والعفو أحب إليه من الانتقام، والفضل أحب إليه من العدل، والرحمة آثر عنده من العقوبة، لهذا لا يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من خير"
(2)
.
ومن مقتضى هذه الرحمة، وكمال العدل للرب جل وعز، أنه حين يبقى فضل في الجنة بعد أنه ينزل أهل الجنة منازلهم، ينشئ الرب جل في علاه أقواماً فيدخلهم الجنة؛ كرماً منه وفضلاً، وهذا هو ملؤها، فإن الله سبحانه لا يظلم أحداً من خلقه.
(1)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة النبوية (16/ 47).
(2)
ابن القيم: مختصر الصواعق المرسلة، دار الحديث - القاهرة، ط 1 1422 هـ، ص (261).
وهذا فيه إشارة كما يقول الحافظ ابن حجر:" إلى أن الجنة يقع امتلاؤها بمن ينشئهم الله لأجل ملئها، وأما النار فلا ينشئ لها خلقاً، بل يفعل فيها شيئاً عبر عنه بما ذُكر، يقتضي لها أن ينضم بعضها إلى بعض، فتصير ملأى، ولا تحتمل مزيداً"
(1)
.
وهذا هو الوارد الصحيح في السنة، وهو دال على كرم الله وفضله وعدله بخلاف ما رواه الإمام البخاري في صحيحه من رواية انقلبت على راويها يقول فيها: «وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ، فَيُلْقَوْنَ فِيهَا، فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، ثَلَاثًا، حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَمْتَلِئُ، وَيُرَدُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ قَطْ «
(2)
.
وقد نص الأئمة على انقلاب الحديث على الراوي، وأن الصحيح العكس ولذا قال الإمام ابن تيمية:" ووقع في بعض طرق البخاري غلط قال فيه: «وأما النار فيبقى فيها فضل»، والبخاري رواه في سائر المواضع على الصواب ليبيّن غلط هذا الراوي"
(3)
.
وقال الإمام أبو الحسن القابسي:" المعروف في هذا الموضع أن الله ينشئ للجنة خلقاً، وأما النار فيضع فيها قدمه، ولا أعلم في شيء من الأحاديث: «أنه ينشئ للنار خلقاً «إلا هذا "
(4)
.
وقال الإمام ابن القيم:" وأما الحديث الذي قد ورد في صحيح البخاري من قوله: «وأما النار فينشئ الله لها خلقاً آخرين»، فغلط وقع من بعض الرواة انقلب عليه الحديث، وإنما هو ما ساقه البخاري في الباب نفسه: «وأما الجنة فينشئ الله لها خلقاً آخرين»، ذكره البخاري رحمه الله مبيناً أن الحديث انقلب لفظه على من رواه، بخلاف هذا"
(5)
.
(1)
ابن حجر: فتح الباري، دار المعرفة - بيروت، 1379 هـ (8/ 597)
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد: ح (7449) دار طوق النجاة، ط 1 1422 هـ.
(3)
ابن تيمية: منهاج السنة النبوية، جامعة الإمام محمد بن سعود، ط 1 1406 هـ (5/ 101)
(4)
ابن حجر: فتح الباري، دار المعرفة - بيروت، 1379 هـ (13/ 436)
(5)
ابن القيم: حادي الأرواح، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 1403 هـ، ص (366)
وقال:" وأما اللفظ الذي وقع في صحيح البخاري في حديث أبي هريرة
…
فغلط من بعض الرواة، انقلب عليه لفظه، والروايات الصحيحة، ونص القرآن يرده، فإن الله سبحانه أخبر أنه يملأ جهنم من إبليس وأتباعه، فإنه لا يعذب إلا من قامت عليه حجته، وكذب رسله، قال تعالى:{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)} [الملك:8 - 9]، ولا يظلم الله أحداً من خلقه"
(1)
.
وقال الإمام ابن الوزير عن هذا الحديث:" فهذا حديث مقلوب، انقلب على بعض رواته"
(2)
، وقال الحافظ ابن حجر: "وقال جماعة من الأئمة: إن هذا الموضع مقلوب، وجزم ابن القيم بأنه غلط، واحتج بأن الله تعالى أخبر بأن جهنم تمتلئ من إبليس وأتباعه، وكذا أنكر الرواية شيخنا البلقيني واحتج بقوله:{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف:49]
(3)
.
وقد ذهب بعض العلماء إلى تأويل اللفظ المذكور في الحديث، مع معارضته في الظاهر لقول الله تعالى:{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف:49]؛ تخلصاً من نسبة الغلط إلى الراوي. ومن تأويلاتهم
(4)
:
قالوا: المراد بالخلق: ما يكون من غير ذوي الأرواح، وذلك كأحجار تلقي في النار، وذلك لئلا يلزم أن يعذب أحد بغير ذنب.
وقال بعضهم: لا مانع أن يكون المنشأ للنار من ذوي الأرواح، غير أنهم لا يعذبون بها، وذلك كما في خزنتها من الملائكة.
وقال بعضهم: ينشئ الله تعالى لها خلقاً لم يكن في الدنيا.
(1)
ابن القيم: حادي الأرواح، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 1403 هـ، ص (394)
(2)
ابن الوزير: إيثار الحق على الخلق، دار الكتب العلمي - بيروت، ط 2 - 1987 م، ص (217)
(3)
ابن حجر: فتح الباري، دار المعرفة - بيروت، 1379 هـ (13/ 437)
(4)
انظر: ابن بطا 0000 ل: شرح صحيح البخاري (10/ 472)، ابن حجر: فتح الباري: (13/ 436) السمعوني: توجيه النظر ص (319 - 520)
وقال بعضهم: ينشئ للنار خلقاً، يريد من قد شاء أن يلقى فيها، ممن قد سبق له الشقاء، ممن عصاه وكفر به.
والصحيح ما ذُكر من انقلاب الحديث على الراوي، حتى يوافق ما ثبت في النصوص الشرعية، من كمال عدل الله ورحمته، وأنه سبحانه جل في علاه لا يظلم أحداً.
والعجيب أن الإمام ابن بطال نقل عن المهلب احتجاجه بهذا الأثر على: أن لله جل وعلا، أن يعذب من لم يكلفه عبادته في الدنيا، ولا يخرجه إليها لقوله:{وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم:27]، قال: بخلاف من يقول: إن الله لو عذب من لم يكلفه لكان ظالماً، وهذا الحديث حجة عليهم
(1)
.
ورد عليه الحافظ ابن حجر فقال:" وهو عندهم من جهة الجواز، وأما الوقوع ففيه نظر، وليس في الحديث حجة؛ للاختلاف في لفظه ولقبوله التأويل"
(2)
.
والصحيح الموافق لصحيح المنقول والمعقول ما ذكره الإمام ابن تيمية:" أنه لم يثبت بدليل يعتمد عليه، أن الله يعذب في الآخرة من لم يذنب، ودلائل القرآن والسنة يدلان على نقيض هذا القول، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لكن هذا مما عُلم أنه لا يشاؤه بالأخبار الصادقة، وبموجب كلمته وبمقتضى أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، كما أنه قد علم أنه لا يخرج أهل الجنة منها، بل خالدون فيها أبداً، وأنها لا تفنى أبداً، وعُلم أنه لا يخلّد في النار من في قلبه ذرة من إيمان، كما أخبرت بذلك النصوص، وهو سبحانه لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، لكن قد علم أنه لا يعذب المتقين، ولا يسويهم بالفجار المذنبين"
(3)
.
(1)
ابن بطال: شرح صحيح البخاري، مكتبة الرشد - الرياض، ط 2 - 1423 هـ (10/ 472)
(2)
ابن حجر: فتح الباري (13/ 436)، انظر: القاري: مرقاة المفاتيح (9/ 3629 - 3630)
(3)
ابن تيمية: الرد على الشاذلي ص (81)، وانظر: ابن تيمية: النبوات: (1/ 486)