الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية: تواتر الأخبار والنصوص في إثبات فتنة القبر:
قد تواترت الأحاديث الشريفة المنيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -في فتنة القبر ومسألة منكر ونكير
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" فأما أحاديث عذاب القبر ومسألة منكر ونكير فكثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم"
(1)
.
ويقول الإمام ابن القيم:" وأحاديث المسألة في القبر كثيرة
…
وهذا كما أنه مقتضى السنة الصحيحة، فهو متفق عليه بين أهل السنة"
(2)
.
ويقول الإمام السيوطي:" باب فتنة القبر وسؤال الملكين: قد تواترت الأحاديث بذلك مؤكدة من رواية أنس والبراء وتميم الداري وبشير بن الكمال وثوبان وجابر بن عبد الله وعبد الله بن رواحة وعبادة بن الصامت وحذيفة وضمرة بن حبيب وابن عباس وابن عمر وابن مسعود وعثمان بن عفان وأبي رافع وأبي سعيد الخدري وأبي قتادة وأبي هريرة وأبي موسى وأسماء
…
وعائشة رضي الله عنهم أجمعين - "
(3)
.
وقال الإمام ابن أبي عاصم:" وهي أخبار ثابتة توجب العلم، وتنفي الريب والشك "
(4)
.
فأحاديث فتنة القبر مع كثرتها وصحتها وتلقيها بالقبول واتفاق الفرق على روايتها
(5)
. إلا أن بعض الناس أنكر سؤال منكر ونكير في القبر
(6)
.
ومع وفرة هذه الأحاديث الصحيحة المشهور التي رواها الأئمة إلا أن المخالفين من المعتزلة اتبعوا القياس، وأعرضوا عن الآثار الصحيحة، مع أن المنقول عن القاضي عبد الجبار المعتزلي إثباته، كما حكى هو ذلك عن نفسه وأسلافه، وأورد الأدلة على إثبات عذاب القبر
(7)
.
واحتج المخالفون بجملة من الأدلة التي يظنونها عقلية صحيحة منها:
(1)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى:، (4/ 285 - 5/ 526)
(2)
ابن القيم: الروح، دار الحديث - القاهرة، 1424 هـ، ص (56 - 57).
(3)
السيوطي: شروح الصدور، دار المعرفة - لبنان، ط 1 1417 هـ، ص (121).
(4)
ابن أبي عاصم: السنة، المكتب الإسلامي، ط 11400 هـ (2/ 424)
(5)
ابن الوزير: إيثار الحق على الخلق، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 2 - 1987 م، ص (379).
(6)
ابن البناء: الرد على: ص (183)، محمد علي الطبري: الإيضاح في أصول الدين: ص (374) العمراني: الانتصار في الرد على المعتزلة: (3/ 708).
(7)
عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة: (730)، التفتازاني: شرح المقاصد: (2/ 220)، مغلطاي: شرح ابن ماجه: (1/ 159)
أ. قالوا: إن المساءلة والخطاب إنما تكون لمن هو حي يسمع ويجيب، فأما إذا مات فقد زالت الحياة، وانتقضت البنية، وذلك يمنع من صحة السؤال والجواب، وإن قلتم: إنه تعاد حياته إليه، وروحه إليه، فذلك بعيد أيضاً من جهة، أنه لا سبيل إلى معرفة هذا.
ب. وقالوا: ما ذكرتموه من أمور هي ثابتة بأخبار الآحاد، وأخبار الآحاد لا تفيد العلم ولا توجبه، وهذه المسألة من مسائل العلم، فلا يقبل فيها خبر الواحد.
ج. وبالغ بعضهم في دليل النفي فقالوا: إنا ندفن الميت ثم نأتي بعد أيام فنكشفه فنراه على الهيئة التي دفناه عليها، لا يتغير عما ترك عليه، ووضع بعضهم على صدر ميته شيئاً من الدفن، ثم كشفه بعد أيام فرأى الدفن في الموضع الذي تركه، قالوا: ولو كان يزول على ما هو عليه لزال الدفن عن محله إلى أرض اللحد، وإذا امتحن هذا بالاعتبار فلم يوجد له أصل، لم يثبت ذلك.
وأجاب العلماء عن هذه الشبهات بما يلي:
1 -
أما قولهم إن من شرط السؤال والجواب الحياة فصحيح، ولذا ورد في الأخبار الصحيحة، أنه تُعاد إليه روحه، فيخاطب وهو حي.
يدل عليه ما أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -قال: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ، فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّا المُؤْمِنُ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا - قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا: أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ، قَالَ: وَأَمَّا المُنَافِقُ وَالكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ «
(1)
.
قال الإمام أبو الوليد الباجي: "وهذا يدل على إحياء الميت ومخاطبته"
(2)
.
وقال العلامة العيني:" وفيه دليل على أن الميت تعود إليه روحه، لأجل السؤال، وأنه يسمع صوت نعال الأحياء، وهو في السؤال "
(3)
.
وقد ذكر الإمام عبد الحق الإشبيلي جملة من الأحاديث الواردة في فتنة القبر وعذابه، وترجم له بقوله:" باب في عذاب القبر والمساءلة بعد الموت"
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز ح (1374)، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه ح (2870).
(2)
الباجي: المنتقى شرح الموطأ، مطبعة السعادة - مصر، ط 1 1332 (2/ 31).
(3)
العيني: شرح أبي داود، مكتبة الرشد - الرياض، ط 1 1420 هـ (6/ 188).
(4)
الأشبيلي: الأحكام الكبرى، مكتبة الرشد - الرياض، ط 1 1422 هـ، (2/ 562).
2 -
وأما قولهم: إنها أخبار آحاد، فليس بصحيح من جهة أنها أخبار قد ظهرت واشتهرت في الصحاح، وتلقتها الأمة بالقبول، وعمل بها الناس ومثل هذا إذا وجد في الأحاديث وجب العلم.
3 -
وأما قولهم: إن الميت امتحن ووضع على صدره شيئاً من الدفن، ثم كشف بعد أيام، ولا يزال الدفن في الموضع الذي ترك فيه، فيقال:
أولاً: هذا ليس بصحيح من جهة أن القادر على إقامته، وإعادة الروح إليه في قبره، قادر على أن يعيده ويعيد ما على صدره على ما كان عليه.
ثانياً: أنا لا نقبل القياس المعقول إذا عارض الأخبار الصحيحة المشهورة
(1)
.
فالذي عليه أئمة السلف إثبات فتنة القبر وسؤال الملكين، على ما ثبت في النصوص، قال الإمام ابن تيمية:"وقد ثبت أن القبور يُسال ويمتحن، وأنه يؤمر بالدعاء له "
(2)
، وقال:"وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم -في هذه الفتنة من حديث البراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وغيرهم رضي الله عنهم "
(3)
.
ولذا صار إنكار فتنة القبر وسؤال الملكين من شعار أهل البدع، قال الإمام ابن عبد البر:" وأما قوله: أوحي إليّ أنكم تفتنون في قبوركم، فإنه أراد فتنة الملكين، منكر ونكير، حين يسألان العبد: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟
والآثار في هذا متواترة، وأهل السنة والجماعة كلهم على الإيمان بذلك، ولا ينكره إلا أهل البدع "
(4)
.
وقال الشيخ عبد الواحد الشيرازي في جزئه في "امتحان السني من البدعي: "يُسأل عن منكر ونكير، وضغطة القبر، فإن آمن به فهو سني ، وإن أنكره فهو معتزلي، حشيشي، كافر بالله "
(5)
.
(1)
انظر: محمد علي الطبري: الإيضاح في أصول: ص (376)، الإيجي: المواقف: (3/ 521)،ابن البناء: الرد على المبتدعة: (188)
(2)
ابن تيمية: الفتاوى الكبرى، دار الكتب العلمية -بيروت، ط 1 1408 هـ (3/ 24).
(3)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة النبوية.
(4)
ابن عبد البر: التمهيد، وزارة عموم الأوقاف - المغرب، 1387 هـ، (22/ 247).
(5)
الشيرازي: جزء في امتحان السني من البدعي:، ص (275)
وما ذكره الشيخ عبد الواحد من كفر من أنكر منكر ونكير، أو عذاب القبر ونعيمه أمر مختلف فيه بين العلماء، ويشار في هذا المقام إلى جملة من الضوابط الشرعية في هذا الباب:
أ. أن التكذيب أو الرد لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم -كفر صريح ظاهر، لأنه طعن في مقام الرسالة، ولذا قرر الأئمة أن من رد حديثاً صحيحاً أو كذبه كفر.
قال الإمام إسحاق بن راهوية: "من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -خبر يقر بصحته، ثم رده بغير تقية فهو كافر"
(1)
.
ويقول العلامة ابن الوزير: "إن التكذيب لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلم أنه حديثه كفر صريح "
(2)
.
ب. أن جحد أمر معلوم من دين الإسلام بالضرورة، بحيث يعرفه الخاصة والعامة، يعتبر كفراً مخرجاً عن ملة الإسلام، بشرط أن يكون هذا الأمر المجمع عليه مشتهراً في الدين.
يقول العلامة القرافي: "ولا يعتقد أن جاحد ما أجمع عليه يكفر على الإطلاق، بل لابد أن يكون المجمع عليه مشتهراً في الدين حتى صار ضرورياً، فكم من المسائل المجمع عليها إجماعاً لا يعلمه إلا خواص الفقهاء فجحد مثل هذه المسائل التي يخفى الإجماع فيها ليس كفراً "
(3)
.
ج. أن التأويل المذموم هو التأويل المصادم لما ثبت بقاطع، فمن تأول تأويلاً يخالف قاطعاً من الكتاب والسنة واتفاق الأمة لا شبهة فيه، فإنه زنديق، "فكل من أنكر الشفاعة أو أنكر رؤية الله يوم القيامة، أو أنكر عذاب القبر وسؤال منكر ونكير، أو أنكر الصراط والحساب، سواء قال: لا أثق بهؤلاء الرواة، أو قال: أثق بهم لكن الحديث مؤول، ثم ذكر تأويلاً فاسداً، لم يسمع ممن قبله، فهو الزنديق"
(4)
.
وحكم التأويل على ثلاثة أقسام:
الأول: أن يكون صادراً عن اجتهاد وحسن نية، بحيث إذا تبين له الحق رجع عن تأويله، فهذا معفو عنه، لأن هذا منتهى وسعه.
(1)
ابن حزم: الإحكام في أصول الأحكام: (1/ 99).
(2)
ابن الوزير: العواصم والقواصم: (2/ 374)، انظر: البكري: إعانة الطالبين: (4/ 151).
(3)
القرافي: الفروق، عالم الكتب - بيروت، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها، (4/ 117).
(4)
القنوجي: الروضة الندية، دار المعرفة، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها (2/ 296).
الثاني: أن يكون صادراً عن هوى وتعصب، وله وجه في اللغة العربية، فهو فسق وليس بكفر، إلا أن يتضمن نقصاً أو عيباً في حق الله، فيكون كفراً.
الثالث: أن يكون صادراً عن هوى وتعصب، وليس له وجه في اللغة العربية فهذا كفر؛ لأن حقيقته التكذيب، حيث لا وجه له
(1)
.
وبناءً على ما تقدم يقال: إذا كان الإنكار لسؤال الملكين وعذاب القبر لمجرد الإنكار والتكذيب والرد للنصوص دون شبهة، فهذا يُعدّ كفراً مخرجاً من الملة؛ لأنه انطوى تحته تكذيب لحكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم وخروج عما اتفقت عليه الأمة، وعليه يحمل كلام الأئمة في التكفير في هذا الباب:
يقول الإمام ابن أبي يعلى بعد أن ذكر الإيمان بعذاب القبر، ومنكر ونكير من معتقد السلف:" فتلزم القلب أنك ميت، ومضغوط في القبر، ومساءل في قبرك، ومبعوث من بعد الموت فريضة لازمة، من أنكر ذلك فهو كافر "(4)
يقول الإمام ابن الملقن: " فمن أنكر عذاب القبر أو نعيمه فهو كافر؛ لأنه كذب الله تعالى ورسوله في خبرهما "
(2)
.
ويقول العلامة الخادمي: " والذي تقتضيه القاعدة، هو كفر إنكار عذاب القبر، على أنه لا يبعد أن يكون من قبيل الضرورات الدينية، يعرفه العامي والخاص
…
وقد قيل: ظني الدلالة مع قطعي الدلالة للآحاد يفيد الفرضية وقد قيل: إن جميع أخبار الآحاد الموافقة للكتاب، حجة قطعية، فينتظم بها الاستدلال على الفرضية مطردا "
(3)
.
(1)
ابن عثيمين: تعليق مختصر على كتاب لمعة الاعتقاد، مكتبة أضواء السلف، ط 3 1415 هـ، ص (34).
(4)
ابن أبي يعلى: الاعتقاد، دار أطلس الخضراء، ط 1 1423 هـ، ص (32).
(2)
ابن الملقن: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، دار العاصمة - الرياض، ط 1 1421 هـ (1/ 516).
(3)
محمد الخادمي: بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية، مطبعة الحلبي، 1348 هـ، (1/ 174 - 229).
وقال العلامة الكشميري: " عذاب القبر ثبت متواترا، تواتر القدر المشترك ومنكر التواتر هذا لا ريب في تبديعه، ومنكر التواتر بالقدر المشترك كافر، إن كان التواتر بديهيا، وفاسق مبتدع إن كان نظريا "
(1)
قال الشيخ عليش:" واعلموا أيها الإخوان: أن عذاب القبر ونعيمه حق
…
كما صحت به الأحاديث الصحيحة، ولكن الله تعالى يأخذ بأبصار الخلائق وأسماعهم من الإنس والجن عن رؤية عذابه ونعيمه لحكمة إلهية، ومن شك في ذلك فهو ملحد "
(2)
.
وفي سؤال ورد للجنة الإفتاء في السعودية مفاده: "ما حكم من ينكر عذاب القبر بحجة أنها - أي الأحاديث الواردة في عذاب القبر - أحاديث آحاد وحديث الآحاد لا يؤخذ به مطلقاً، وهم لا ينظرون إلى حديث صحيح أو
…
حسن أو ضعيف، ولكن ينظرون إليه من جهة كونه آحاداً أو مرويا بطرق مختلفة، فإذا وجد حديث آحاد لم يأخذوا به، فما هو الرد عليهم؟
جـ: إذا ثبت حديث الآحاد عن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حجة فيما دل عليه اعتقاداً وعملاً لإجماع أهل السنة، ومن أنكر الاحتجاج بأحاديث الآحاد بعد إقامة الحجة عليه فهو كافر، وارجع في الموضوع إلى كتاب الصواعق لابن القيم أو مختصره للموصلي"
(3)
.
مناط الكفر في هذه الفتوى كما يُلاحظ، هو رد السنة الصحيحة المستلزم التكذيب لها، ومما يؤيد هذا: الفتوى الأخرى الصادرة عن نفس اللجنة، في كيفية التعامل مع من ينكر بعض الأحاديث الصحيحة الواردة في الصحيحين لحديث عذاب القبر ونعيمه والمعراج والسحر والشفاعة والخروج من النار وهل يصلى وراءهم؟ أو يتبادل معهم السلام أو يعتزلوا؟ فأجابوا:
(1)
الكشميري: العرف الشذي، دار التراث العربي - بيروت، ط 1 1425 هـ، (2/ 349).
(2)
عليش: فتح العلي المالك: (1/ 13)، ابن نجيم: البحر الرائق: (5/ 132).
(3)
الدويش: فتاوى اللجنة الدائمة: (5/ 13)، ابن باز: فتاوى نور على الدرب: (4/ 314).
"يبحث معهم أهل العلم بالحديث رواية ودراية، ليعرفوهم بصحتها وبمعانيها، فإن أصروا بعد ذلك على إنكارها، أو تحريف نصوصها عن معناها الصحيح تبعاً لهواهم، وتنزيلاً لها على رأيهم الباطل فهم فسقة
…
ويجب اعتزالهم وعدم مخالطتهم اتقاءً لشرهم، إلا إذا كان الاتصال بهم من أجل النصح لهم وإرشادهم، أما الصلاة وراءهم فحكمها حكم الصلاة وراء الفاسق، والأحوط: عدم الصلاة خلفهم، لأن بعض أهل العلم كفرهم"
(1)
.
ولذا فمن كانت له شبهة تأويل أو اجتهاد، فرد بعض النصوص أو تأولها فإنه لا يكفر على الصحيح، ونص العلماء على تبديعه وتفسيقه:
يقول الإمام ابن تيمية في معرض حديثه عن المقالات: " إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم فاغتفرت؛ لعدم بلوغ الحجة له، فلا يغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتفر للأول، فلهذا يبدع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها، إذا أنكر ذلك، ولا تبدع عائشة ونحوها، ممن لم يعرف أن الموتى يسمعون في قبورهم، فهذا أصل عظيم، فتدبره فإنه نافع "
(2)
.
ويقول الإمام الغزالي: " فاعلم أن كل من أنكر عذاب القبر، فهو مبتدع محجوب عن نور الله تعالى، وعن نور القرآن، ونور الإيمان "
(3)
.
ويقول يقول الإمام ابن بطال: " ولا ينكره إلا مبتدع "
(4)
.
ويقول العلامة العيني: " ولا ينكره إلا مبتدع. ومن لا علم له بذلك لا يأثم "
(5)
.
(1)
الدويش: فتوى اللجنة الدائمة، دار بلنسية - الرياض، ط 3 1421 هـ (2/ 55)
(2)
1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة النبوية (6/ 61)
(3)
((الغزالي: إحياء علوم الدين، دار المعرفة - بيروت، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها، (4/ 174).
(4)
ابن بطال: شرح صحيح البخاري، مكتبة الرشد - الرياض، ط 2 - 1423 هـ (3/ 38).
(5)
العيني: عمدة القاري، دار إحياء التراث العربي - بيروت، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها (7/ 79).
يقول العلامة ابن عابدين:" واعلم أن الحكم بكفر من ذكرنا من أهل الأهواء ونحوهم مع ما ثبت عن أبي حنيفة والشافعي، من عدم تكفير أهل القبلة من المبتدعة كلهم، محملة: أن ذلك المعتقد نفسه كفر، فالقائل به قائل بما هو كفر، وإن لم يكفر بناء على كون قوله ذلك عن استفراغ وسعة، مجتهداً في طلب الحق
…
وعلى هذا يجب أن يحمل المنقول على ما عدا غلاة الرافضة ومن ضاهاهم، فإن أمثالهم لم يحصل منهم بل وسع في الاجتهاد
…
فلا يتأتى من مثل الإمامين العظيمين أن لا يحكما، فأنهم من أكفر الكفرة، وإنما كلامها في مثل من له شبهة فيما ذهب إليه، وإن كان ما ذهب إليه عند التحقيق في حد ذاته كفراً، كمنكر الرؤية، وعذاب القبر، ونحو ذلك، فإن فيه إنكار حكم النصوص المشهورة والإجماع، إلا أن لهم شبهة قياس الغائب على الشاهد، ونحو ذلك مما علم في الكلام "
(1)
.
وقال الشيخ عبد الرحمن أفندي الحنفي:" لكن المعتزلة أنكروا عذاب القبر فلا يصح إكفارهم في صحيح الأقوال "
(2)
.
وقال البكري:" ومثل ما ذكر من سبق اللسان وما بعده، الاجتهاد فيما لم يقم الدليل القاطع على خلافه، كاعتقاد المعتزلة عدم رؤية الباري في الآخرة أو عدم عذاب القبر أو نعيمه، فلا يكفرون بذلك، لأنه اقترن به اجتهاد"
(3)
.
وقال شهاب الدين النفراوي:" من أنكر فتنة القبر وسؤال الملكين مبتدع يؤدب، فإن أصر على إنكاره لا يجوز قتله، ويضرب أدباً، كما فعله عمر رضي الله عنه، ببعض الناس "
(4)
.
(1)
ابن عابدين: منحة الخالق، مطبوع مع كتاب البحر الرائق لابن نجيم:(5/ 151).
(2)
عبد الرحمن أفندي: مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/ 694)
(3)
البكري: إعانة الطالبين، دار الفكر - بيروت، ط 1 1418 هـ (4/ 151).
(4)
النفراوي: الفواكه الدواني، دار الفكر - بيروت، 1415 هـ، (1/ 99).