الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والقدر الواجب من الخوف: ما حمل على أداء الفرائض، واجتناب المحارم فإن زاد على ذلك، بحيث صار باعثاً للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضول المباحات كان ذلك خوفاً محموداً، فإن تزايد على ذلك، بأن أورث مرضاً، أو موتاً، أو هماً لازماً، بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عز وجل، لم يكن محموداً
(1)
.
ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" الخوف المحمود: ما حجزك عن محارم الله "
(2)
.
5 - رجاء ما عند الله عز وجل:
هذا أثر عظيم من آثار الإيمان باليوم الآخر؛ لأن المرء إذا علم ما أعد الله جل وعلا، من المكرمات والفضائل لأوليائه وعباده المؤمنين، زاده ذلك شوقاً ورغبة لما عند الله تعالى من ذلك الخير، فيعيش مع خوفه، راجياً ما عند الله من الفضل والمثوبة، قال تعالى:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)} [الحجر:49]، يقول الإمام ابن كثير:" وهي دالة على مقامي الخوف والرجاء"
(3)
.
وقال تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:3]، يقول الإمام ابن كثير:" وقد اجتمع في هذه الآية الرجاء والخوف .. يقرن هذين الوصفين كثيراً، في مواضع متعددة من القرآن؛ ليبقى العبد بين الرجاء والخوف"
(4)
.
(1)
ابن رجب: التخويف من النار، دار البيان - دمشق، ط 2 - 1409 هـ، ص (28).
(2)
ابن تيمية: المستدرك على مجموع الفتاوى، دار القاسم - الرياض، ط 1 1418 هـ (1/ 147).
(3)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، ت: سامي سلامة (4/ 539)
(4)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، ت: سامي سلامة (7/ 127)
والرجاء والخوف مستلزمان، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" وكل من الرجاء والخوف مستلزم للآخر "
(1)
. وبيّنه بقوله:" والخشية أبداً متضمنة للرجاء، ولولا ذلك لكانت قنوطاً، كما أن الرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً، فأهل الخوف من الله والرجاء له، هم أهل العلم الذين مدحهم الله "
(2)
.
ولذا ينبغي للعبد، أن يكون بين الرجاء والخوف، بمطالعة صفات الجمال تارة، وبملاحظة نعوت الجلال أخرى
(3)
، قال أبو علي الروذباري:" الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت "
(4)
.
واختلفت أنظار العلماء بعد ذلك في مسألتين:
1 -
في التفضيل بين جانبي الرجاء والخوف.
2 -
في تقديم أي المقامين منهما.
أما فيما يتعلق في التفضيل بين هذين المقامين:
أولاً: الاتفاق حاصل على علوهما وشرفهما، وعليه يفهم أن كلام صاحب المنازل حين قال:"الرجاء أضعف منازل المريد"، أن فيه نظر
(5)
.
ثانياً: اختلفت وجهات العلماء في ترجيح أي الجانبين أقوى وأفضل؟
فقال بعضهم: جانب الرجاء أقوى، وذهب إليه جماعة من العلماء، منهم الإمام النووي، والرازي، وجماعة. قال الإمام النووي:" قد تتبعت الأحاديث الصحيحة في الخوف والرجاء، فوجدت أحاديث الرجاء أضعاف أحاديث الخوف، مع ظهور الرجاء فيها "
(6)
.
(1)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة النبوية (4/ 33)
(2)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة النبوية (7/ 21)
(3)
القاري: مرقاة المفاتيح، دار الفكر - بيروت، ط 1 1422 هـ (4/ 1640)
(4)
ابن أبي العز: شرح الطحاوية، وزارة الأوقاف السعودية، ط 1 1418 هـ، ص (312)
(5)
ابن أبي العز: شرح الطحاوية، وزارة الأوقاف السعودية، ط 1 1418 هـ، ص (312)
(6)
النووي: المجموع شرح المهذب، دار إحياء التراث - بيروت، ط 1 (5/ 109)
وقال العلامة القاري معلقاً على كلام النووي:" قلت: لو لم يكن إلا حديث واحد، وهو (سبقت أو غلبت رحمتي على غضبي) لكفى دليلاً على ترجيح الرجاء، ويعضده آية {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، بل هو أمر مشاهد في عالم الوجود، من غلبة آثار الرجاء على آثار الخوف "
(1)
.
وقال الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف:205]: "إلا أن هنا دقيقة: وهي أن سماع لفظ الرب يوجب الرجاء، وسماع لفظ التضرع والخيفة يوجب الخوف، فلما وضع الابتداء بما يوجب الرجاء، علمنا أن جانب الرجاء أقوى"
(2)
.
وقال العلامة الكرماني في شرحه لحديث البخاري: (أنا عند ظن عبدي بي)
(3)
: "وفي السياق إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على الخوف "، قال الحافظ ابن حجر تعليقاً:" وكأنه أخذه من جهة التسوية، فإن العاقل إذا سمع ذلك لا يعدل إلى ظن إيقاع الوعيد، وهو جانب الخوف؛ لأنه لا يختاره لنفسه، بل يعدل إلى ظن وقوع الوعد، وهو جانب الرجاء، وهو كما قال أهل التحقيق: مقيد بالمحتضر"
(4)
.
وذهب الفضيل بن عياض وجماعة، إلى أن الخوف أفضل، قال الفضيل:" الخوف أفضل من الرجاء، ما كان الرجل صحيحاً، فإذا نزل الموت فالرجاء أفضل"
(5)
.
ومن كلام الفضيل ننتقل للمسألة الثانية: وهي أي المقامين أحق بالتقديم؟ والعلماء مختلفون في هذه المسألة على أقوال:
فقيل: بأن مقام الخوف أفضل في حال الصحة والحياة، فإذا حضر الموت فالرجاء أفضل
(6)
.
(1)
القاري: مرقاة المفاتيح، دار الفكر - بيروت، ط 1 1422 هـ (4/ 1460)
(2)
الرازي: مفاتيح الغيب، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط 3 1420 هـ (15/ 443)
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى (ويحذركم الله نفسه) ح (7405).
(4)
ابن حجر: فتح الباري، دار المعرفة - بيروت، 1379 هـ (13/ 385)
(5)
ابن رجب: تفسير ابن رجب: (2/ 328)، ابن عطية: المحرر الوجيز: ط 1 1422 هـ (2/ 411)
(6)
أبو طالب المكي: قوت القلوب، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 2 - 1426 هـ (1/ 366).
وقيل: بأن مقام الخوف والرجاء في حال الصحة مستويان، فيكون خوفه ورجاؤه سواء، وفي حال المرض يمحض الرجاء، واختاره الإمام النووي
(1)
. وقال في سبب تغليب جانب الرجاء، متى دنت أمارات الموت:"لأن مقصود الخوف؛ الإنكفاف عن المعاصي والقبائح، والحرص على الإكثار من الطاعات والأعمال، وقد تعذر ذلك أو معظمه في هذا الحال، فاستحب إحسان الظن المتضمن للافتقار إلى الله تعالى، والإذعان له"
(2)
.
واستدل الإمام العراقي بحديث الرجل الذي قال لأهله: (إذا أنا مت فأحرقوني .. ثم قال: لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك يارب وأنت أعلم قال فغفر له) ، على أنه لا ضرر في غلبة الخوف ، وإن كانت بقرب الوفاة، ثم قال:"إن كان العلماء رجحوا في تلك الحالة، تغليب جانب الرجاء، على جانب الخوف"
(3)
.
وقال إمام ابن الوزير: " والجمع بين الخوف والرجاء سنة الله، وسنة رسله عليهم السلام، وسنة دين الإسلام، والأولى للإنسان تغليب الخوف في حق نفسه، إلا عند اقتراب الأجل الاقتراب الخاص، أعني عند ظهور أمارات الموت في المرض الشديد، وإلا فالموت قريب غير بعيد، وذلك لما صح أن الله تعالى يقول: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاء»، ولهذا الحديث لم يكن تقديم عمومات الوعيد، أولى من تقديم خصوص آيات الرجاء وأحاديثه "
(4)
.
(1)
النووي: رياض الصالحين، المكتب الإسلامي - بيروت: ص (146).
(2)
النووي: شرح مسلم، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط 2 - 1392 هـ (17/ 210).
(3)
العراقي: طرح التثريب، مكتبة الباز - مكة، ط 1 1424 هـ (3/ 270).
(4)
ابن الوزير: إيثار الحق على الخلق، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 2 - 1987 م، ص (355).
وذهب البعض: إلى أنه لا يُهمل جانب الخوف، حين ظهور أمارات الموت بحيث يجزم بأنه آمن، ويؤيده ما أخرج الإمام الترمذي عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي المَوْتِ، فَقَالَ:«كَيْفَ تَجِدُكَ؟» قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَرْجُو اللَّهَ، وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا المَوْطِنِ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ»
(1)
(2)
.
وقيل: إذا كان في طاعة، فليغلب الرجاء، وأن الله يقبل منه، وإذا كان في المعصية، فليغلب الخوف؛ لئلا يقدم على المعصية
(3)
. وقيل: أكمل الأحوال: اعتدال الرجاء والخوف، وغلبة الحب، فالمحبة هي المركب، والرجاء حاد والخوف سائق، والله الموصّل بمنه وكرمه
(4)
.
وبعد هذا النقل عن العلماء، يتبين لنا فضل هذين المقامين، وعلو منزلتهما وأن المرء لا غنى له عنهما، فالرجاء مقصوده: إحسان الظن بالله عند حصول التقصير والخطأ، مع رجاء محو الذنب والخطأ، مع التنبه إلى أنه ليس المقصود بالرجاء: هو الأمان والتفريط، وتضييع الأعمال، واطراح التقوى فهذا من عمل الجهال البطالين
(5)
.
(1)
أخرجه الترمذي في جامعه، أبواب الجنائز، باب ما جاء أن المؤمن يموت بعرف الجبين ح (983)، وقال الإمام الترمذي: وهذا حديث غريب، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، مكتبة البابي - مصر، ط 2 - 1395 هـ (3/ 302)
(2)
ابن حجر: فتح الباري، دار المعرفة - بيروت، 1379 هـ (11/ 301)
(3)
العثيمين: شرح رياض الصالحين، دار الوطن - الرياض، 1426 هـ، (3/ 337)
(4)
ابن القيم: مدارج السالكين، دار الكتاب العربي - بيروت، ط 3 1416 هـ (1/ 513)
(5)
ابن حجر: فتح الباري،:(11/ 513)، ابن الوزير: إيثار الحق على الخلق: ص (354)