الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(بالنسبة) إلى مناصبهم وعلو أقدارهم، إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس، فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة - صلوات الله وسلامه عليهم - وإن كان قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم فلم يخل ذلك بمناصبهم ولا قدح في رتبهم، بل قد تلافاهم واجتباهم وهداهم ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم (1).
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على ما أخبر الله به في كتابه وما ثبت عن رسوله من توبة الأنبياء عليهم السلام من الذنوب التي تابوا منها وهذه التوبة رفع الله بها درجاتهم، وعصمتهم هي من أن يقروا على الذنوب والخطأ (2).
الثانية: وقوع الأنبياء في الذَّنْبَ لا ينقص من قدر النبوة والعصمة
.
اتفق المسلمون على أنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله فلا يجوز أن يقرهم على الخطأ في شيء مما يبلغونه عنه وبهذا يحصل المقصود من البعثة، وأما وجوب كونه قبل أن يبعث نبيا لا يخطئ أو لا يذنب فليس في النبوة يستلزم هذا وقول القائل لو لم يكن كذلك لم تحصل ثقة فيما يبلغونه عن الله كذب صريح فإن من آمن وتاب حتى ظهر فضله وصلاحه ونبأه الله بعد ذلك كما نبأ إخوة يوسف ونبأ لوطًا وشعيبًا وغيرهما وأيده الله تعالى بما يدل على نبوته فإنه يوثق فيما يبلغه كما يوثق بمن لم يفعل ذلك وقد تكون الثقة به أعظم إذا كان بعد الإيمان. والتوبة قد صار أفضل من غيره والله تعالى قد أخبر أنه يبدل السيئات بالحسنات للتائب كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل أن يصدر منهم ما يدعونه من الأحداث كانوا من خيار الخلق وكانوا أفضل من أولادهم الذين ولدوا بعد الإسلام.
ولا ريب أن السيئات لا يؤمر بها وليس للعبد أن يفعلها ليقصد بذلك التوبة منها فإن هذا مثل من يريد أن يحرك العدو عليه ليغلبهم بالجهاد، وهذا جهل بل إذا قدر من ابتلى بالعدو
(1) تفسير القرطبي (1/ 264: 263).
(2)
رسالة في التوبة لابن تيمية (216).
فغلبه كان أفضل ممن لم يكن كذلك، والذنوب إنما تضر أصحابها إذا لم يتوبوا منها والجمهور الذين يقولون بجواز الصغائر عليهم يقولون إنهم معصومون من الإقرار عليها (1).
وهو سبحانه وله الحمد لم يذكر عن نبي من الأنبياء ذنبا إلا ذكر معه توبته لينزهه عن النقص والعيب ويبين أنه ارتفعت منزلته وعظمت درجته وعظمت حسناته وقربه إليه بما أنعم الله عليه من التوبة والاستغفار والأعمال الصالحة التي فعلها بعد ذلك وليكون ذلك أسوة لمن يتبع الأنبياء ويقتدي بهم إلى يوم القيامة، وأما من ذكر الله تعالى وتبارك عنه ذنبًا كآدم عليه السلام فإنه لما قال {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: 121، 122]، وقال:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} [البقرة: 37].
ومن احتج على امتناع ذلك بأن الإقتداء بهم مشروع والاقتداء بالذنب لا يجوز قيل له إنما يقتدي بهم فيما أقروا عليه لا فيما نهوا عنه كما أنه إنما يقتدي بهم فيما أقروا عليه ولم ينسخ ولم ينسه فيما نسخ وحينئذ فيكون التأسي بهم مشروعًا مأمورًا به لا يمنع وقوع ما ينهون عنه ولا يقرون عليه لا من هذا ولا من هذا وإن كان اتباعهم في المنسوخ لا يجوز بالاتفاق.
والذي أجمع عليه جمهور المسلمين من سلف الأمة وأئمتها في شأن الأنبياء أن الله يصطفى من الملائكة رسلًا ومن الناس والله أعلم حيث يجعل رسالاته فالنبي يختص بصفات ميزه الله بها على غيره وفي عقله ودينه واستعد بها لأن يخصه الله بفضله ورحمته، فالأنبياء أفضل الخلق باتفاق المسلمين وبعدهم الصديقون والشهداء والصالحون، فالنبي مع وقوع الذَّنْبَ الذي هو بالنسبة إليه ذنب وقد لا يكون ذنبا من غيره مع تعقبه بالتوبة والإستغفار لا يقدح في كون الرجل من المقربين السابقين ولا الأبرار ولا يلحقه بذلك وعيد في الآخرة فضلًا عن أن يجعله من الفجار.
فليس من تاب إلى الله تعالى وأناب إليه بحيث صار بعد التوبة أعلى درجة مما كان قبلها منقوصًا ولا مغضوضًا منه، بل هذا مفضل عظيم مكرم وبهذا ينحل جميع ما يوردونه من
(1) منهاج السنة لابن تيمية (2/ 396: 400).
الشبه حول آدم عليه السلام.
والإنسان ينتقل من نقص إلى كمال فلا ينظر إلى نقص البداية ولكن ينظر إلى كمال النهاية، وإذا ابتلى العبد بالذنب وقد علم أنه سيتوب منه ويتجنبه ففي ذلك من حكمة الله ورحمته بعبده أن ذلك يزيده عبودية وتواضعا وخشوعا وذلا ورغبة في كثرة الأعمال الصالحة ونفرة قوية عن السيئات فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين"، وذلك أيضًا يدفع عنه العجب والخيلاء ونحو ذلك مما يعرض للإنسان وهو أيضًا يوجب الرحمة لخلق الله ورجاء التوبة والرحمة لهم إذا أذنبوا وترغيبهم في التوبة.
وهو أيضًا يبين من فضل الله وإحسانه وكرمه ما لا يحصل بدون ذلك كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم، وهو أيضًا يبين قوة حاجة العبد إلى الاستعانة بالله والتوكل عليه واللجأ إليه في أن يستعمله في طاعته ويجنبه معصيته وأنه لا يملك ذلك إلا بفضل الله عليه وإعانته له فإن من ذاق مرارة الابتلاء وعجزه عن دفعه إلا بفضل الله ورحمته كان شهود قلبه وفقره إلى ربه واحتياجه إليه في أن يعينه على طاعته ويجنبه معصيته أعظم ممن لم يكن كذلك.
ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه، ولهذا تجد التائب الصادق أثبت على الطاعة وأرغب فيها وأشد حذرا من الذَّنْبَ من كثير من الذين لم يبتلوا بذنب، وقد تكون التوبة موجبة له من الحسنات ما لا يحصل لمن يكن مثله تائبا من الذَّنْبَ (1).
فمن يجعل التائب الذي اجتباه الله وهداه منقوصا بما كان من الذَّنْبَ الذي تاب منه وقد صار بعد التوبة خيرًا مما كان قبل التوبة فهو جاهل بدين الله تعالى وما بعث الله به رسوله، ولسنا نقول إن كل من أذنب وتاب فهو أفضل ممن لم يذنب ذلك الذَّنْبَ بل هذا يختلف باختلاف أحوال الناس فمن الناس من يكون بعد التوبة أفضل ومنهم من يعود إلى ما كان ومنهم من لا يعود إلى مثل حاله والأصناف الثلاثة فيهم من هو أفضل ممن لم يذنب
(1) منهاج السنة لابن تيمية (2/ 434).