الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول اليوم الآخر
المبحث الأول: الإيمان باليوم الاخر
الإيمان باليوم الآخر: أُس العقيدة بعد الإيمان بالله تعالى، لذا أرسل الله جل وعلا الرسل - عليهم الصلاة والسلام - مبشرين ومنذرين أومحذرين ومخوفين، حين تجاوز الطغيان حدّه، وتجاهل الناس حقوق بعضهم بعضا ففشا الظلم، وانتشر العدوان، وسفكت الدماء، واُكل الحرام، فجاء التذكير بهذا اليوم العظيم، على لسان الرسل - عليهم الصلاة والسلام - حتى تستقر أحوال الناس، ويأمنوا على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
ومن هنا قال نبي الله شعيب عليه السلام ماحكاه الله تعالى عنه في كتابه الكريم: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)} [العنكبوت:36].
يقول الإمام الشوكاني رحمه الله في معنى رجاء اليوم الآخر أي: " يصدقون بحصوله، وأنه كائن لا محالة "
(1)
.
"فعدم الخوف من اليوم الآخر، وما فيه من الثواب والعقاب، هو السبب الجوهري في الاعراض عن دعوة الرسل ""
(2)
.
ولما كان نسيان اليوم الآخر أو تناسيه، هو سبب الوقوع في القبائح والمنكرات أشار الله جل وعلا إليه، وحذر المتناسين من الوقوف بين يديه فقال سبحانه وتعالى:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين 1 - 6]. ومن هنا عدَّ بعض العلماء - نسيان الدار الآخرة - من كبائر الذنوب؛ لخطر نسيانه على الأفراد والمجتمعات.
(3)
ولأهمية اليوم العظيم، ذكره القرآن العزيز بالخصوص بعد العموم فقال سبحانه وتعالى:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة 1 - 4] ثم قال سبحانه: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة 5]
يقول العلامة ابن سعدي رحمه الله: " وخصه بالذكر بعد العموم؛ لأن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان، ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل "
(4)
(1)
الشوكاني: فتح القدير (4/ 312).
(2)
الزحيلي: التفسير المنير (19/ 68).
(3)
ابن حجر الهيتمي: الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 80).
(4)
ابن سعدي: تيسير الكريم الرحمن ت: عبدالرحمن اللويحق، ص (224).
وقوله جل شأنه: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} "يعم الآخرة وغيرها، ولكن ذكرها لعِظَمِها، والتنبيه على وجوب اعتقادها، والرد على الكفرة الجاحدين لها "
(1)
. فالآخرة " هي دار الجزاء، ومحل التجلي، وكشف الغطاء، ونتيجة الأمر "
(2)
.
ومن هنا نعلم حقارة الدنيا ودنوها، عند كمال الآخرة وصفائها وعلوها يقول الإمام الرازي رحمه الله:" اعلم أن عالم الدنيا عالم الكدورة، وعالم الآخرة عالم الصفاء، فالآخرة بالنسبة للدنيا كالأصل بالنسبة للفرع وكالجسم بالنسبة للظل، فكل مافي الدنيا فلا بد له في الآخرة من أصل "
(3)
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: " فإن المعاد يعود إلى العبد فيه، ما كان حاصلاً منه في الدنيا، ولهذا يسمى يوم الجزاء "
(4)
.
فاليوم الآخر عنوان حوى في طياته كثيرا من المعاني، وألمح ظاهر لفظه على وقوع التقصير من القاصي والداني، "فنستشف من قول إبراهيم:{وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)} [الشعراء:88] مدى شعوره بهول اليوم الآخر، ومدى حيائه من ربه، وخشيته من الخزي أمامه، وخوفه من تقصيره، وهو النبي الكريم. كما نستشف من قوله:{إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} مدى إدراكه لحقيقة ذلك اليوم، وإدراكه كذلك لحقيقة القيم، فليست هنالك من قيمة في يوم الحساب إلا قيمة الإخلاص "
(5)
.
فلقرب هذا اليوم العظيم، نبه الله تعالى عليه (بغد)، ولتحقق وقوعه قال سبحانه وتعالى عنه:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1].
(1)
ابن عطية: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 70)
(2)
البقاعي: نظم الدرر في تناسب الآيات و السور (1/ 87).
(3)
الرازي: مفاتيح الغيب (1/ 244).
(4)
ابن القيم: التفسير القيم (125).
(5)
سيد قطب: في ظلال القرآن (5/ 260).
وإنما قيل عن اليوم الآخر غدا؛ تقريبا له، كما جاء في الآية الكريمة حكاية عن استبعاد المشركين له فقال:{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)} [المعارج 6 - 7]"قال قتادة: "مازال ربكم يقرب الساعة حتى جعله كغد، فغد يوم القيامة "
(1)
"وقال الضحاك وابن زيد: "الأمس الدنيا، وغداً الآخرة، وقرأ ابن زيد:
…
{وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] فقال: يعني يوم القيامة الخير والشر، وقال الأمس في الدنيا، وغد في الآخرة "
(2)
وإن كانت العرب تكني عن المستقبل بالغد، إلا أن المولى جل وعلا سماه غداً - وهو اليوم الذي يلي يومك - "تقريباً له لأن كل ما هو آت قريب "
(3)
"فهذه الدنيا كلها يوم واحد، يجيء فيه ناس ويذهب آخرون، والموت والآخرة غده، لابد من كل منهما، وكل ما لابُد منه فهو في غاية القرب، لاسيما إن كان باقياً غير منقضٍ، وكل من نظر لغده، أحسن مراعاة يومه"
(4)
ولهذا قال بعض أهل التفسير: "هذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه "
(5)
.
ولفظ الغد في الآية محتمل لوجهين
(6)
:
1.
محتمل ليوم الموت الذي هو انتهاء عمر الإنسان، فإن لكل امرئ غده.
2.
ومحتمل لليوم الآخر الذي لا يوم بعده.
ومع احتمال هذا اللفظ لهذين الوجهين، إلا أن فيه وجه استعارة:" فإنما كانت الآخرة كالغد؛ لأن الناس في الدنيا نيام، ولا انتباه إلا عند الموت الذي هو مقدمة القيامة، فكلٌ من الموت والقيامة، كالصباح بالنسبة للغافل كما أن الغد صباح بالنسبة للنائم في الليل "
(7)
.
(1)
مكي القيسي: الهداية إلى بلوغ النهاية، مجموعة بحوث الكتاب والسنة، كلية الشريعة، جامعة الشارقة (11/ 7406).
(2)
الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن ت: أحمد محمد شاكر، ص (23/ 29
(3)
ابن جزي: التسهيل لعلوم التنزيل، ت: د. عبدالله الخالدي (2/ 362).
(4)
البقاعي: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (19/ 458).
(5)
- السعدي: تيسير الكريم الرحمن ت: عبدالرحمن اللويحق، ص (791)
(6)
- ابن عطية: المحرر الوجيز (5/ 291)
(7)
الخلوتي: روح البيان (9/ 447).
قال أهل التفسير: وإنما عُبر عن اليوم الآخر بالغد إما:
- "لدنوه وقربه، أو لأن الدنيا كيوم والآخرة كغد"
(1)
.
- "وقيل: جُعل مجموع زمان الدنيا كنهار عند الآخرة"
(2)
.
- "وقيل: كأن الدنيا والآخرة نهاران: يوم وغد"
(3)
.
ولا يخفى ما في تنكير (غدٍ) وتنوينه، من تعظيم لهذا اليوم من جهات لا تحصى قال في الظِلال: " وهو تعبير كذلك ذو ظلال، وإيحاءات أوسع من ألفاظه .... ومجرد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله، بل صفحة حياته، ويمد ببصره في سطورها كلها، يتأملها وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته، لينظر ماذا قدم لغده في هذه الصفحة، وهذا التأمل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف، ومواضع نقص، ومواضع تقصير، مهما يكون قد أسلف من خير، وبذل من جهد، فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً ونصيبه من البر ضئيلاً؟.
إنها لمسة لا ينام بعدها القلب أبداً ، ولا يكف عن النظر والتقليب "
(4)
.
ومن هنا قال الخلوتي رحمه الله: " يمكن أن يقال ليوم الآخرة غد "
(5)
.
إن الإيمان باليوم الآخر فرض واجب، " وهو الركن الثاني للدين الذي بعث الله به الرسل، وبه يكمل الإيمان بالله تعالى، ويكون باعثاً على العمل الصالح، وترك الفواحش والمنكرات، والبغي والعدوان "
(6)
.
فالإيمان باليوم الآخر، بلسم للمظلومين المقهورين، وسعادة للمحرومين؛ " يحي الأمل في النفوس وهي تتطلع للحياة الأخرى، فيجدّون في ترسيخ القيم والأخلاق والدين "
(7)
(1)
النسفي: مدار التنزيل (3/ 462).
(2)
النيسابوري: غرائب القرآن ورغائب الفرقان 1416 (6/ 287).
(3)
الزمخشري: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (4/ 508).
(4)
سيد قطب: في ظلال القرآن (28/ 47).
(5)
الخلوتي: روح البيان (10/ 31).
(6)
رشيد رضا: الوحي الحمدي (175) وينظر: تامر متولي: منهج الشيخ محمد رضا (508).
(7)
موسى الكعبي: المعاد يوم القيامة، مركز الرسالة، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها، ص (8).
إن "الإيمان باليوم الآخر هو الميزان العقدي، فإن استقر في القلب فالإنسان بكل جوارحه يتجه إلى الأفعال التي تسير على ضوء منهج الله لينال الإنسان الجزاء الأوفى "
(1)
.
وحين يوقن المرء بالجزاء الأوفى يوم الدين، تتطلع إليه نفسه، ويشتاق إليه فؤاده، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:" الدنيا مجاز، والآخرة وطن والأوطار (أي الرغبات والأماني) إنما تطلب في الأوطان "
(2)
.
فمن أيقن، تطلّع واشتاق، فعمل بجد مع إشفاق، قال جلّ شأنه:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)} [المؤمنون:60].
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: " والإيقان بالدار الآخرة، يستلزم الاستعداد لها من العمل بالصالحات، و ترك المحرمات "
(3)
وأوجز ما يمكن أن يُقال في أثر الإيمان باليوم الآخر أنه " المنطلق لكل خير والمانع لكل شر، والإيمان بالبعث هو منطلق الأعمال الصالحة "
(4)
. ولذا قال الإمام أبو حيان رحمه الله: " رجاء اليوم الآخر ثمرة العمل الصالح "
(5)
(1)
الشعراوي: تفسير الشعراوي - الخواطر-، مطابع أخبار اليوم، 1997 م (2/ 1143).
(2)
ابن القيم: الفوائد ص (51)
(3)
ابن كثير: تفسير القران العظيم، ت: سامي سلامة (1/ 171).
(4)
الشنقيطي أضواء البيان، (8/ 471).
(5)
أبو حيان: البحر المحيط (4/ 377).
فمتى عَلِم، وأيقن " أن الدنيا أمد، والآخرة أبد "
(1)
، أخلص وجد واجتهد، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:" إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل "
(2)
، " فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم وقبلة قلوبهم، واهتموا للمقام بها اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة إليها وتصفيتها من القواطع والعوائق "
(3)
.
فالإيمان باليوم الآخر مفتاح سعادة الإنسان، وسر يقينه، وهو الرباط الوثيق بين العمل والجزاء، وبين الصبر والفرج، وبين التحمل والإنعام "
(4)
.
ومع كون الإيمان باليوم الآخر، ركناً من أركان العقيدة الإسلامية ومكوناً أساسياً لمنظومة التوحيد، ومع كونه ضرورة دينية، إلا أن الإيمان بالمعاد واليوم الآخر يُعد أيضاً: ضرورة فطرية نفسية عقلية أخلاقية سلوكية.
ولذا " بقيت عقيدة اليوم الآخر، هي القوة الوحيدة القادرة على تهذيب النفوس، والحيلولة دون إغراقها، وهي الدرع الحصينة التي تحفظها من هجمات الأهواء، وتصوغها صياغة رفيقة لتصل إلى السعادة المبتغاة، وهي الركن الأساس الذي يرسو عليه بناء النفس الفاضلة والمجتمع الفاضل "
(5)
فالإيمان باليوم الآخر: " يُشكل إجابة على أحد الأسئلة التي تراود الذهن الإنساني وهي عبارة:
1.
من أين جئت؟ 2. لماذا جئت؟ 3. إلى أين أذهب؟ "
(6)
إن معرفة المكلف بتفاصيل وأحوال اليوم الآخر، وما فيه من أهوال يزيده يقيناً وإيماناً.
(1)
هذه مقولة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه انظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى (4/ 268)
(2)
ابن عساكر: تاريخ دمشق (42/ 495).
(3)
السعدي: تيسير الكريم الرحمن ت: عبدالرحمن اللويحق، ص (791).
(4)
نادية العمري: أضواء على الثقافة الإسلامية (98).
(5)
الكعبي: المعاد يوم القيامة، مركز الرسالة، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها، ص (24).
(6)
السبحاني: مفاهيم القرآن، مؤسسة الإمام الصادق، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها (8/ 7).
الفصل الأول: اليوم الآخر.
المبحث الأول: الإيمان باليوم الآخر، ويشتمل على المطالب التالية:
المطلب الأول: التعريف باليوم الآخر، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: معنى كلمة (اليوم).
المسألة الثانية: معنى كلمة (الآخر).
المسألة الثالثة: معنى كلمة (اليوم الآخر).
المطلب الثاني: حقيقة اليوم الآخر، والإيمان به، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: حقيقة اليوم الآخر، والإيمان به.
المسألة الثانية: أسماء اليوم الآخر.
المسألة الثالثة: سبب تسمية اليوم الآخر بهذا الاسم؟