الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصلب غيره. (1)
المبحث الخامس: عدم تنبؤ المسيح بصلبه
.
تتحدث الأناجيل الأربعة عن صلب المسيح، كخاتمة لوجوده على الأرض، ولكن: هل تنبأ المسيح بأنه سيصلب؟ وهل عرف بذلك تلاميذه؟
لا تخطئ عين الناظر في الأناجيل أن ترى أن الإنجيليين نقلوا عن المسيح تنبؤه بتعرضه لمؤامرة تودي به إلى الموت والصلب، فهل تصح هذه الأقوال في نسبتها إلى السيد المسيح؟
الحقيقة أن خبر تنبؤ المسيح بقتله أو صلبه (انظر متى 17/ 22 و 20/ 16، 26/ 2، 26/ 23)، قول دخيل على الأناجيل، ملحق بها، والأدلة على ذلك تتضح باستقراء عدد من الملاحظات التي يقوي بعضها بعضًا:
1 -
أن العبارة في إنجيل متى والتي يخبر فيها المسيح عن مؤامرة يتعرض لها ابن الإنسان وتودي به إلى الموت وردت بلا مقدمة، ولا مناسبة، ولا تعليق عليها من قبل الحواريين، حتى وكأنها تتحدث عن حدث عادي، فلئن صحت، دل ذلك على أن ابن الإنسان المصلوب المسلّم لأيدي الخطاة، هو غير المسيح.
تتحدث المواضع الأربعة -التي ذكرت تنبؤه بالموت- عن تسليم ابن الإنسان، وقتله أو صلبه، ولا تنص على عيسى، لكن اللفظ -وإن تبادر في الذهن إلى المسيح -فإنه يصح أن يطلق على غيره، بدليل أنهم سألوه عن ابن الإنسان مَن هو بقولهم:"فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ ابْنُ الإِنْسَانِ؟ مَنْ هُوَ هذَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟ "" (يوحنا 12/ 34) ولو كان هذا اللقب بالمسيح خاصًّا لما كان في سؤالهم وجه.
يقترن وصف الأناجيل الثلاثة لردة فعل التلاميذ حيال هذا الخبر بكثير من الغرابة، ففي متى (26/ 1 - 2) لم يذكر لهم حسًا ولا خبرًا، بيد أنه في (متى 26/ 23) ذكر بأنهم "حَزِنُوا جِدًّا"، ويفهم منه أنهم فهموا مراده فحزنوا، لكن مرقس يقول: "32 وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ
(1) انظر: هل افتدانا المسيح على الصليب؟ ، منقذ السقار (33 - 34).
يَفْهَمُوا الْقَوْلَ، وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ." (مرقس 9/ 32)، ويؤكد لوقا هذا بقوله: "34 وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْ ذلِكَ شَيْئًا، وَكَانَ هذَا الأَمْرُ مُخْفىً عَنْهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا قِيلَ.".
وإضافة إلى تناقض النصوص، فإن في خوف التلاميذ من المسيح وترددهم في سؤاله ما يدعو للعجب، فقد عرف عليه الصلاة والسلام بدمائة خلقه، وبتحببه لهم، حتى إنه غسل أرجلهم، وكثيرًا ما كانوا يسألوه، فِلمَ لم يسألوه في هذا الأمر الخطير؟
2 -
ذكر الإنجيليون الثلاثة الذين ذكروا الخبر بأن المسيح سيقوم في اليوم الثالث (انظر متى 17/ 23، مرقس 9/ 32، لوقا 18/ 33)، وهذا لم يحصل، بل مكث ما لا يزيد بحال عن ليلتين ويوم.
3 -
ومما يدل على عدم صحة التنبؤ بالصلب والقتل: فرار التلاميذ، وفيهم بطرس الذي قال له المسيح:"32 وَلكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لَا يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ". 33 فَقَال لَهُ: "يَارَبُّ، إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى السِّجْنِ وَإِلَى المَوْتِ! "." (لوقا 22/ 32 - 33)، فدل هذا على معرفتهم بأن المأخوذ غيره، كما قد عرفوا ذلك فهربوا، وقد قال عنهم المسيح: "الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي حَفِظْتُهُمْ، وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا ابْنُ الْهَلَاكِ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ." (يوحنا 17/ 12).
ثم بعد ذلك ولأن أمر المصلوب لا يهمهم وقد عرفوا بنجاة سيدهم لم يهتموا بمتابعة المصلوب وهو على الصليب، أو في أثناء المحاكمة، إلا ما جاء عن بطرس ويوحنا وبعض النسوة.
4 -
كما تذكر الأناجيل دليلًا آخر يشهد على عدم صحة هذه النبوءات المتنبئة بصلب المسيح، بل تدلل على أن المسيح تنبأ بنجاته، وأن التلاميذ فهموا منه ذلك قول مرقس أن المسيح قال لتلاميذه:": "إِنَّ كُلَّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هذ اللَّيْلَةِ" (مرقس 14/ 27).
هذا ولا تذكر الأناجيل شيئًا عن شك التلاميذ، سوى ما ذكرته عن بطرس الذي أنكر المأخوذ ثلاث مرات ليلة المحاكمة، وأما الآخرون فصمت مطبق، فكيف شك التلاميذ؟
لقد شك التلاميذ في المسيح وهم يرون المأخوذ من البستان (يهوذا) وقد قبض عليه،
وظنوه المسيح، فوقعوا فيما حذرهم منه المسيح، وهو الشك فيه، لقد كان أخبرهم بنجاته من المؤامرة ثم يرون أنه قد أخذ ولم ينج.
ويوضح العلامة أحمد عبد الوهاب هذه المسألة، فيقول بأن الشك هو تراجع داخل النفس، ويستشهد لتفسيره بما جاء في غير الترجمة العربية، فالنص في التراجم الأخرى تعريبه هكذا:"كلكم ترتدون عن عقيدتكم وتزلون".
ويفرق بين الإنكار والشك، فالشك عمل قلبي، والإنكار: قد ينكر الإنسان بلسانه ما يعتقده في قلبه، والذي وقع من التلاميذ شك لا إنكار. فلقد آمن التلاميذ بالمسيح، وصدقوه فيما تنبأ به، فإذا رأوا ما اعتبروه مخالفًا لنبوءاته، فسوف يحصل منهم الشك، والردة عن العقيدة.
ويورد الأستاذ أحمد عبد الوهاب احتمالين:
الأول: أن يكون المسيح قد تنبأ لتلاميذه بأن مؤامرة ستدبر ضده، وستُحدث له ألمًا ومعاناة، إلا أنها ستفشل، وسينقذه الله من القتل، كما في قوله:"سَتَطْلُبُونَنِي وَلَا تَجِدُونَنِي"(يوحنا 7/ 36). وهذا الذي حصل ولم يشاهده التلاميذ، بل هم قد رأوا ما حسبوه وظنوه نقيضَه، فقد رأوا المسيح مأخوذًا مصلوبًا، فوقعوا في الشك فيه، لأن كلامه لم يتحقق، وهذا هو الصحيح.
والآخر: أن المسيح تنبأ بأن المؤامرة ستنتهي بقتله، وليس هناك ما يدعو للشك والارتياب حسب هذه الصورة، سواء تحقق قوله أم لم يتحقق، إذ تحققه تصديق لقوله، وتخلُفه إكرام من الله له وحفظ ورعاية.
وهذا الفرض خاطيء، ويدحضه العود إلى لحظة القبض على المسيح، حيث نجد أن التلاميذ جميعا قد هربوا، وتركوا المسيح وحده. ويبدو هنا شكهم واضحًا، لقد حصل أمام التلاميذ ما لم يتوقعوه -فيما يظهر لهم-، أي ما لم يتنبأ به المسيح.
فلئن كان أخبرهم بأن سيُقبض عليه وسيقتل، فليس ثمة ما يثير الشك، وإن كان
الاحتمال الأول بأنه سينجو، وأن المؤامرة ستفشل، ولكنهم يجدونه -فيما يظهر لهم- قد قبض عليه، ولم تتحقق نبوءته، فحيئذ وقعوا في الشك. (1)
ويؤكد العلامة ديدات على قرينة وحدة أفعال الله، لإبطال صلب المسيح والحكم بنجاته، فقد نجى الله النبي دانيال، وإبراهيم، والفتية الثلاثة الذين ألقوا في النار.
أما نجاة إبراهيم، فقد ذكرت في قوله تعالى:{قَالوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} (الأنبياء: 68 - 70).
وأما دانيال، فقد ألقاه الملك في جُبٍّ مع الأُسود، وختم الجب بخاتمه، ثم لما فتحه ناداه:" "يَا دَانِيآلُ عَبْدَ الله الْحَيِّ، هَلْ إِلهُكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ دَائِمًا قَدِرَ عَلَى أَنْ يُنَجِّيَكَ مِنَ الأُسُودِ؟ " 21 فتكَلَّمَ دَانِيآلُ مَعَ الْمَلِكِ:"يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ، عِشْ إِلَى الأَبَدِ! 22 إِلهِي أَرْسَلَ مَلَاكَهُ وَسَدَّ أَفْوَاهَ الأُسُودِ فَلَمْ تَضُرَّني، لأَنِّي وُجِدْتُ بَرِيئًا قُدَّامَهُ، وَقُدَّامَكَ أَيْضًا أَيُّهَا الْمَلِكُ، لَمْ أَفْعَلْ ذَنْبًا". 23 حِينَئِذٍ فَرِحَ الْمَلِكُ بِهِ، وَأَمَرَ بِأَنْ يُصْعَدَ دَانِيآلُ مِنَ الْجُبِّ. فَأُصْعِدَ دَانِيآلُ مِنَ الْجُبِّ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ ضَرَرٌ، لأَنَّهُ آمَنَ بِإِلهِهِ. 24 فَأَمَرَ الْمَلِكُ فَأَحْضَرُوا أُولئِكَ الرِّجَال الَّذِينَ اشْتَكَوْا عَلَى دَانِيآلَ وَطَرَحُوهُمْ فِي جُبِّ الأُسُودِ هُمْ وَأَوْلَادَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ. وَلَمْ يَصِلُوا إِلَى أَسْفَلِ الْجُبِّ حَتَّى بَطَشَتْ بِهِمِ الأُسُودُ وَسَحَقَتْ كُلَّ عِظَامِهِمْ." (دانيال 6/ 15 - 24).
وأما الفتية الثلاثة فقد أُلقوا في النار، ولكن "لَمْ تَكُنْ لِلنَّارِ قُوَّةٌ عَلَى أَجْسَامِهِمْ، وَشَعْرَةٌ مِنْ رُؤُوسِهِمْ لَمْ تَحْتَرِقْ، وَسَرَاوِيلُهُمْ لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَرَائِحَةُ النَّارِ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِمْ"(دانيال 3/ 27).
ومما يؤكد استجابة الله للمسيح: ظهور ملاك له ليقويه (انظر لوقا 22/ 43) فهل كان ذلك الملاك يضحك عليه ويهزأ به، أم يعينه فينجيه؟
وهذا الأخير هو ما يليق بعدل الله ورحمته، فقد استجاب الله للمسيح فأنجاه، وصلب
(1) انظر: المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب (138 - 139، 147 - 148)، المناظرة الإسلامية النصرانية (89 - 90).