الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقبولًا مرضيًا عند الله تعالى، ولا يؤاخذه تعالى بما لا يستطيع، ومن لم يكن كذلك غضب الله عليه، وكان محرومًا من رضوانه الأكبر، ولا ينفعه في الآخرة شفاعة شافع ولا يُقبل منه فداء لو ملك الفداء، ولا يستطيع أحد من أهل السماوات والأرض أن يشفع لأحد لم يرض الله تعالى بالإيمان والإخلاص وتزكية النفس التي يقلب بها الحق والخير على ضدها (1).
قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ، {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} ، {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} ، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} وقد علم مما ذكرناه من تزكية النفس، وتدسيتها بعمل الإنسان وكسبه الاختياري أن الجزاء في الآخرة أثر لازم للتزكية والتدسية مرتب عليهما ترتيب المسبب على السبب، والمعلول على العلة بفضل الله وحكمته ومقتضى سننه في خلقه، والله يضاعف لمن يشاء ويزيدهم من فضله.
أليست هذه التعاليم الإسلامية هي التي ترفع قدر الإنسان وتُعلي همته وتحفزه إلى طلب الكمال بإيمانه وإخلاصه وأعماله الصالحة، أليست أفضل وأنفع من الاتكال على تلك القصة الصليبية المأثور مثلها عن خرافات الوثنيين التي لا يصدقها عقل مستقل (2).
الوجه الرابع: كفارة الذنب عند المسلمين
.
وفيه مسائل:
الأولى: بيان أن الله قد تاب على آدم
خلق الله آدم وقد علم سبحانه أنه خلقه ليجعله خليفة في الأرض ويستخلف أولاده، واقتضت حكمته سبحانه أن يبتلي الأبوين لتمام سعادتهم، فإن كمال العبودية والمحبة والطاعة إنما يظهر عند المعارضة والدواعي إلى الشهوات والإرادات المخالفة للعبودية (3).
(1) تفسير المنار 6/ 29: 30.
(2)
تفسير المنار 6/ 31.
(3)
مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم (1/ 268).
كما قال تعالى قبل خلقه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ} (1).
فإن الله سبحانه سبق حكمه وحكمته بأن يجعل في الأرض خليفة وأعلم بذلك ملائكته فهو سبحانه قد أراد بكون هذا الخليفة وذريته في الأرض قبل خلقه لما له في ذلك من الحكم والغايات الحميدة فلم يكن بد من إخراجه من الجَنَّة إلى دار قد سكناهم فيها قبل أن يخلقه وكان ذلك التقدير بأسباب وحكم فمن أسبابه النهي عن تلك الشجرة وتخليته بينه وبين عدوه حتى وسوس إليه بالأكل وتخليته بينه وبين نفسه حتى وقع في المعصية وكانت تلك الأسباب موصلة إلى غايات محمودة مطلوبة يترتب على خروجه من الجَنَّة ثم يترتب على خروجه أسباب أخر جعلت غايات لحكم ومن تلك الغايات عوده إليها على أكمل الوجوه (2).
لم يكن إخراج الله تعالى آدم من الجَنَّة وإهباطه منها عقوبة له لأنه أهبطه بعد أن تاب عليه وقبل توبته وإنما أهبطه إما تأديبًا وإما تغليظًا للمحنة والصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي إذ الجَنَّة والنار ليستا بدار تكليف فكانت تلك الأكلة سبب إهباطه من الجَنَّة ولله أن يفعل ما يشاء (3).
وبلى الحبيب آدم عليه السلام بالذنب فاعترف وتاب وندم وتضرع واستكان وفزع إلى مفزع الخليقة وهو التوحيد والاستغفار فأزيل عنه العتب وغفر له الذَّنْبَ وقبل منه المتاب وفتح له من الرحمة والهداية كل باب ونحن الأبناء ومن أشبه أباه فما ظلم ومن كانت شيمته التوبة والاستغفار فقد هدي لأحسن الشيم (4).
والمقصود أن الله سبحانه وتعالى لما اقتضت حكمته ورحمته إخراج آدم وذريته من الجَنَّة أعاضهم أفضل منها وهو ما أعطاهم من عهده الذي جعله سببًا موصلا لهم إليه، فمن أتيه
(1) فتح الباري لابن حجر (11/ 517).
(2)
شفاء العليل لابن القيم (242).
(3)
تفسير القرطبي (1/ 213).
(4)
إغاثة اللهفان (1/ 193).
منكم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (1).
قال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: 121، 122]، فبهذا الإطلاق وهذا التصريح، وحيث لم يقل وزل آدم وأخطأ وما أشبه ذلك مما يعبر به عن الزلات والفرطات فيه لطف بالمكلفين ومزجرة بليغة وموعظة كافة، وكأنه قيل لهم: انظروا واعتبروا كيف نعتب على النبيّ المعصوم حبيب الله الذي لا يجوز عليه اقتراف الصغيرة غير المنفرة زلته بهذه الغلظة وبهذا اللفظ الشنيع، فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيئات والصغائر فضلًا عن أن تجسروا عن التورط في الكبائر (2).
وأجمع أهل الإسلام أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبي معصية بعمد سواء كانت صغيرة أو كبيرة، ونقول أنه يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد ويقع منهم أيضًا قصد الشيء يريدون به وجه الله تعالى والتقرب منه فيوافق خلاف مراد الله تعالى إلا أنه تعالى لا يقرهم على شيء من هذين الوجهين وينبههم عليه (3).
اتفق العلماء على أن الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - معصومون من الكبائر ومن كل رذيلة فيها شين ونقص اجتماعًا، إنما اختلف العلماء في هل وقع من الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - صغائر من الذنوب يؤاخذون بها ويعاتبون عليها أم لا؟ ، والذي ينبغي أن يقال: إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ونسبها إليهم وعاتبهم عليها، وأخبروا بها عن نفوسهم وتنصلوا منها وأشفقوا منها وتابوا، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها وإن قبل ذلك آحادها، وكل ذلك مما لا يزري بمناصبهم، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور وعلى جهة الخطأ والنسيان، أو تأويل دعا إلى ذلك فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات وفي حقهم سيئات،
(1) مفتاح دار السعادة لابن القيم (225).
(2)
تفسير البحر المحيط (6/ 215).
(3)
الفصل في الملل لابن حزم (4/ 19).