الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
11 - بابٌ (*)(يَزِفُّونَ): النَّسَلانُ في المَشْيِ
1432 -
قالَ ابنُ عباسٍ: أوَّلُ ما اتَّخَذَ النساءُ المِنْطَقَ (12) مِن قِبَل أمِّ إسماعيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقاً لتُعَفِّيَ أَثَرَها على سارَةَ، ثم جاءَ (وفي روايةٍ: لمَّا كان بينَ إبراهيم وبين أهلِهِ ما كان؛ خَرَجَ 4/ 116) بها إبراهيمُ وبابنِها إسماعيلَ، وهي تُرْضِعُهُ، حتى [قَدِمَ مكةَ، فـ] وضَعَهُما عندَ البيتِ (13) عندَ دَوْحَةٍ فوقَ زمزمَ، في أعلى المسجدِ، وليس بمكةَ يومئذٍ أحدٌ، وليس بها ماءٌ، فوضَعَها هُنالِك، ووضَعَ عندَهُما جِراباً فيه تَمْرٌ، وسِقَاءً فيه (وفي روايةٍ: شَنَّةٌ فيها) ماءٌ، [فجَعَلَتْ أمُّ إسماعيلَ تشربُ من الشَّنَّةِ، فيَدِرُّ لَبَنُها على صَبِيِّها]، ثم قفَّى إبراهيمُ مُنْطَلِقاً [إلى أهلِهِ]، فتَبعَتْهُ أمُّ إسماعيلَ، [حتى لَمَّا بَلَغُوا كَدَاءَ؛ نَادَتْهُ مِن ورائهِ]، فقالت: يا إبراهيمُ! أيَنَ تَذْهَبُ وتترُكُنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنسٌ ولا شيءٌ؟! فقالت له ذلك مِراراً، وجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إليها (وفي روايةٍ: إلى مَنْ تترُكُنا؟ قالَ: إلى اللهِ)، فقالت لهُ: آللهُ الذي أمَرَكَ بهذا؟ قالَ: نعم. قالت: إذَنْ لا يُضَيِّعُنا، ثم رَجَعَتْ،
(*) بالتنوين من غير ذكر ترجمة، فهو كالفصل من سابقه، وعدمه أولى من وجوده، فإنَّ تعلق ما
بعده بما قبله ظاهر؛ لأن قوله: "يزفون" أراد به قوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: {فأقْبَلوا إليهِ يزفونَ} ؛ أي: يسرعون. فقوله: النَّسَلان في المشي تفسير له، على أن النَّسَلان معناه الإسراع في المشي، يُقالُ: نسل الماشي ينسل، من بابي ضرب ونصر، نَسْلاً ونَسَلاً ونَسَلاناً (بالتحريك في الأخيرين): إذا أسرع في مشيه كما في "القاموس " وغيره، قال تعالى:{إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} ، وفي الحديث:"عليكم بالنَّسَلانَ"، فضبط الشارح إياه بسكون السين ليس على ما ينبغي.
(12)
(المنطق): ما تشده المرأة في وسطها عند الشغل؛ لئلا تعثر في ذيلها، وقوله:" لتعفي أثرها على سارة"؛ أي لتخفيه عليها بالترائي لها بزي الخادمة. "قفى" معناه: ولَّى راجعاً إلى الشام.
(13)
قلتُ: أي عند المكان الذي بُني عليه البيت بعد، كما يدل عليه السياق، وكذلك قوله:"في أعلى المسجد"، أي: مكان المسجد.
فانطلَقَ إبراهيمُ، حتى إذا كانَ عندَ الثَّنِيَّةِ حيث لا يرونَهُ؛ استقبلَ بوجهِهِ البيتَ (14)، ثم دعا بهؤلاء الكلماتِ، ورَفَعَ يَدَيْهِ، فقالَ:{رَبَّنَا (15) إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ} حتى بلغ: {يَشْكُرُونَ} .
وجَعَلَتْ أمُّ إسماعيلَ تُرْضِعُ إسماعيلَ، وتشرَبُ مِن ذلك الماءِ، [ويَدِرُّ لَبَنُها على صبيِّها]، حتى إذا نَفِدَ ما في السِّقاءِ، عَطِشَتْ، وعَطِشَ ابنُها، وجَعَلَتْ تنظرُ إليهِ يَتَلَوَّى، أو قالَ: يَتَلَبَّطُ.
[قالت: لو ذهبتُ، فنظرتُ لَعَلِّي أُحِسُّ أحداً، قالَ:] فانطَلَقَتْ كراهيةَ أن تنظرَ إليه، فوَجَدَتِ الصفا أقربَ جبلٍ في الأرضِ يَلِيها، فقامت عليه، ثم استقبلَتِ الواديَ تنظرُ هل ترى أحداً؟ فلم تَرَ أحداً، فهَبَطَتْ مِن الصفا، حتى إذا بلغتِ الواديَ؛ رَفَعَتْ طرَفَ دِرْعِها، ثم سَعَتْ سعْيَ الإنسانِ المجهودِ (16) حتى جاوَزَتِ الواديَ، ثم أتتِ المروةَ، فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحداً؟ فلم تَرَ أحداً.
[ثم قالت: لو ذهبتُ فنظرتُ ما فعَلَ؟ (تعني: الصبيَّ)، فذهبت، فنظرت، فإذا هو على حالِهِ؛ كأنَّه يَنْشَغُ للموتِ، فلم تُقِرُّها نفسُها، فقالت: لو ذهبتُ فنظرتُ لَعلِّي أُحِسُّ أحداً، فذهبت فصعِدَتِ الصفا، فَنَظَرَتْ ونَظَرَتْ، فلم تُحِسَّ أحداً]؛ ففعلتْ ذلك سبعَ مراتٍ.
(14) أي: موضع البيت.
(15)
هذه رواية الكشميهني، وفي رواية غيره:{ربنا} ، وهو الموافق للتلاوة.
(16)
أي: الذي أصابه الجهدُ، وهو الأمرُ المشق.
قال ابنُ عباسٍ: قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
"فذلك سعيُ الناسِ بينَهُما"، فلما أشرَفَتْ على المروةِ، سَمِعَتْ صوتاً، فقالت: صَهٍ (17) - تريدُ: نفسَها- ثمَّ تَسَمَّعتْ، فسَمِعَتْ أيضاً، فقالت: قد أسْمَعْتَ إنْ كانَ عندَكَ غَوَاثٌ (وفي روايةٍ: فقالت: أغِثْ إنْ كانَ عندك خيرٌ)، فإذا هي بالمَلَكِ (وفي روايةٍ: فإذا جبريلُ) عند موضِعِ زَمْزَمَ، فبَحَثَ بعَقِبِهِ [هكذا، وغَمَزَ عَقِبَهُ على الأرضِ]، حتى ظهَرَ الماءُ، [فدَهِشَتْ أمُّ إسماعيلَ]، فجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ، وتقولُ بيدها هكذا، وجَعَلَتْ تَغْرِفُ من الماءِ في سقائِها، وهو يفورُ بعدما تَغرِفُ.
قال ابنُ عباسٍ: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
"يَرْحَمُ اللهُ أمَّ إسماعيلَ، لو تَرَكَتْ زمزمَ- أو قالَ: لو لَمْ تَغْرِفْ مِن الماءِ (وفي روايةٍ: لولا أنها عَجِلَتْ) - لكانت زمزمُ عَيْناً مَعِيناً (وفي روايةٍ: لو تَرَكَتْهُ كانَ الماءُ ظاهراً) ". قالَ: فشَرِبَتْ [من الماءِ]، وأرْضَعَتْ ولَدَها (وفي روايةٍ: ويَدِرُّ لبنُها على صبيِّها)، فقالَ المَلَكُ: لا تَخافوا الضَّيْعَةَ، فإنَّ ها هنا بيتَ اللهِ يَبني (18) هذا الغلامُ وأبوهُ، فإنَّ اللهَ لا يُضَيِّعُ أهلَهُ. وكانَ البيتُ مرتفعاً من الأرضِ كالرابيةِ، تأتيهِ السُّيُولُ، فتأخذُ عن يمينِهِ وشمالِهِ.
فكانت كذلك حتى مَرَّتْ بهِم رُفْقَةٌ مِن جُرْهُم- أو أهلُ بيتٍ من جُرهُم-
(17) أي: اسكتي. وقوله: "غِواث" بكسر الغين المعجمة. ولأبي ذر بضم الغين. وقال الحافظ
ابن حجر: " (غَواث): بفتحها للأكثر".
(18)
قوله: "يبني" بحذف ضمير المفعول، وعند الإسماعيلي:"يبنيه" بإثباته.
مقبِلينَ مِن طريقِ كَدَاءَ (*)، فنزلوا في أسفلِ مكةَ، فرأوا طائراً عائِفاً (19)، فقالوا: إنَّ هذا الطائرَ لَيدورُ على ماءٍ، لعَهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماءٌ، فأرسلوا جَرِيّاً أو جَرِيَّينِ؛ فإذا هُم بالماءِ، فرَجَعوا، فأخبروهم بالماءِ، فأقبلوا، قالَ: وأمُّ إسماعيلَ عندَ الماء، فقالوا: أتأذنينَ لنا أن ننزِل عندَكِ؟ فقالت: نعم؛ ولكن لا حقَّ لكُم في الماءِ.
قالوا: نعم.
قال ابنُ عباسٍ: قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
"فألفى (20) ذلك أمَّ إسماعيلَ وهي تحبُّ الأُنْسَ، فنزلوا، وأرْسَلوا إلى أهليهِم، فنزلوا معهُم، حتى إذا كانَ بها أهلُ أبياتٍ منهم، وشبَّ الغلامُ، وتعلَّمَ العربيَّةَ منهم (21)، وأنْفَسَهُم وأعجَبَهُم حين شبَّ، فلما أدْرَكَ؛ زَوَّجوهُ امرأةً منهم، وماتت أمُّ إسماعيلَ.
[ثم إنه بدا لإِبراهيم، فقالَ لأهْلِهِ: إني مُطَّلِعٌ تَرِكَتي، قال:] فجاء إبراهيمُ بعدما تَزَوَّجَ إسماعيلُ يُطالِعُ تَرِكَتَهُ، [فجاءَ فسلَّمَ]، فلم يجدْ إسماعيلَ، فسألَ امرأتَهُ
(*) قوله: "كداء" ويُروى "كدى" كهدى: وهما ثنيتان بمكة، ونص الفيومي على عدم صرف الأول للعلمية والتأنيث.
(19)
(عائفاً): حائماً. و (الجَرِيّ): الوكيل والرسول.
(20)
أي: وجد. "ذلك"؛ أي: الحي الجرهميّ.
(21)
فيه إشعار بان لسان أمه وأبيه لم يكن عربياً، وفيه تضعيف لقول من روى أنه أول من تكلم بالعربية إسماعيل، وقد وقع ذلك من حديث ابن عباس عند الحاكم (2/ 552 - 553) موقوفاً بسند واه، لكن روى الزبير بن بكار في "النسب" من حديث علي بإسناد قال الحافظ: حسن. قال: "أول من فتق الله لسانه بالعربية المبينه إسماعيل". قال الحافظ: "وبهذا القيد يجمع بين الخبرين، فتكون أوليته في ذلك بحسب الزيادة في البيان لا الأولية المطلقة".
وقوله: "أَنْفَسَهُم"؛ أي: رَغَّبَهُم في نفسه ومصاهرته، فعل ماض من الِإنفاس، وهو الترغيب.
عنه؛ فقالت: خَرَجَ يبتَغي (وفي روايةٍ: ذهب يَصِيدُ) لنا، ثم سألَها عن عَيْشِهِم وهَيْئَتِهِم؟ فقالت: نحنُ بِشَرٍّ، نحن في ضِيقٍ وشِدَّةٍ، فشَكَتْ إليه، قالَ: فإذا جاءَ زوجُكِ، فَاقْرَئي عليه السلام، وقُولي لهُ: يُغَيِّرْ عتبةَ بابِهِ.
فلما جاءَ إسماعيل؛ كأنَّه آنَسَ شيئاً، فقالَ: هل جاءَكُم مِن أحَدٍ؟ قالت: نعم؛ جاءنا شيخٌ كذا وكذا، فسألَنا عنك؟ فأخبرْتُهُ، وسألني: كيف عيشُنا؟ فأخبَرْتُهُ أنا في جَهْدٍ وشِدَّةٍ. قال: فهل أوصاكِ بشيءٍ؟ قالت: نعم؛ أمَرَني أن أقْرَأَ عليكَ السلامَ، ويقولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بابِكَ. قالَ: ذاكِ أبي، وقد أمرني أن أُفارِقَكِ، الْحَقِي بأهلِكِ، فطَلَّقَها، وتَزَوَّجَ منهم أُخرى.
فلَبِثَ عنهُم إبراهيمُ ما شاءَ اللهُ، ثم [إنَّه بدا لابراهيمَ، فقالَ لأهلهِ: إني مُطَّلِعٌ تَرِكَتي. قالَ: فـ] أتاهُم بعدُ، فلم يَجِدْهُ، فدَخَلَ على امرأتِهِ، فسألها عنه؟ فقالت: خَرَجَ ببتغي (وفي روايةٍ: ذهب يَصِيدُ) لنا، [فقالت: ألا تَنْزِلُ فتَطْعَمَ وتشْرَبَ؟] قالَ: كيف أنتُم؟ وسألَها عن عَيْشِهِم وهيئتِهِم؟ فقالت: نحنُ بخيرٍ وسَعَةٍ، وأثْنَتْ على اللهِ عز وجل، فقالَ: ما طعامُكُم؛ قالتِ: اللحمُ. قالَ: فما شرابُكُم؟ قالتِ: الماءُ. قالَ: اللهُمَّ! بارِكْ لهم في اللحمِ والماءِ".
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:" [بركةٌ بدعوةِ إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم]، ولم يكن لهم يومئذٍ حَبُّ، ولو كانَ لهم دعا لهم فيه". قالَ: فهما لا يَخْلُو عليهِما أحدٌ بغيرِ مكةَ إلا لم يوافِقاهُ (22)، قال: فإذا جاءَ زوجُكِ، فاقْرَئِي عليه السلام، ومُرِيهِ يُثْبِتْ عتَبَةَ بابِهِ.
(22) يعني: ليس أحدٌ يخلو؛ أي: يعتمد ويداوم على اللحم والماء بغير مكة إلا اشتكى، أما في مكة المشرفة فلا، فإنهما يوافقانه فيها.
فلما جاءَ إسماعيلُ؛ قالَ: هل أتاكُم مِن أحدٍ؟ قالت: نعم؛ أتانا شيخٌ حَسَنُ الهيئةِ، وأثنَتْ عليه، فسألني عنك؟ فأخبرتُهُ، فسألني: كيف عَيْشُنا؟ فأخبرْتُهُ أنَّا بخيرٍ. قالَ: فأوصاكِ بشيءٍ؟ قالت: نعم؛ هو يقرأُ عليك السلامَ، ويأمُرُكَ أنْ تُثْبِتَ عتَبَةَ بابِكَ. قالَ: ذاكِ أبي، وأنتِ العَتَبَةُ، أمَرَني أنْ أُمْسِكَكِ. ثم لَبِثَ عنهُم ما شاء اللهُ، ثم جاءَ بعد ذلك، وإسماعيلُ يَبْري نَبْلاً (23) لهُ تحتَ دَوْحَةٍ قريباً من زمزمَ، فلما رآهُ قامَ إليه، فصنعا كما يَصنَعُ الوالِدُ بالوَلَدِ، والولدُ بالوالِدِ، ثم قالَ: يا إسماعيلُ! إنَّ اللهَ أمَرَني بأمرٍ. قالَ: فاصْنَعْ ما أمَرَكَ ربُّكَ. قالَ: وتُعِينُني؟ (وفي روايةٍ: إنَّه قد أمرني أن تُعينَني عليهِ) قالَ: وأُعِينُكَ. قالَ: فإنَّ اللهَ أمَرَني أنْ أبْنيَ [له] ها هنا بيتاً، وأشارَ إلى أكَمَةٍ مرتَفِعَةٍ على ما حولَها.
قالَ: فعِنْدَ ذلك رَفَعا القواعِدَ مِن البيتِ، فجَعَلَ إسماعيلُ يأتي بالحجارَةِ، وإبراهيمُ يبني، حتى إذا ارتَفعَ البناءُ، [وضَعُفَ الشيخُ على نقلِ الحجارةِ]؛ جاء بهذا الحَجَرِ، فوضَعَهُ لهُ، فقامَ عليه وهو يبني، وإسماعيلُ يناوِلُهُ الحجارةَ، وهما يقولان:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . قالَ: فجعلا يَبْنِيانِ حتى يَدورا حولَ البيتِ، وهما يقولانِ:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
1433 -
عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللهِ! أيُّ مسجدٍ وُضِعَ في الأرضِ أوَّلَ؟ قالَ:
"المسجدُ الحرامُ". قالَ: قلتُ: ثم أيُّ؟ قالَ: "المسجِدُ الأقصى". قلتُ: كم كانَ بينَهُما؟ قالَ: "أربعونَ سنةً". ثم [قالَ: 4/ 136]
(23) النبل: السهم قبل أن يركب فيه نصله وريشه، وهو السهم العربي.