الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واجتهد العلماء بعد ذلك، في بيان أوجه الجمع بين النصوص الواردة في مسافة الحوض على طرائق منها:
1 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم: تكلم بحديث الحوض مرات عديدة، وأن ذلك إنما كان بحسب من حضره، ممن يعرف تلك الجهات، فيخاطب كل قوم بالجهة التي يعرفونها
(1)
.
2 -
وقيل: إن الحوض له طول وعرض، وزوايا وأركان، فيكون اختلاف هذه المسافات التي في الحديث على حساب ذلك
(2)
.
3 -
وقيل: سبب الاختلاف ملاحظة سرعة السير وعدمها، فقد عهد في الناس من يقطع مسافة عشرة أيام في ثلاث أيام، وعكسه وأكثر من ذلك وأقل
(3)
.
4 -
وقيل: إن القليل من هذه المسافات، داخل تحت الكثير، والكثير باق على ظاهره، يقول الإمام النووي:" وليس في القليل من هذه منع الكثير، والكثير ثابت على ظاهر الحديث، ولا معارضة "
(4)
.
وأقرب الأوجه الأول، يقول الإمام العلائي:"وأما اختلاف الأحاديث في تقدير مسافة الحوض، أوردنا الله إياه بفضله وكرمه، فالكلام عليها مشهور، وأحسن وجه قيل فيه: إن التقدير كان في كل وقت بحسب ما يفهم الحاضرون من المسافة، مع تقارب ذلك وأنه نحو شهر"
(5)
.
المسألة الخامسة: سؤالات العلماء عن الحوض:
هناك جملة من السؤالات الواردة عن الحوض المورود، يحسن ذكرها وبيانها إتماماً لهذا المطلب وهي كالآتي:
(أ) متى يرد الناس الحوض؟
اختلف العلماء في وقت ورود الخليفة إلى الحوض المورود:
فقيل: قبل الصراط، وذهب إليه الأكثر من أهل العلم، يقول الإمام ابن تيمية:" ورود حوض النبي صلى الله عليه وسلم قبل الصراط"
(6)
.
(1)
القرطبي: المفهم، دار ابن كثير - دمشق، ط 5 1431 هـ (6/ 92).
(2)
القصري: شعب الإيمان ت: سيد كسروي، ص (619).
(3)
السفاريني: لوامع الأنوار، مكتبة الخافقين - دمشق، ط 2 - 1402 هـ (2/ 202).
(4)
النووي: شرح مسلم، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط 2 - 1392 هـ (15/ 58).
(5)
العلائي: التنبيهات المجملة على المواضع المشكلة، مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، العدد (79 - 80)، 1408 هـ، ص (53).
(6)
ابن تيمية: المستدرك على مجموع الفتاوى، دار القاسم، ط 1 1418 هـ، (1/ 104).
ويقول الإمام القرطبي:" والصحيح: أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين، وكلاهما يسمى كوثراً، وأن الحوض الذي يذاد عنه من بدل وغيّر، يكون في الموقف قبل الصراط"
(1)
.
وكذا مال لهذه القول الإمام ابن كثير، علله:" بأنه يذاد عنه أقوام يقال عنهم: إنهم لم يزالوا يرتدون على أعقابهم منذ فارقتهم، فإن كان هؤلاء كفاراً فالكافر لا يجاوز الصراط، بل يكب على وجهه في النار قبل أن يجاوزه، وإن كانوا عصاة فهم من المسلمين، فيبعد حجبهم عن الحوض، لاسيما وعليهم سيما الوضوء، ثم من جاوز لا يكون إلا ناجياً مسلماً، فمثل هذا لا يحجب عن الحوض، فالأشبه و- والله أعلم - أن الحوض قبل الصراط"
(2)
.
وقيل: الحوض بعد الصراط، نقله الإمام القرطبي عن صاحب القوت
(3)
…
وهو صنيع الإمام البخاري، كما أشار إليه الحافظ ابن حجر
(4)
، وهو ما صرح به الإمام الغزالي في عقيدته فقال:"يشرب منه المؤمنون قبل دخول الجنة وبعد جواز الصراط"
(5)
. قال العلامة السفاريني:" ورجح القاضي عياض: أن الحوض بعد الصراط، وأن الشرب منه يقع بعد الحساب والنجاة من النار"
(6)
.
والأقرب من القولين - والعلم عند الله تعالى - الأول؛ لأن المقام يقتضيه حيث إن الناس في حاجة إلى الشرب في العرصات قبل الصراط
(7)
.
ويمكن أن يجمع بينهما: "بأن يقع الشرب من الحوض قبل الصراط لقوم وتأخيره بعده لآخرين، بحسب ما عليهم من الذنوب والأوزار، حتى يهذبوا منها على الصراط"
(8)
.
(1)
القرطبي: التذكرة، دار المنهاج - الرياض، ط 1 1415 هـ، ص (703).
(2)
ابن كثير: النهاية، دار الجيل - بيروت، 1408 هـ (1/ 413).
(3)
القرطبي: التذكرة، مكتبة دار المنهاج - الرياض، ط 1 1425 هـ، ص (702).
(4)
ابن حجر: فتح الباري، دار المعرفة - بيروت، 1379 هـ (11/ 466).
(5)
الغزالي: بداية الهداية، دار المنهاج - جدة، ط 1 1425 هـ، ص (285).
(6)
السفاريني: لوامع الأنوار، مكتبة الخافقين - دمشق، ط 2 - 1402 هـ (2/ 195).
(7)
العثيمين: مجموع فتاوى العثيمين، دار الوطن، 1413 هـ (8/ 586).
(8)
السفاريني: لوامع الأنوار، مكتبة الخافقين - دمشق، ط 2 - 1402 هـ (2/ 195).
وقال الإمام ابن القيم في الجمع بين القولين، بعد أن حكى كلام الإمام القرطبي والغزالي وأنهما غلطا من يقول إنه قبل الصراط:" وأصحاب هذا القول إن أرادوا أن الحوض لا يرى ولا يوصل إليه، إلا بعد قطع الصراط فحديث أبي هريرة هذا وغيره يرد قولهم، وإن أرادوا أن المؤمنين إذا جاوزوا الصراط وقطعوه بدا لهم الحوض فشربوا منه، فهذا يدل عليه حديث لقيط هذا، وهو لا يناقض كونه قبل الصراط، فإن قوله: «طوله شهر، وعرضه شهر»، فإذا كان بهذا الطول والسعة، فما الذي يحيل امتداده إلى وراء الجسر فيرده المؤمنون قبل الصراط وبعده، فهذا في حيز الإمكان، ووقوعه موقوف على خبر الصادق"
(1)
.
(ب): إن قيل: ما السر في وجود الحوض؟
فالجواب: شدة العطش، والعرق الكثير يومئذ؛ لأن الشمس تدنى من رؤوس الخلائق، فيشتد العطش والعرق، فجعل له الحوض على عادة العرب، في جعل الأحواض للواردين عليها كالضيافة
(2)
.
(ج) هل لكل نبي حوضاً؟
وردت جملة من الآثار، اختلف العلماء في أسانيدها، فاعتمد عليها جماهير أهل العلم في الحكم بأن لكل نبي حوضاً، في حين نفى البعض أن يكون لكل نبي حوضاً، وحكم على هذه الآثار بالضعف، وجعل الحوض من الخصائص النبوية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في حين ذهب الأولون إلى أن الخصيصة في الحوض هو: ورود الأحاديث في صريحة وواضحة، فهذا وجه التخصيص، أو أن الأمر الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم، هو الكوثر، أما الحوض فإن لكل نبي حوضاً، إلا أن حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، هو أكبر الأحواض وأكثرها وارداً.
فاختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال ثلاثة:
1 -
أن لكل نبي حوضاً.
2 -
أن الحوض خاص بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
3 -
أن لكل نبي حوضاً إلا نبي الله صالح عليه السلام، فإن حوضه ضرع ناقته، وهذا القول نقله الإمام القرطبي، عن البكري المعروف بابن الواسطي، وذكره الإمام البربهاري في شرح السنة
(3)
.
(1)
ابن القيم: زاد المعاد، مؤسسة الرسالة - بيروت ن ط 27 - 1415 هـ (3/ 596).
(2)
ابن الجوزي: كشف المشكل، دار الوطن - الرياض، دون ذكر رقم الطبعة وتأريخها (1/ 305).
(3)
القرطبي: التذكرة، دار المنهاج ص (317)، البربهاري: شرح السنة، ص (44)
وأما الآثار الواردة في المسألة:
فعن سمرة بن جندب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا وَإِنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً»
(1)
.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ لِي حَوْضًا مَا بَيْنَ الْكَعْبَةِ، وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَبْيَضَ، مِثْلَ اللَّبَنِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ، وَإِنِّي لَأَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(2)
.
وقد ذكر الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث الواردة في المسألة ثم عقب على حديث سمرة بقوله: "وهذا مرسل عن الحسن، وهو حسن، صححه يحيى بن سعيد القطان وغيره، وقد أفتى شيخنا المزي بصحته من هذه الطرق"
(3)
.
والأقرب من الأقوال - والعلم عند الله - القول الأول: وهو أن لكل نبي حوضاً، للحديث السابق حديث سمرة بن جندب، وقد صححه العلامة الألباني
(4)
؛ "ولأن هذا من كمال عدل الله عز وجل، فإنه من نهل من شرعه في الدنيا، كان جزاؤه أن ينهل من أحواض الأنبياء يوم القيامة، لكن ليس معلوماً لدينا من أين تستمد هذه الأحواض التي لغير الرسول صلى الله عليه وسلم، أما حوض الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يكون من الكوثر "
(5)
.
(1)
أخرجه الترمذي في جامعه، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، باب ما جاء في صفة الحوض ح (2443)، وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد روى الأشعث بن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً ولم يذكر فيه عن سمرة وهو أصح (4/ 628)
(2)
أخرجه ابن ماجه في سننه كتاب الزهد، باب ذكر الحوض ح (4301).
(3)
ابن كثير: النهاية، دار الجيل - بيروت، 1408 هـ (1/ 412)
(4)
الألباني: صحيح الجامع الصغير وزيادته، المكتب الإسلامي - بيروت (1/ 431)
(5)
العثيمين: شرح العقيدة السفارينية، دار الوطن - الرياض، ط 1 1426 هـ، ص (483)
واستدل الحافظ ابن حجر برواية: «إني لأذود عن حوضي» ، على أن لكل نبي حوضاً فقال:"والحكمة في الذود المذكور: أنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يرشد كل أحد إلى حوض نبيه، على ما تقدم أن لكل نبي حوضاً، وأنهم يتباهون بكثرة من يتبعهم، فيكون ذلك من جملة إنصافه، ورعاية إخوانه من النبيين"
(1)
.
وفي سؤال ورد إلى الشيخ عبد الرحمن بن حسن مفاده:" فيمن يقول: إن الأولياء يردون الحوض مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الأنبياء؟
الجواب:" إنما يتم له ما ذُكر، إن ثبت أن الأنبياء يردون حوض النبي صلى الله عليه وسلم ولم أر ما يدل على ذلك، بعد الفحص والاطلاع على الأحاديث الواردة في الحوض عن بضعة وخمسين صحابياً، بل الذي رأيته يدل لخلافه، فقد أخرج الترمذي عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا وَإِنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً» .
وأخرج الترمذي عن سمرة مرفوعاً: «إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَصْحَابًا مِنْ أُمَّتِهِ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ يَوْمَئِذٍ أَكْثَرَهُمْ كُلِّهِمْ وَارِدَةً، فَإِنَّهُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ قَائِمٌ عَلَى حَوْضٍ مَلْآنَ ، مَعَهُ عَصًا ، يَدْعُو مَنْ عَرَفَ مِنْ أُمَّتِهِ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ سِيمَاءٌ يَعْرِفُهُمْ بِهَا نَبِيُّهُمْ» ، فهذان الحديثان صريحان في أن لكل نبي حوضاً مستقلاً ترده أمته"
(2)
.
(1)
ابن حجر: فتح الباري: (11/ 4)، القسطلاني: المواهب اللدنية: ا (3/ 641)، ابن كثير: الفصول في السيرة:، ص (290)، النفراوي: الفواكه الدواني: (1/ 91)، الألوسي: روح المعاني،:(15/ 479)
(2)
عبد الرحمن بن حسن: الإيمان والرد على أهل البدع، مطبوع ضمن مجموعة الرسائل والمسائل الخبرية ج 2، دار العاصمة، الرياض، ط: بمصر 1349، النشرة الثالثة: 1412 هـ (75)