الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رَجُلُ سَلَامَتِي، الَّذِي وَثقْتُ بِهِ، آكِلُ خُبْزِي، رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ! " (المزمور 41/ 5 - 9)، لقد كان تلميذه يهوذا، رجل سلامته أحد المتآمرين عليه.
لكن كمال المسيح وحسن طاعته لله نجياه من كيد عدوه، وأبطل مؤامرة يهوذا، فيقول المزمور:"10 أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَارْحَمْنِي وَأَقِمْنِي، فَأُجَازِيَهُمْ. 11 بِهذَا عَلِمْتُ أَنَّكَ سُرِرْتَ بِي، أَنَّهُ لَمْ يَهْتِفْ عَلَيَّ عَدُوِّي. 12 أَمَّا أَنَا فَبِكَمَالِي دَعَمْتَنِي، وَأَقَمْتَنِي قُدَّامَكَ إِلَى الأَبَدِ. 13 مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ، مِنَ الأَزَلِ وَإِلَى الأَبَدِ. آمِينَ فَآمِينَ."(المزمور 41/ 10 - 13)، لقد سُر به ربه، ولم يهتف عليه عدوه، بل بكماله وصلاحه كتبت له النجاة.
خلاصة نبوءات المزامير
" مِن جماع ما تقدم لا نخلص إلا بأن المزامير تنبأت بحق بأن الله نحلص مسيحه، يستجيبه من سماء قدسه، يرفعه من أبواب الموت، يرفعه فوق القائمين عليه، يرسل من العُلا فيأخذه.
أما يهوذا الإسخريوطي الذي حفر له هذه الحفرة، وأتى على رأس الجمع من جنود وخدام ليقبضوا عليه، على المسيح سيده، فإنه في الحفرة نفسها يقع، وبعمل يديه يعلق، رجع تعبه على رأسه، وعلى هامته هبط ظُلمه، صار عارًا عند البشر، فقبض عليه هو بدلًا من المسيح، وحوكم هو، وصلب بدلًا منه.
وهكذا تستقيم النبوءة في المزامير، وهكذا تتجلى النبوءة في المزامير، في أسطع وأروع وأسمى ما تكون النبوءة، ليست آية نحرفها، أو كلمة نُحوّر معناها، بل صورة كاملة، عشرات الآيات، عشرات المزامير، كلها تنطق بصورة واحدة متكاملة، تتكرر كثيرًا، ولكن أبدًا لا تتغير.
هذه الحقيقة هي تلك التي نطق بها القرآن، واعتقدها المسلمون
…
ولمن يريد أن يزيد يقينًا، فها هي المزامير كلها في الكتاب المقدس، الذي يؤمن به المسيحيون، ويتداولونه، وإليها فليرجع، ولن يزيده هذا إلا يقينًا وتقديرًا لهذه الحقيقة التي انتهجنا إليها .. ". (1)
المبحث الثالث: هل ما جاء في سفر إشعيا نبوءة عن صلب المسيح
؟
(1) كان الاعتماد في هذا المبحث على دراسة الأستاذ حسين منصور في كتابه دعوة الحق بين المسيحية والإسلام (50 - 120)، وتلخيص منقذ السقار لهذا المبحث من الكتاب السابق في كتابه هل افتدانا المسيح على الصليب؟ (35 - 62).
يرى النصارى أن ثمة نبوءة في غير المزامير قد وردت عن صلب المسيح، ألا وهي ما جاء في إشعيا (52، 53) وفيه: "13 هُوَذَا عَبْدِي يَعْقِلُ، يَتَعَالى وَيَرْتَقِي وَيَتَسَامَى جِدًّا. 14 كَمَا انْدَهَشَ مِنْكَ كَثِيرُونَ. كَانَ مَنْظَرُهُ كَذَا مُفْسَدًا أَكْثَرَ مِنَ الرَّجُلِ، وَصُورَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ بَنِي آدَمَ. 15 هكَذَا يَنْضِحُ أُمَمًا كَثِيرِينَ. مِنْ أَجْلِهِ يَسُدُّ مُلُوكٌ أَفْوَاهَهُمْ، لأَنَّهُمْ قَدْ أَبْصَرُوا مَا لَمْ يُخْبَرُوا بِهِ، وَمَا لَمْ يَسْمَعُوهُ فَهِمُوهُ."(52/ 13 - 15).
"1 مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا، وَلمِنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟ 2 نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْق مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ، لَا صُورَةَ لَهُ وَلَا جَمَال فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَلَا مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيَهُ. 3 مُحتقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُختبِرُ الْحَزَنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحتقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ. لكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصابًا مَضْرُوبًا مِنَ الله وَمَذْلُولًا. وَهُوَ مجَرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلَامِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. 6 كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. 7 ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فتذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. 8 مِنَ الضُّغْطَةِ وَمنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ 9 وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْمًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ. 10 أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالحْزَنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلًا تَطُولُ أَيَّامُهُ، وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ. 11 مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ، وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِرينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. 12 لِذلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ الأَعِزَّاءِ وَمَعَ الْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي المُذْنِبِينَ."(53/ 1 - 12).
ويربط النصارى بين هذا السفر وبين ما جاء في مرقس" 28 فتمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: "وَأُحْصِيَ مَعَ أَثِمَةٍ"."(مرقس 28/ 15)، ومقصوده كما لا يخفى ما جاء في إشعيا" سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ" ومثله في سفر أعمال الرسل. (انظر أعمال 8/ 22 - 23).
والنص ولا ريب قد تعرض للكثير من التلاعب والتحوير، وتجزم بهذا التلاعب
عندما تلحظ غموض عباراته، وحين تقارن نص إشعيا مع ما جاء في أعمال الرسل، وهو ينقل عنه، وفيه "32 وَأَمَّا فَصْلُ الْكِتَابِ الَّذِي كَانَ يَقْرَأُهُ فَكَانَ هذَا:"مِثْلَ شَاةٍ سِيقَ إِلَى الذَّبْحِ، وَمثْلَ خَرُوفٍ صَامِتٍ أَمَامَ الَّذِي يَجزُّهُ هكَذَا لَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. 33 فِي تَوَاضُعِهِ انْتُزِعَ قَضَاؤُهُ، وَجِيلُهُ مَنْ يُخْبِرُ بِهِ؟ لأَنَّ حَيَاتَهُ تُنْتَزَعُ مِنَ الأَرْضِ"" (أعمال 8/ 32 - 33)، فثمة فروق بين ما جاء في إشعياء وما نقله عنه أعمال الرسل.
فالنعجة في سفر إشعيا تحولت في أعمال الرسل إلى خروف، و". 8 مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ." أضحت:"33 فِي تَوَاضُعِهِ انْتُزِعَ قَضَاؤُهُ".
لكن الفارق الأكبر بين السفرين نجده في قول إشعيا: "وَفي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ"، فيما يقول سفر الأعمال:"وَجِيلُهُ مَنْ يُخْبِرُ بِهِ؟ لأَنَّ حَيَاتَهُ تُنْتَزَع مِنَ الأَرْضِ".
كما أن النص الكاثوليكي للسفر يزيد عبارة أسقطتها الطبعات البروتستنتية لما فيها من إبهام، ففي نسخة الشرق الأوسط الكاثوليكية "من الضيق والقضاء أُخذ، ومن يصف مولده، إنه قد انقطع من أرض الأحياء"، فقوله:"ومن يصف مولده" نص موجود في الترجمة السبعينية واللاتينية، وتسقطه النسخ التي اعتمدت النص العبراني فقط.
أما نسخة الرهبانية اليسوعية فقد حورت النص ليتلائم مع السياق الذي تريده، فجعلته "بالإكراه والقضاء أُخذ، فمن يفكر في مصيره، قد انقطع من أرض الأحياء"، فأضحى النص فيها متحدثًا عن صلب المسيح بدلًا من مولده! كما أضحى انتزاع حياته بالإكراه، لا مجرد ابتلاء وضيق.
وجاء في خاتمة القصة في سفر أعمال الرسل في نسخة الشرق الأوسط البرتستنتية، والأخرى الكاثوليكية أن فيلبُس مر مع العبد الحبشي على ماء" 36 وَفِيمَا هُمَا سَائِرَانِ فِي الطَّرِيقِ أَقْبَلَا عَلَى مَاءٍ، فَقَال الْخَصِيُّ: "هُوَذَا مَاءٌ. مَاذَا يَمْنَعُ أَنْ أَعْتَمِدَ؟ " 37 فَقَال فِيلُبُّسُ: "إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ يَجُوزُ". فَأَجَابَ وَقَال: "أَنَا أُومنُ أَنَّ يَسُوعَ المُسِيحَ هُوَ ابْنُ الله". 38 فَأَمَرَ أَنْ تَقِفَ المُرْكَبَةُ، فَنزلَا كِلَاهُمَا إِلَى الْمَاءِ، فِيلُبُّسُ وَالْخصِيُّ، فَعَمَّدَهُ .... " (أعمال
8/ 38 - 36)، وهذا الحوار الذي جرى بعد رؤيتهما للماء لم تذكره نسخة شهود يهوه المسماة ترجمة العالم الجديد، كما حذفته نسخة الرهبانية اليسوعية الكاثوليكية، والنص فيها:"فقال الخصي: هذا ماء، فما يمنع أن أعتمد؟ ثم أمر بأن تقف المركبة، ونزلا كلاهما في الماء".
وهذه الفروق وذلك التحريف يدلنا على مدى الحرية التي تعامل بها القديسون أو المترجمون للنصوص الكتابية.
لكن التحريف الأكبر الذي صنعه النصارى لنص إشعيا هو اجتثاثه من سياقه الذي كان يتحدث عن عودة بني إسرائيل من السبي وفداء الله لهم وخلاصهم من ذلهم، فالقصة التوراتية لا تبدأ من حيث يبدأ النصارى "هوذا عبدي يعقل ويتسامى"، فإن الابتداء بها بتر للنص وإخراج له عن سياقه ومعناه الطبيعي، حيث يقول:
"4 لأَنَّهُ هكَذَا قَال السَّيِّدُ الرَّبُّ: "إِلَى مِصْرَ نَزَلَ شَعْبِي أَوَّلًا لِيَتَغَرَّبَ هُنَاكَ. ثُمَّ ظَلَمَهُ أَشُّورُ بِلَا سَبَبٍ. فَالآنَ مَاذَا لِي هُنَا، يَقُولُ الرَّبُّ، حَتَّى أُخِذَ شَعْبِي مَجَّانًا؟ المُتَسَلِّطُونَ عَلَيْهِ يَصِيحُونَ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَدَائِمًا كُلَّ يَوْمٍ اسْمِي يُهَانُ. 6 لِذلِكَ يَعْرِفُ شَعْبِيَ اسْمِي. لِذلِكَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَعْرِفُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ المتكَلِّمُ. هأَنذَا". 8 صَوْتُ مُرَاقِبِيكِ. يَرْفَعُونَ صَوْتَهُمْ. يَتَرَنَّمُونَ مَعًا، لأَنَّهُمْ يُبْصِرُونَ عَيْنًا لِعَيْنٍ عِنْدَ رُجُوعِ الرَّبِّ إِلَى صِهْيَوْنَ. 9 أَشِيدِي تَرَنَّمِي مَعًا يَا خِرَبَ أُورُشَلِيمَ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ عَزَّى شَعْبَهُ. فَدَى أُورُشَلِيمَ. 10 قَدْ شَمَّرَ الرَّبُّ عَنْ ذِرَاعِ قُدْسِهِ أَمَامَ عُيُونِ كُلِّ الأُمَمِ، فَتَرَى كُلُّ أَطْرَافِ الأَرْضِ خَلَاصَ إِلِهنَا. 11 اِعْتَزِلُوا، اعْتَزِلُوا. اخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ. لَا تَمسُّوا نَجِسًا. اخْرُجُوا مِنْ وَسَطِهَا. (في نسخة كتاب الحياة التفسيرية: اخرجوا من وسط بابل) تَطَهَّرُوا يَا حَامِلي آنِيَةِ الرَّبِّ. 12 لأَنَّكُمْ لَا تَخْرُجُونَ بِالْعَجَلَةِ، وَلَا تَذْهَبُونَ هَارِبِينَ. لأَنَّ الرَّبَّ سَائِرٌ أَمَامَكُمْ، وَإِلهَ إِسْرَائِيلَ يَجْمَعُ سَاقَتكُمْ.
13 هُوَذَا عَبْدِي يَعْقِلُ، يَتَعَالى وَيَرْتَقِي وَيَتَسَامَى جِدًّا
…
" (إشعيا 52/ 3 - 13).
وبعد انتهاء النبوءة -المدعاة عن المسيح- عاد النص للحديث عن عزاء أمة بني إسرائيل بعد عذابها الطويل في بابل، فيقول مخاطبًا أورشليم: 11"تَرَنَّمِي أيَّتُهَا الْعَاقِرُ الَّتِي
لَمْ تَلِدْ. أَشِيدِي بِالتَّرَنُّمِ أَيَّتُهَا الَّتِي لم تَمْخَضْ، لأَنَّ بَنِي المُسْتَوْحِشَةِ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي ذَاتِ الْبَعْلِ، قَال الرَّبُّ. 2 أَوْسِعِي مَكَانَ خَيْمَتِكِ، وَلْتُبْسَطْ شُقَقُ مَسَاكِنِكِ. لَا تُمْسِكِي. أَطِيلي أَطْنَابَكِ وَشَدِّدِي أَوْتَادَكِ، 3 لأَنَّكِ تَمْتَدِّينَ إِلَى الْيَمِينِ وَإِلَى الْيَسَارِ، وَيَرِثُ نَسْلُكِ أُمَمًا، وَيُعْمِرُ مُدُنًا خَرِبَةً. 4 لَا تَخَافِي لأَنَّكِ لَا تَخْزَيْنَ، وَلَا تَخْجَلِي لأَنَّكِ لَا تَسْتَحِينَ. فَإِنَّكِ تَنْسَيْنَ خِزْيَ صَبَاكِ، وَعَارُ ترَمُّلِكِ لَا تَذْكُرِينَهُ بَعْدُ. لأَنَّ بَعْلَكِ هُوَ صَانِعُكِ، رَبُّ الْجُنُودِ اسْمُهُ، وَوَليُّكِ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ، إِلهَ كُلِّ الأَرْضِ يُدْعَى." (إشعيا 54/ 1 - 5).
لذا حق للمحققين أن يروا ما ورد في إشعيا نصًّا حُور لفظًا ومعنىً لينطبق على المسيح، ودليل ذلك أن المسيح لم يخبر أن ما جاء في إشعيا نبوءة عنه المسيح، فالمسيح لم يشر إلى هذه النبوءة من قريب أو بعيد.
والمسلمون لا يرون في هذا النص أي نبوءة عن المسيح، ويستغربون ويستنكرون ربط النصارى بين نص إشعيا وقصة الصلب في الأناجيل، فنص إشعيا يتحدث وفي أكثر من موضع عن عبد، فيما يقول النصارى بألوهية المسيح، فكيف يجمعون بين عبوديته لله وألوهيته في وقت واحد.
وهذا العبد قبيح في منظره، مخذول محتقر لا يعتد به، فهو ليس المسيح على أي حال" 13 هُوَذَا عَبْدِي
…
كَانَ مَنْظَرُهُ كَذَا مُفْسَدًا أَكْثَرَ مِنَ الرَّجُلِ، وَصُورَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ بَنِي آدَمَ
…
لَا صُورَةَ لَهُ وَلَا جَمَال فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَلَا مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيَهُ. 3 مُحتقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحتقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ." (إشعياء 52/ 13، 53/ 1)، أفهذه صورة المسيح عندهم؟ .
والنص أيضًا يتحدث عن الذي "وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ."(إشعياء 53/ 7)، بينما المسيح تكلم مرارًا وتكرارًا، فقد تكلم طويلًا في البستان، وهو يناجي، طالبًا من الله أن يعبر عنه هذه الكأس
…
ثم نطق فقال لبيلاطس أثناء محاكمته: "أَنْتَ تَقُولُ: إِنِّي مَلِكٌ. لهِذَا قَدْ وُلدْتُ أَنَا، وَلهِذَا قَدْ
أتيْتُ إِلَى الْعَالمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي"."(يوحنا 18/ 37).
وكان قد قال له قبل: " "مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هذَا الْعَالمِ، لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لَا أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. وَلكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا"."(يوحنا 18/ 36).
كما تكلم في المحاكمة لما لطمه أحد الخدم فأجابه المسيح: ": "إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيًّا فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ، وَإِنْ حَسَنًا فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟ ""(يوحنا 18/ 22).
فإن أصر النصارى بعد ذلك على أن النبوءة تنطبق على المسيح، فقد قالوا إذًا بأن المسيح تكلم وهو مغلق الفم! ! !
كما يذكر نص إشعيا شجاعة وتماسكًا لا تتناسب وصراخ المصلوب، وجزعه، وقنوطه، فالمصلوب لم يظهر كشاة أمام جازيها صامتة، "وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ"، بل كان يصرخ على الصليب:"إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا ترَكْتَنِي؟ "(متى 27/ 46).
والنص متحدث عن صاحب نسل وولد، فيقول:"يَرَى نَسْلًا تَطُولُ أَيَّامُهُ"(إشعياء 53/ 10)، وقد سُرّ الرب بعذابه وبالعاهات التي تصيبه "10 أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالحزَنِ."، والنص في النسخة الكاثوليكية يفسر الحزن بالعاهات، فيقول:"والرب رضي أن يسحقه بالعاهات"، وفي نسخة الرهبانية اليسوعية:"والرب رضي أن يسحق ذاك الذي أمرضه"، فهل يُسَرُّ الله لأحزان عبده البار، المسيح عليه السلام، وهل كان المسيح مصابًا بعاهة من العاهات أو مرض من الأمراض؟
ويرى الأستاذ محمد الأفندي (1) أن لا علاقة بين هذا الإصحاح في إشعيا، وبين حادثة الصلب، فالإصحاح يتحدث عن قصة بني إسرائيل، وذلهم في بابل بسبب معاصيهم ومعاصي سلفهم، فحاق بهم عقوبة الله التي عمّت صالحيهم وفجارهم، ثم أنعم الله عليهم بالعود من بابل مرة أخرى إلى فلسطين، وهذا المعنى هو ما كان يتحدث عنه السياق التوراتي في سفر إشعيا.
وقوله: "13 هُوَذَا عَبْدِي
…
كَانَ مَنْظَرُهُ كَذَا مُفْسَدًا أَكْثَرَ مِنَ الرَّجُلِ، وَصُورَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ بَنِي
(1) انظر: عقيدة الصلب والفداء، محمد رشيد رضا (106 - 122، 196)، فقد ضمنه كتاب الأفندي.
آدَمَ
…
لَا صُورَةَ لَهُ وَلَا جَمَال فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَلَا مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيَهُ" فالمقصود بالعبد شعب إسرائيل.
وقد عُهد في التوراة إطلاق لفظ الفرد، والمراد الشعب كما في إشعيا:"خَالِقُكَ يَا يَعْقُوبُ وَجَابِلُكَ يَا إِسْرَائِيلُ: "لَا تَخَفْ لأَنِّي فَدَيْتُكَ. دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ. أَنْتَ لِي. 2 إِذَا اجْتَزْتَ فِي الميَاهِ فَأَنَا مَعَكَ، وَفِي الأَنْهَارِ فَلَا تَغْمُرُكَ. إِذَا مَشَيْتَ فِي النَّارِ فَلَا تُلْذَعُ، وَاللهيبُ لَا يُحْرِقُكَ. 3 لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ، مُخِّلِّصُكَ. جَعَلْتُ مِصْرَ فِدْيَتَكَ، كُوشَ وَسَبَا عِوَضَكَ." (إشعيا 43/ 1 - 3)، وفي سفر ميخا: " 12"إِنِّي أَجْمَعُ جَمِيعَكَ يَا يَعْقُوبُ."
(ميخا 2/ 12)، ومثله في مواضع كثيرة، منها (إشعيا 41/ 8) و (ميخا 1/ 5)، والمقصود من ذلك كله شعب إسرائيل.
وفي إشعيا (52، 53) يتنبأ النبي عن غربة بني إسرائيل ويصف ذلتهم، ثم يتحدث عن عودة أبنائهم من أرض السبي "2 نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْق مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ" فقد عادوا للأرض المقدسة، ونبتوا فيها، من جديد، كما في سفر النبي إرمياء" 6 وَأَجْعَلُ عَيْنَيَّ عَلَيْهِمْ لِلْخَيْرِ، وَأُرْجِعُهُمْ إِلَى هذ الأَرْضِ، وَأَبْنِيهِمْ وَلَا أَهْدِمُهُمْ، وَأَغْرِسُهُمْ وَلَا أَقْلَعُهُمْ."(إرمياء 24/ 6)، وقوله:"41 وَأَفْرَحُ بِهِمْ لأُحْسِنَ إِلَيْهِمْ، وَأَغْرِسَهُمْ فِي هذ الأَرْضِ بِالأَمَانَةِ بِكُلِّ قَلْبِي وَبِكُلِّ نَفْسِي."(إرمياء 32/ 41).
وقد تغيرت صورتهم بسبب الذل فكان الشعب" 3 مُحتقَرٌ وَمَخْذُولٌ
…
وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا." ويفسره قول إرميا وقد شاهد الأسر البابلي: "7 آبَاؤُنَا أَخْطَأُوا وَلَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ، وَنَحْنُ نَحْمِلُ آثَامَهُمْ. 8 عَبِيدٌ حَكَمُوا عَلَيْنَا. لَيْسَ مَنْ يُخَلِّصُ مِنْ أَيْدِيهِمْ. 9 بِأَنْفُسِنَا نَأْتِي بِخُبْزِنَا مِنْ جَرَى سَيْفِ الْبَرَّيَّةِ. 10 جُلُودُنَا اسْوَدَّتْ كَتَنُّورٍ مِنْ جَرَى نِيرَانِ الْجُوعِ." (المراثي 5/ 7 - 10).
وقوله: "7 ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فتَذَلَّلَ" كقول سفر إشعيا عن اضطهاد بني إسرائيل على يد الآشوريين: ""إِلَى مِصْرَ نَزَلَ شَعْبِي أَوَّلًا لِيَتَغَرَّبَ هُنَاكَ. ثُمَّ ظَلَمَهُ أَشُّورُ بِلَا سَبَبٍ." (إشعيا 52/ 4)، وكقوله: "إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَنِي يَهُوذَا مَعًا مَظْلُومُونَ" (إرميا 50/ 33).
وأما قوله: "كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ
…
" فهو حديث ذبح ملك بابل لبني إسرائيل، وقد ساقهم كما تساق الشياه إلى الذبح، كما في قوله: "40 أُنَزِّلُهُمْ كَخِرَافٍ لِلذَّبْحِ وَكَكِبَاشٍ مَعَ أَعْتِدَةٍ." (إرميا 51/ 40) فمات أكثرهم جوعًا، ونحوه قوله عنهم: "19 وَأَنَا كَخَرُوفِ دَاجِنٍ يُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُمْ فَكَّرُوا عَلَيَّ أَفْكَارًا، قَائِلِينَ:"لِنُهْلِكِ الشَّجَرَةَ بِثَمَرِهَا، وَنَقْطَعْهُ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ، فَلَا يُذْكَرَ بَعْدُ اسْمُهُ"." (إرميا 11/ 19).
وقوله: "9 وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ. "إشارة إلى أن دفنهم في بابل كان مع الوثنيين، ولا يمكن للنصارى حمله على المسيح المدفون -حسب كتابهم- وحده في بستان، في قبر جديد، لم يدفن فيه معه لا شرير ولا غني.
وقوله: "وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ" هو أيضًا يحكى عن وجود بني إسرائيل مع الوثنيين في بابل، ولا يصح أن يقال: الأثمة هما اللصان، إذ قد وعد أحدهما الفردوس، فكيف يوصف بعد ذلك بالآثم؟ !
وقوله: "يَرَى نَسْلًا تَطُولُ أَيَّامُهُ"، وفي النسخة الكاثوليكية يتضح المعنى أكثر:"والرب رضي أن يسحقه بالعاهات، فإنه إذا جعل نفسه ذبيحة إثم يرى ذرية، وتطول أيامه"، وفي الترجمة التفسيرية المسماة كتاب الحياة:"فقد سُر الله أن يسحقه بالحزن، وحين يقدم نفسه ذبيحة إثم فإنه يرى نسله وتطول أيامه"، فالنص كما هو واضح ليس حديثًا عن المسيح الفادي، بل هو إشارة إلى تكفير الله خطايا بني إسرائيل بسبب توبتهم، حيث يرفع الله عنهم الاضطهادات، ويعيدهم إلى وطنهم، حيث تطول أيامهم ويعيشون ويتوالدون في فلسطين بعد السبي وآلامه وعاهاته وبلاياه.
وقوله: "عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْمًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ. "حديث عن طهر أولئك الذين يعودون من السبي الذين عنهم" يَقُولُ الرَّبُّ، لأَنِّي أَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِمْ، وَلَا أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْدُ."(إرمياء 31/ 34)، كما قال عنهم: "7 وَأَرُدُّ سَبْيَ يَهُوذَا وَسَبْيَ إِسْرَائِيلَ وَأَبْنِيهِمْ كَالأَوَّلِ. 8 وَأُطَهِّرُهُمْ مِنْ كُلِّ إِثْمِهِمِ الَّذِي أَخْطَأُوا بِهِ إِلَيَّ، وَأَغْفِرُ كُلَّ ذُنُوبِهِمِ الَّتِي أَخْطَأُوا بِهَا