الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن هنا قال النجاشي: الملك يبقي على الكفر، ولا يبقي على الظلم
(1)
، ولما سأل الاسكندر حكماء أهل بابل: أيما أبلغ عندكم: الشجاعة أم العدل؟ قالوا: إذا استعملنا العدل، استغنينا عن الشجاعة
(2)
.
يقول العلامة ابن خلدون:" وبإقامة العدل في القضاء والعلم، تصلح أحوال الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، وتأخذ الناس حقوقهم، وتحسن المعيشة، ويؤدى حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقيم الدين، ويجري السنن والشرائع في مجاريها"
(3)
. إن الظلم والجور "آفة الزمان ومحدث الحدثان، وجالب الإحن، ومسبب المحن، ومحيل الأحوال، وممحق الأموال، ومخلي الديار، ومحيي البوار "
(4)
.
ومن هنا نعلم يقينا، أن الإيمان باليوم الآخر والمعاد، موجب لمنع الظلم، قال بعض الحكماء:"الظلم من طبع النفوس، وإنما يصدها عن ذلك أحد علتين: إما علة دينية؛ لخوف معاد، أو علة سياسية؛ لخوف سيف"
(5)
.
4 - يربي المؤمن على تخطي المواقف الصعبة:
البلاء سنة ربانية، يمحص الله تعالى به المؤمن من غيره، يقول تعالى:{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت:1 - 3].
فقد تضعف النفس البشرية مع حلول البلاء، ويصيبها نوع من الوهن والضعف والخواء، وربما لجأت إلى الشكاية؛ للخلاص مما ألم بها من الداء واللأواء.
(1)
ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، دار صادر - بيروت، ط 1 1417 هـ، (1/ 313)
(2)
ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، دار صادر - بيروت، ط 1 1417 هـ، (3/ 175)
(3)
ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، دار الفكر - بيروت، ط 2 - 1408 هـ، ص (383)
(4)
أحمد البكري: نهاية الأرب في فنون الأدب، دار الكتب والوثائق القومية - القاهرة (6/ 40)
(5)
ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، دار صادر - بيروت، ط 1 1417 هـ، (1/ 279).
وفي هذه اللحظات المريرة، التي تُعبِّر عن مكامن الضعف الإنساني والخلل الوجداني، تجد هذه النفوس من يحي فيها الأمل، ويجدد لها مستقبل العمل، فيفتح لها آفاق الحياة الحقيقية، التي تهون عندها كل المصاعب.
فالصحابة الأوائل رضي الله عنهم، لما لاقوا ما لاقوا من الشدائد وآلام التعذيب، جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم طالبين منه أن يدعو لهم، في أن يخلصهم الله تعالى مما حل بهم من الكرب والشدة، فإذا بكلمات من الرسول الشفيق الرحيم، تنزل على قلوب المؤمنين برداً وسلاماً، يستعذبون بعدها ما كانوا يجدونه من ألم، وما كانوا يعانونه من شدة، يقول لهم:«كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام ح (3612).
ولما عانت أسرة آل ياسر - الأسرة المباركة المرحومة - من الشدة ما عانت ولاقت من صنوف التعذيب ما لاقت، كان ولا بد من أمل يخفف عنها هذه المعاناة، وبشرى تهون عليهم هذه البلوى، ففي تلك اللحظات العصيبة التي تخالج النفس البشرية ما تخالجها، تأتي كلمات نبوية نيرة، تغير حال الضعف إلى قوة، واليأس إلى تفاؤل، واستعذاب الألم بعد شدته، كلمات تتخطى حدود هذه الحياة الفانية، لتبشر بحياة باقية، فيها يجد المؤمن جزاء صبره، وثباته، ويقينه، إنها كلمة واحدة، بحجم هذا الكون كله، دخلت مباشرة إلى شغاف قلوب هذه الأسرة المباركة، فهان عليها ما تجد، بل وقابلته بالرضا والحمد، حين لامست أسماعهم:«صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ»
(1)
.
"إن الإنسان ليغض الطرف حياءً، ويحمر وجهه خجلاً، حينما يستعرض هذه المواقف البطولية الفذة، التي سمت بأصحابها، إلى درجات سامقة من السمو الديني، والخلقي، والنفسي"
(2)
.
فالإيمان باليوم الآخر، سهم يجاوز به المؤمن، كل ما يواجهه من صعوبات وابتلاءات، وحسبك ما قرأت عن هذه الأسرة المباركة، في ثباتها، وصبرها وعن أثره في بذل النفوس رخيصة؛ لقاء فضل الله الواسع.
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك، ذكر مناقب عمار بن ياسر رضي الله عنه ح (5666).
(2)
محمد أبو شهبة: السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة، دار القلم، (1/ 341).