الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليها، ولعل ذلك كان أول ما تقررت تلك القاعدة:(الغاية تشفع للوسيلة). (1)
ثانيًا: استبداد الكنيسة بفهم الكتب المقدسة
ولقد احتجزت الكنيسة لنفسها الحق في فهم الكتب المقدسة عندهم، واستبدت بتفسيرها دون سائر الناس، ولا معقب لما تقول في هدا التفسير، أو في رأي تبديه، أو أمر تعلنه، وعلى الناس أن يتلقوا قولها بالقبول وافق العقل أو خالفه، وعلى المسيحي إذا لم يستسغ عقله قولا قالته أو مبدأ دينيًا أعلنته أن يروض عقله على قبوله، فإن لم يستطع، فعليه أن يشك في العقل، ولا يشك في قول البابا.
ولقد كانت تعلن أمورًا ما جاء بها الكتاب المقدس عندهم، وما تعرض له المسيحيون الأولون، ولا المجامع الأولى، وهي أمور غريبة جد الغرابة، بعيدة عن القبول في أحكام العقل جد البعد، وتلزم المسيحيين بها، وتفرضها عليهم فرضًا، ومن قال كلمة فيها فالويل له ينزلونه به في الدنيا ولا ينتظرون حساب الديان في الآخرة.
ونذكر القارئ على سبيل المثال بمسألتين كان لها أثر في الفكر المسيحي، وبسببهما عما وغيرهما تقدم المصلحون في جرأة داعين إلى إصلاح الكنيسة بالحسنى أو بغير الحسنى. هاتان المسألتان هما مسألة الاستحالة ومسألة الغفران.
أما مسألة الاستحالة فالأساس فيها ما علمت في شرح الشعائر النصرانية، من أن المسيحيين يأكلون يوم الفصح خبزًا ويشربون خمرًا، ويسمون ذلك العشاء الرباني، ولقد زعمت الكنيسة أن ذلك الخبز يستحيل إلى جسد المسيح، وذلك الخمر يستحيل إلى دم المسيح المسفوك، فمن أكلهما وقد استحالا هذه الاستحالة فقد أدخل المسيح في جسده بلحمه ودمه، وذلك أمر غريب في العقل، لا يستطيع أن يستسيغه أحد بيسر وسهولة، بل لا يستطيع أن يستسيغه قط. إذ كيف يتحول الخبز لحمًا، وكيف يصير لحم شخص معين معروف. وكيف تتحول الخمر دما، وتصير دم شخص معين معروف؟ ذلك غريب بل
(1) مجلة المنار (5/ 401).
مستحيل التصور والقبول في العقل، ولكن الكنيسة فرضت على الناس قبوله ومنعتهم من منقاشته، وإلا عرضوا للطرد والحرمان. وهل ورد هذا الأمر في الكتب المقدس، حتى يجب الأخذ به من غير تفسير أو تأويل؟ إنه أمر استقلت به الكنيسة وأعلنته وأبدته في أحد مجامعها، غير معتمدة في ذلك على نص صريح من الكتب المقدسة عندهم.
ولقد خالفت في بعض شأنه الكنيسة الكاثوليكية غيرها من الكنائس، فالكنيسة الشرقية ترى أن العشاء الرباني لا يكون بالفطير، بينما تراه الكنيسة اللاتينية، ووجد من أحرار الفكر من ينكرون هذه الاستحالة، ويعتقدون أنها غير ممكنة في العقل ولا سائغة في الفكر.
أما المسألة الثانية وهي مسألة امتلاك الكنيسة حق الغفران للمسيء في الدنيا فقد قررته الكنيسة حقًّا لنفسها في المجمع الثاني عشر أيضًا.
وقد جاء في كتاب تاريخ الكنيسة في بيان قرار المجمع في هذا الشأن: (أنهى المجمع تعليمه فيما يتعلق بأمر الغفران) فقال: (إن يسوع المسيح ما كان قد قلد الكنيسة سلطان منح الغفرانات، وقد استعملت الكنيسة هذا السلطان الذي نالته من العلا منذ الأيام الأولى، قد أعلم المجمع المقدس، وأمر بأن تحفظ للكنيسة في الكنيسة هذه العملية الخلاصية للشعب المسيحي، المثبتة بسلطان المجامع).
ثم ضرب بسيف الحرمان من يزعمون أن الغفرانات غير مفيدة، أو ينكرون على الكنيسة سلطان منحها، غير أنه قد رغب في أن يستعمل هذا السلطان باعتدال واحتراس حسب العادة المحفوظة قديمًا، والمثبتة في الكنيسة، لئلا يمس التهذيب الكنسي تراخ بفرط التساهل.
هذا قرار المجمع، وفيه تمكين للكنيسة من سلطان قوي جبار، وهو سلطان مسح الذنوب، وغفرانها مهما يكن مقدارها، ومهما تكن قد دنست النفس، وأرهقت القلب، ولكنه قد أوصى الكنيسة بالاعتدال والاحتراس، حتى لا يؤدي الإفراط في منح الغفران إلى ترك التهذيب الديني، وهجر تعاليم الكنيسة، والعبث بهدى الدين، فهل أخذت الكنيسة بما أعطاها المجمع، وراعت حق الرعاية ما أوصاها به من عدم الإفراط في
الإعطاء والمنح؟ لقد أتى حين من الدهر من بعد أن أعطى رجال الدين أنفسهم ذلك الحق، أن أفرطوا في إعطائه إفراطًا شديدًا وأنشأوا صكوكًا تباع وتشترى، فباعوها كأنها عرض من أعراض الدنيا، ومتعة من متاعها، وبذل العصاة في سبيلها المال، وما كان عليهم من حرج في أن يرتكبوا ما شاءوا من الموبقات، وينالوا ما تهوى الأنفس من معاص. . ما دام ذلك يفتدى بمال قل أو جل، وهذا نص صك الغفران الذي بياع بيع السلعة، وإليك صورة من صك الغفران:
(ربنا يسوع المسيح يرحمك يا فلان، ويحلك باستحقاقات آلامه الكلية القداسة، وأنا بالسلطان الرسولي المعطى لي أحلك من جميع القصاصات، والأحكام والطائلات الكنسية التي استوجبتها، وأيضًا من جميع الأفراط والخطايا والذنوب التي ارتكبتها مهما كانت عظيمة وفظيعة، ومن كل علة، وإن كانت محفوظة لأبينا الأقدس البابا، والكرسي الرسولي، وأمحو جميع أقذار المذنب وكل هلامات الملامة التي ربما جلبتها على نفسك في هذه الفرصة، وأرفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها في المطهر، وأردك حديثًا إلى الشركة في أسرا الكنيسة، وأقرنك في شركة القديسين، وأردك ثانية إلى الطهارة والبر اللذين كانا عند معموديتك، حتى أنه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي يدخل منه الخطاة إلى محل العذاب والعقاب، ويفتح الباب الذي يؤدي إلى فردوس الفرح، وإن لم تم سنين مستطيلة فهذه النعمة تبقى غير متغيرة، حتى تأتي ساعتك الأخيرة باسم الآب والابن والروح القدس).
هذه صورة من صور صك الغفران تذكر أنها تمحو الآثام، وتغفر ذنوب العاصي ما تقدم منها وما تأخر تغسله من ذنوبه الماضية حتى يصير طاهرًا، ثم لا يصير قابلًا لأن تؤثر فيه الذنوب مهما يرتكب من خطايا، ومهما ينغمس في المعاصي. كأن ذلك الصك جواز المرور إلى النعيم المقيم، لا يعوق حامله عائق، ولا يرده عن الوصول خازن أو حارس.
هذا ما يدل عليه الصك، وهذا ما كانت تحاول الكنيسة أن تلقيه في روع الناس تمكينًا لسلطانها، ورغبة في نقودهم التي يبذلونها للكنيسة في سبيل الحصول على ذلك الصك