الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأين لنا في مجتمعنا مثل عمر بن عبد العزيز، مزج الدنيا بالآخرة فحصلهما وأين لنا مثل صفوان بن سليم الزهري، حوى بين جنباته كل معاني الخير حتى لو قيل له: غداً القيامة، ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة
(1)
.
وأين لنا مثل علي بن الفضيل بن عياض، حين بكى فقال له والده: ما يبكيك؟ قال: يا أبه أخاف ألاّ تجمعنا القيامة
(2)
. إنها آثار التربية على الإيمان باليوم الآخر.
7 - حفظ الجوارح والأعضاء عن المحارم:
إن من أعظم الأسباب المعينة على حفظ الجوارح عن المحارم، هو تذكر الآخرة، واستشعار الوقوف بين الله يدي الله تعالى ، وأن هذه الأعضاء هي أحد الشهود، التي ستشهد على الإنسان، بما عمل في دنياه، من خير وشر.
فمتى استقر ذكر الآخرة في القلب، انتهت الجوارح عن المحارم، ولذا كان حفظ الجوارح عن المحارم فريضة
(3)
، وهي "رأس المال والربح بعد ذلك فمن ليس له رأس مال، كيف يطمع في الربح؟
وهذه الجوارح السبعة هي: العين، والأذن، والفم، واللسان، والفرج واليد، والرجل، هي مركب العطب والنجاة، فمنها عطب من عطب بإهمالها وعدم حفظها، ونجا من نجا، بحفظها ومراعاتها، فحفظها أساس كل خير، وإهمالها أساس كل شر"
(4)
.
وحفظ هذه الجوارح منبعه القلب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)
(5)
.
(1)
ابن الجوزي: صفة الصفوة، دار الحديث - القاهرة، 1421 هـ (1/ 384)
(2)
ابن الجوزي: صفة الصفوة، دار الحديث - القاهرة، 1421 هـ (1/ 433)
(3)
الحارث المحاسبي: رسالة المسترشدين، مكتب المطبوعات الإسلامية - بيروت: ص (112)
(4)
ابن القيم: إغاثة اللهفان، مكتبة المعارف - الرياض، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها (1/ 80)
(5)
أخرجه البخاري كتاب الإيمان: ح (52)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطلاق: ح (1599).
يقول الإمام الغزالي في قاعدة حفظ الجوارح الظاهرة:" وأعمال الجوارح إنما تترشح من صفات القلب، فإذا أردت حفظ الجوارح، فعليك بتطهير القلب، فهو تقوى الباطن، والقلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح بها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد، فاشتغل بإصلاحه؛ لتصلح به جوارحك، وصلاحه يكون بملازمة المراقبة"
(1)
.
إن حفظ الجوارح عن المحارم، سبب لحفظ الله تعالى للعبد، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: (يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ تجده تجاهك
…
)
(2)
.
إن الجزاء من جنس العمل، فمن حفظ الله في أوامره ونواهيه، حفظه الله تعالى في نفسه، وأهله، وماله، ودينه، وإيمانه.
يقول الإمام ابن دقيق العيد:" (احفظ الله يحفظك)، ومعناه: كن مطيعاً لربك، مؤتمراً بأوامره، منتهياً عن نواهيه"
(3)
. أي: كن حافظاً لحدوده وحقوقه، وأوامره ونواهيه.
يقول الإمام ابن رجب:" وحفظ ذلك: هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده، فلا يتجاوز ما أمر به، وأذن فيه إلى ما ينهى عنه، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله، الذين مدحهم الله في كتابه، وقال عز وجل: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53)} [ص:53]، وفُسِّر الحفيظ هاهنا بالحافظ لأوامر الله، وبالحافظ لذنوبه؛ ليتوب منها"
(4)
.
ومما يجب حفظه هذه الجوارح، فيحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى فيحفظ سمعه، وبصره، ولسانه، وبقية جوارحه عن المحارم، ومن حفظها في الصغر، حفظها الله له في الكبر.
(1)
الغزالي: بداية الهداية، دار المنهاج جدة، ط 1 1425 هـ، ص (58)
(2)
أخرجه الترمذي \كتاب صفة القيامة، باب 59 ح (2516)، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(3)
ابن دقيق العيد: شرح الأربعين النووية، مؤسسة الريان، ط 6 1424 هـ، ص (76)
(4)
ابن رجب: جامع العلوم والحكم، مؤسسة الرسالة - بيروت ن ط 7 1422 هـ، (1/ 462)
يقول الإمام ابن رجب:" ومن حفظ الله في صباه وقوته، حفظه الله في حال كبره، وضعف قوته، ومتعه بسمعه، وبصره، وحوله، وقوته، وعقله. كان بعض العلماء قد جاوز المائة سنة، وهو ممتع بقوته وعقله، فوثب يوماً وثبة شديدة، فعوتب في ذلك فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر
…
فحفظها الله علينا في الكبر، وعكس هذا: أن بعض السلف رأي شيخاً يسأل الناس فقال: إن هذا ضعيف ضيع الله في صغره، فضيعه الله في كبره "
(1)
.
ومن حفظ الله في صحته حفظه الله في مرضه، يقول العلامة شمس الدين المنبجي:" فمن خاف الله وحفظه في صحته، حفظه الله في مرضه، ومن راقب الله في خطر، حرسه الله في حركاته وسكناته، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ» ، وفي قصة يونس عليه السلام: لما تقدم له عمل صالح، قال:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} [الصافات:143 - 144].
ولما لم يكن لفرعون عمل خير قط، لم يجد وقت الشدة متعلقاً، فقيل له:
…
{آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)} [يونس:91]، فمن ضيع الله في صحته، فإنه يضيع في مرضه"
(2)
.
فالإيمان باليوم الآخر، "هو صمام الأمان في هذه الأرض، وهو الضابط الوثيق الذي يحرس الأخلاق، والحارس الأمين الذي يضمن تنفيذ الشريعة في هذه الدنيا، فهو الذي يمنع لحظة العين أن تمتد إلى محرم، ويمنع النفس أن تهجس بهواجس الشر، ويردع الفم أن يهمس ولو بكلمة واحدة لا يرضاها ربه؛ لأنها كلها مسجلة معروضة محصية عليه، أنفاسه وكلماته وحركاته "
(3)
.
(1)
ابن رجب: جامع العلوم والحكم، مؤسسة الرسالة - بيروت، ط 7 1422 هـ، (1/ 462)
(2)
المنبجي: تسلية أهل المصائب، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 2 - 1426 هـ، ص (28)
(3)
عبد عزام: العقيدة وأثرها في بناء الجيل، وزارة الأوقاف السعودية، (30)