الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - الرغبة في الآخرة، وإيثارها على الدنيا:
وهذه نتيجة طبيعية لمن عرف الإيمان في الدنيا، وذاق طعمه، وعاش حياة الآخرة في الدنيا قبل الآخرة، فحينها سيكون أشد رغبة في الآخرة، التي حتوت كل المتع والملذات، يقول الحارث المحاسبي:" ومن علامة معرفة الآخرة: هيجان الرغبة فيها، وشدة الشوق إليها، والأنس بكثرة ذكرها، ومؤانسة من صدق في العمل لها"
(1)
.
ولو تفكر العاقل في أمر الآخرة، لعلم أن الآخرة أولى بالإيثار من الدنيا، وهذا يعلمه كل إنسان علماً حقيقياً، "ولو سئل عن سبب معرفته لم، يقدر على إيراده والتعبير عنه، مع أنه لم تحصل معرفته إلا عن المعرفتين السابقتين وهو أن الأبقى أولى بالإيثار، وأن الآخرة أبقى من الدنيا، فتحصل له معرفة ثالثة، وهو أن الآخرة أولى بالإيثار"
(2)
.
وهذه حقيقة مُسَلَّمة؛ لأن المرء إذا "فكر في الآخرة، وشرفها، ودوامها، وفي الدنيا، وخستها، وفنائها، أثمر له ذلك: الرغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا"
(3)
، فالزهد في الدنيا مفتاح الرغبة في الآخرة
(4)
.
وعلى هذا كان فهم السلف، قال عمران المِنْقَري: قلت للحسن يوماً في شيء، يا أبا سعيد، ليس هكذا يقول الفقهاء، قال: ويحك، أَوَ رأيت أنت فقيهاً قط! إنما الفقيه، الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير في أمر دينه، المداوم على عبادة الله عز وجل
(5)
.
(1)
الحارث المحاسبي: آداب النفوس، دار الجيل - بيروت، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها (152).
(2)
الغزالي: إحياء علوم الدين، دار المعرفة - بيروت، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها (4/ 426).
(3)
ابن القيم: الفوائد، دار الكتب العلمية -بيروت، ط 2 - 1393 هـ، ص (94 - 198).
(4)
ابن القيم: حادي الأرواح، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 1403 هـ، ص (68).
(5)
الآجري: أخلاق العلماء، رئاسة البحوث العلمية والإفتاء في السعودية، 1398 هـ، ص (74).
وهنا لا بد من تصحيح مفهوم الزهد في الدنيا، فليس المراد منه: الانقطاع التام عن الدنيا وملاذها، فهذا مخالف لحقيقة الشريعة المطهرة، فكيف يكون الزهد بالانقطاع عن الدنيا، والله جل وعلا أمر بعمارة الأرض حيث جعلها لنا، وكيف يكون الزهد بالانقطاع عن الدنيا، والله جل وعلا أمر بالسعي في مناكبها لكسب الرزق، فالشريعة تكاملية تعطي كل ذي حق حقه، مشفوعة بقوله جل في علاه:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77].
أما المراد بالزهد عند السلف: فهو ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما: "الزهد أن لا يسكن قلبك إلى موجود في الدنيا، ولا يرغب في مفقود منها"
(1)
، وهذا سفيان الثوري يعطينا حقيقة الزاهد في الدنيا فيقول:" من زهد في الدنيا ملكها، ومن رغب فيها عبدها، فمن شاء فيعش فيها ملكاً، ومن شاء فليعش فيها عبداً "
(2)
.
وقد ذكر أبو سعيد ابن الأعرابي، مقالات الأئمة في الزهد، ونقل ما يربوا عن ست وأربعين مقالة، كلها تبين حقيقة الزهد والزاهد
(3)
. وخلاصة القول: ما ذكره الإمام ابن تيمية في حقيقة الزهد المشروع: بأنه ترك كل شيء لا ينفع في الدار الآخرة، وثقة القلب بما عند الله تعالى
(4)
.
وفسرها: بفضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة الله تعالى
(5)
، أما كل ما يستعين به العبد على طاعة الله تعالى، فليس تركه من الزهد المشروع
(6)
.
(1)
البيهقي: الزهد الكبير، مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت، ط 3 1996 م، ص (62).
(2)
الخطيب البغدادي: الزهد والرقائق، دار البشائر - بيروت، ط 1 1420 هـ، ص (134).
(3)
ابن الأعرابي: الزهد وصفة الزاهدين، دار الصحابة - طنطا، ط 1 1408 هـ، ص (2 - 37).
(4)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة النبوية (10/ 641).
(5)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة النبوية (1/ 21).
(6)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة النبوية (11/ 28).