الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِلَيَّ، وَالَّتِي عَصَوْا بِهَا عَلَيَّ." (إرمياء 33/ 7 - 8).
وأما قوله: "وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا." يتحدث كيف شمل البؤس بررة بني إسرائيل وعصاتهم، كما قال الله:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال: 125).
وإكرامًا لهؤلاء البررة من بني إسرائيل، طهرهم الله من ذنبهم، ورفع عنهم هذه العقوبة، كما في إرميا:"يَقُولُ الرَّبُّ، يُطْلَبُ إِثْمُ إِسْرَائِيلَ فَلَا يَكُونُ، وَخَطِيَّةُ يَهُوذَا فَلَا تُوجَدُ، لأَنِّي أَغْفِرُ لمَنْ أُبْقِيهِ."(إرميا 50/ 20)، فقد حملوا خطيئة آبائهم، ثم غفرت ذنوبهم.
سوف يبدأ عهد جديد لا تضرس فيه أسنان الأبناء بحصرم آبائهم، ولا يعاقبون ثانية بجريرتهم، فقد تحملوا من آثامهم ما يكفي" 29 فِي تِلْكَ الأَيَّامِ، لَا يَقُولُونَ بَعْدُ: الآبَاءُ أَكَلُوا حِصْرِمًا، وَأَسْنَانُ الأَبْنَاءِ ضَرِسَتْ. 30 بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يَمُوتُ بِذَنْبِهِ. كُلُّ إِنْسَانٍ يَأْكُلُ الحصْرِمَ تَضْرَسُ أَسْنَانُهُ. 31"هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْدًا جَدِيدًا." (إرميا 31/ 29 - 31). (1)
وهكذا فالإصحاح يتحدث عن شعب إسرائيل، وسبيه، وذلته، ثم نجاته. وهذا هو مفهوم النص عند اليهود وهم أصحاب الكتاب الأصليين، بل هو رأي كثير من المفسرين المسيحيين، كما نقل القس الخضري حين قال:"إن عددًا لا بأس به من المفسرين يتردد كثيرًا في نسب هذه النصوص إلى المسيح ظنًا منهم بأن النبي يتكلم عن إسرائيل كله كشخص محتقر نحذول ومطرود". (2)
المبحث الرابع: إبطال وقوع صلب المسيح تاريخيًا
.
عند الرجوع إلى التاريخ والتنقيب في رواياته وأخباره عن حقيقة حادثة الصلب، ومَن المصلوب فيها؟ يتبين الآتي:
(1) ينقل القس صموئيل عن بعض العلماء رأيه في معنى هذا النص أنه يشير "إلى الأبناء الذين ولدوا في أرض المعاناة والضيق، وكل كرب وألم في أرض سبيهم، وحملوا من إثم آبائهم في هذه الأرض الغريبة [بابل] ". المدخل إلى العهد القديم، القس الدكتور صموئيل يوسف (298).
(2)
تاريخ الفكر المسيحي، الدكتور القس حنا جرجس الخضري (1/ 36).
1 -
أن قدماء النصارى كُثر منهم ينكرون صلب المسيح، وقد ذكر المؤرخون النصارى أسماء فرق مسيحية كثيرة أنكرت الصلب.
وهذه الفرق هي: الباسيليديون والكورنثيون والكاربوكرايتون والساطرينوسية والماركيونية والبارديسيانية والسيرنثييون والبارسكاليونية والبولسية والماينسية، والتايتانيسيون والدوسيتية والمارسيونية والفلنطانيائية والهرمسيون.
وبعض هذه الفرق قريبة العهد بالمسيح، إذ يرجع بعضها للقرن الميلادي الأول ففي كتابه "الهرطقات مع دحضها "ذكر القديس الفونسو ماريا دي ليكوري أن من بدع القرن الأول قول فلوري:"إن المسيح قوة غير هيولية، وكان يتشكل ما شاء من الهيئات، ولذا لما أراد اليهود صلبه؛ أخذ صورة سمعان القروي، وأعطاه صورته، فصلب سمعان، بينما كان يسوع يسخر باليهود، ثم عاد غير منظور، وصعد إلى السماء."
ويبدو أن هذا القول استمر في القرن الثاني، حيث يقول المفسر جون فنتون شارح متى:"إن إحدى الطوائف الغنوطسية التي عاشت في القرن الثاني قالت بأن سمعان القيرواني قد صلب بدلًا من يسوع". (1)
فمن ذلك يتبين أنه في الفترة التي أعقبت رفع المسيح حتى كتابة الأناجيل قد وجد بين قدامى المسيحيين جماعات تنكر صلب المسيح وتؤمن بأن شخصا آخر قد صلب بدلا منه. (2)
2 -
كذلك وجدت جماعات أخرى تقول بأنه لم يمت على الصليب وإنما أنزل حيا، وهذا ما قاله الفيلسوف الألماني "فنتيوريني" في بداية القرن التاسع عشر حيث خلص من دراسة لما قيل عن الصلب والدفن إلى أن "يسوع قد أغمي عليه فقط، ثم أفاق فيما بعد نتيجة لبرودة القبر المنحوت في الصخرة". (3)
(1) شرح إنجيل متَّى لجون فنتون (ص 440).
(2)
انظر: المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب (273، 274)، وانظر تاريخ الفكر المسيحي، الدكتور القس حنا جرجس الخضري (1/ 207)، وقاموس الكتاب المقدس (1112).
(3)
المسيح في مصادر العقائد المسيحية (274).
وقد نقل أوريجانوس تقليدًا شائعًا في عهده بأن يسوع كان يستطيع في حياته أن يغير شكله وقتما وكيفما يشاء، ويقول إن هذا كان السبب في ضرورة قلبه يهوذا الخائن؛ وإلا فإن المسيح كان معروفًا لدى عموم أهل أورشليم. (1)
3 -
وقد استمر إنكار صلب المسيح، فكان من المنكرين الراهب تيودورس (560 م) والأسقف يوحنا ابن حاكم قبرص (610 م) وغيرهم.
ولعل أهم هذه الفرق المنكرة لصلب المسيح الباسيليديون؛ الذين نقل عنهم سيوس في "عقيدة المسلمين في بعض مسائل النصرانية" والمفسر جورج سايل القول بنجاة المسيح، وأن المصلوب هو سمعان القيرواني، وسماه بعضهم سيمون السيرناي، ولعل الاسمين لواحد.
وهذه الفرقة كانت تقول أيضًا ببشرية المسيح، يقول باسيليوس الباسليدي:"إن نفس حادثة القيامة المدعى بها بعد الصلب الموهوم هي من ضمن البراهين الدالة على عدم حصول الصلب على ذات المسيح".
ولعل هؤلاء المنكرين لصلب المسيح قديمًا هم الذين عناهم جرجي زيدان حين قال: "الخياليون يقولون: إن المسيح لم يصلب، وإنما صلب رجل آخر مكانه". (2)
ومن هذه الفرق التي قالت بصلب غير المسيح بدلًا عنه: الكورنثيون والكربوكراتيون والسيرنثيون. يقول جورج سايل: إن السيرنثيين والكربوكراتيين، وهما من أقدم فرق النصارى، قالوا: إن المسيح نفسه لم يصلب ولم يقتل، وإنما صلب واحد من تلاميذه، يشبهه شبهًا تامًا، وهناك الباسيليديون يعتقدون أن شخصًا آخر صلب بدلًا من المسيح.
وثمة فِرق نصرانية قالت بأن المسيح نجا من الصلب، وأنه رفع إلى السماء، ومنهم الروسيتية والمرسيونية والفلنطنيائية. وهذه الفرق الثلاث تعتقد ألوهية المسيح، ويرون القول بصلب المسيح وإهانته لا يلائم البنوة والإلهية. (3)
(1) انظر: دائرة المعارف الكتابية (مادة أبو كريفا).
(2)
أقانيم النصارى، أحمد حجازي السقا (75)، الفارق بين المخلوق والخالق، عبد الرحمن باجي (465 - 466).
(3)
انظر: الفارق بين المخلوق والخالق، عبد الرحمن باجي (465)، قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار (503).
4 -
كما تناقل علماء النصارى ومحققوهم إنكار صلب المسيح في كتبهم، وأهم من قال بذلك الحواري برنابا في إنجيله.
ويقول ارنست دي بوش الألماني في كتابه "الإسلام: أي النصرانية الحقة" ما معناه: إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء هو من مبتكرات ومخترعات بولس، ومن شابهه من الذين لم يروا المسيح، لا في أصول النصرانية الأصلية.
ويقول ملمن في كتابه "تاريخ الديانة النصرانية": "إن تنفيذ الحكم كان وقت الغلس، وإسدال ثوب الظلام، فيستنتج من ذلك إمكان استبدال المسيح بأحد المجرمين الذين كانوا في سجون القدس منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم كما اعتقد بعض الطوائف، وصدّقهم القرآن". (1)
5 -
وأخيرًا نذكر بما ذكرته دائرة المعارف البريطانية في موضوع روايات الصلب حيث جعلتها أوضح مثال للتزوير في الأناجيل.
ومن المنكرين أيضًا هيام ماكبي في كتاب "الدم المقدس، وكأس المسيح المقدس" وفيه أن السيد المسيح لم يصلب، وأنه غادر فلسطين، وتزوج مريم المجدلية، وأنهما أنجبا أولادًا، وأنه قد عثر على قبره في جنوب فرنسا، وأن أولاده سيرثون أوربا، ويصبحون ملوكًا عليها.
وذكر أيضًا أن المصلوب هو الخائن يهوذا الأسخريوطي، الذي صلب بدلًا من المسيح المرفوع. (2)
وأما الطائفة التي يسميها القس الخضري بالرومانسيين (القرن التاسع عشر) فقد ذكروا أن المسيح "أنزل من على الصليب فاقد الوعي، وعالجه أطباء أسينيون إلى أن استرد قوته وظهر لتلاميذه الذين اعتقدوا أنه مات". (3)
وهكذا فإن التاريخ أيضًا ناطق بالحقيقة، مُثبت لما ذكره القرآن عن نجاة المسيح
(1) انظر: الفارق بين المخلوق والخالق، عبد الرحمن باجي (366)، قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار (503).
(2)
انظر: دراسة تحليلية نقدية لإنجيل مرقس، محمد عبد الحليم أبو السعد، (530 - 531).
(3)
تاريخ الفكر المسيحي، الدكتور القس حنا جرجس الخضري (1/ 158).