الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلَامًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلامًا بَلْ سَيْفًا. فَإِنِّي جِئْتُ لأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ، وَالابْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا، وَالْكَنّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا. وَأَعْدَاءُ الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ.
وقد صرح في عدة مواضع من الإنجيل أن الإخلال بشيء من محبة المسيحية أو بالانقياد إلى جميع ما أوصى به موجب للهلاك، وإن كان قد جاء في مواضع كثيرة أن الإيمان وحده كاف في الخلاص، غير أن روح الشدة التي جاءت في قوله:(لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا الخ) هي التي بقي أثرها في نفوس الأولين من المعتقدين بالدين المسيحي وعفت على آثار ما كان يصح أن تستشعره النفوس من بعض الوصايا الآخر.
نتائج هذه الأصول وآثارها
أولًا: الإعراض عن النظر في الكون والاستفادة منه بالتعلم:
هنا أعرض المسيحيون الأولون عن شواغل الكون وصدوا عن سبيل النظر فيه إظهارًا للغنى بالإيمان والعبادة عن كل شيء سواهما، وحجروا على همم النفوس أن تنهض إلا إلى الدعوة إلى ذلك الإيمان وتلك العبادة، ووسائل الدعوة هي الإيمان والعبادة كذلك، فإذا نزعت العقول إلى علم شيء من العالم وضعوا أمام نظرها كتب العهد القديم وحصروا العلم بين دفاتها استغناء بالوحي عن كل عمل للعقل سوى فهمه من عباراته، وليس يسوغ لكل ذي عقل فهمه، بل إنما يتلقى فهمه من رؤساء الكنيسة، خوفًا من الزيغ عن الإيمان السليم (البروتستانت رأوا أنه يجوز لغير الكنيسة تفسير الكتاب المقدس).
ثم إن إلقاء السيف ووضع التفريق بين الأقارب والأحبة إنما جاء حافظًا لذلك كله، فإذا خطر على قلب أحد خاطر سوء يرمي إلى معارضة شيء من أمور الإيمان المقررة وجب قطع الطريق على ذلك المخاطر ولم يجز في شأن صاحبه هوادة ولا مرحمة، كما أفهمه المسيح بعمله، على حسب ما ورد في الإنجيل، فقد قيل له:(هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجًا طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوكَ". فَأَجَابَ وَقَال لِلْقَائِلِ لَهُ: "مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتي؟ " ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ تَلَامِيذه وَقَال: "هَا أُمِّي وَإِخْوَتي.) ونحو ذلك مما يدل على وجوب المقاطعة بين من يعتقد بالدين المسيحي ومن يحيد عن شيء من معتقد. ولا يخفى أن الشيء يكون
بذرة ثم نبتًا ثم شجرًا، فانظر إلى ما صار أمر هذه البدايات بحكم الطبيعة.
وقر في نفوس المسيحيين أن السلامة في ترك الفكر والأخذ بالتسليم وتقرر عند القوم قاعدة: (إن الجهالة أم التقوى) فحصروا التعليم في الأديار، ومنعت الكنيسة أن ينشر التعليم بين العامة إلا ما كان دعوة إلى الصلاح وتقرير الإيمان على وجه ظاهر. ويبقى غير القسيسين في جهالة حتى بأمور الدين وحقائقه وأسراره.
لم يكن يسمح لأحد أن يبدي رأيا يخالف صريح ما في الكتاب ولذلك صور كثيرة نذكر منها:
أ - عندما أظهر بلاج رأيه في أن الموت كان يوجد قبل آدم أي إن الحيوانات كان يدركها الموت قبل أن يخطئ آدم بالأكل من الشجرة، قام لذلك ضوضاء وارتفعت جلبة وانتهى الجدال والجلاد إلى صدور أمر إمبراطوري بقتل كل شخص يعتقد ذلك. يقول المؤرخ: وهكذا عد الاعتقاد بأن الموت كان يزور الأحياء قبل آدم جريمة على الملك.
ب - أحرقت كتب البطالسة والمصريين بالأسكندرية قال أوروسيوس المؤرخ: إنه رأى أدراج المكتبة خالية من الكتب بعد أن نال تيوفيل الأمر الإمبراطوري بإتلافها بنحو عشرين سنة.
ج - ثم جاء تيوفيل ابن أخته سيريل وكان خطيبًا مفوهًا له على الشعب سلطان بفصاحته. وكان في الإسكندرية بنت تسمى هيباتي الرياضية تشتغل بالعلوم والفلسفة، وكان يجتمع إليها كثير من أهل النظر في العلوم الرياضية، وكان لا يخلو مجلسها من البحث في أمور أخرى، خصوصًا في هذه المسائل الثلاث: من أنا؟ وإلى أين أذهب؟ وماذا يمكنني أن أعلم؟ فلم يحتمل ذلك القديس سيريل، مع أن البنت لم تكن مسيحية بل كانت على دين آبائها المصريين فأخذ يثير الشعب عليها حتى قعدوا لها وقبضوا عليها في الطريق سائرة إلى دار ندوتها. وجردوها من ثيابها وأخذوها إلى الكنيسة مكشوفة العورة وقتلوها هناك، ثم قطع جسمها وجرد اللحم عن العظم وما بقي منها ألقي في النار: يقول المؤرخ راوي هذه القصة: ولم يسأل سيريل عما صنع بهيباتي ولم تنظر الحكومة الرومانية فيما وقع