الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والإخلاص له لم يكن شيء قط عنده أحلى من ذلك ولا أطيب ولا ألذ ولا أقنع، فإذا ذاق طعم الإخلاص وقوى في قلبه انقهر له هواه بلا علاج، فالله يصرف عن عبده ما يسوءه من الميل إلى المحرمات بإخلاصه لله، قال الله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، والقلب خلق يحب الحق ويريده ويطلبه، فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك فإنه يفسد القلب كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من الدغل (1).
المؤمن يحب الله لذاته:
فطريق أهل العلم والإيمان الذين عقلوا عن الله أمره ودينه وعرفوا مراده بما أمرهم ونهاهم عنه، وهي أن نفس معرفة الله ومحبته وطاعته والتقرب إليه وابتغاء الوسيلة إليه أمر مقصود لذاته، وأن الله سبحانه يستحقه لذاته، وهو سبحانه الحبوب لذاته الذي لا تصلح العبادة والمحبة والذل والخضوع والتأله إلا له فهو يستحق ذلك؛ لأنه أهل أن يعبد ولو لم يخلق جنة ولا نارًا ولو لم يضع ثوابًا ولا عقابًا، وهو غاية سعادة النفس وكمالها والنفس إذا فقدت ذلك كانت بمنزلة الجسد الذي فقد روحه وحياته (2).
فالله عز وجل فطر عباده على الحنيفة المتضمنة لكمال حبه والخضوع له والذل له وكمال طاعته وحده دون غيره وهذا من الحق الذي خلقت له، وبه قامت السموات والأرض وما بينهما، وعليه قام العالم، ولأجله خلقت الجَنَّة والنار، ولأجله أرسل رسله وأنزل كتبه، ولأجله أهلك القرون التي خرجت عنه وآثرت غيره، فكونه سبحانه أهلًا أن يُعبد ويُحب ويُحمد وُيثنى عليه أمر ثابت له لذاته، فلا يكون إلا كذلك، فهو سبحانه الإله الحق المبين والإله هو الذي يستحق أن يوله محبةً وتعظيمًا، فهو الإله الحق، ولو لم يخلق خلقه وهو الإله الحق، ولو لم يعبدوه فهو المعبود حقًّا إلا له حقًّا المحمود حقًّا، ولو قدر أن خلقه لم يعبدوه ولم يحمدوه ولم يألهوه، فهو الله الذي لا إله إلا هو قبل أن يخلقهم وبعد أن خلقهم وبعد أن يغنيهم.
(1) مجموعة التوحيد لابن تيمية (424: 420).
(2)
مفتاح دار السعادة لابن القيم 2/ 416.
ولا ريب أن كمال العبودية تابع لكمال المحبة، فإن القلوب لا يكون شيء أحب إليها منه ما دامت فطرها وعقولها سليمة، فلا ريب أن محبته توجب عبوديته وطاعته وتتبع مرضاته واستفراغ الجهد في التعبد له والإنابة إليه وهذا الباعث أكمل بواعث العبودية وأقواها حتى لو فرض تجرده عن الأمر والنهي والثواب والعقاب (1).
فعبد الله من يرضيه ما يرضى الله وشمخطه ما يسخط الله ويحب ما أحب الله ورسوله، فجعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول والجهاد في سبيله، وذلك لأن الجهاد حقيقة الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان، ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالبًا إلا باحتمال المكروهات (2).
فكلما ازداد القلب حبًا لله ازداد له عبودية وحرية عما سواه، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبًا وحرية عما سواه، فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا يسر ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن، ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده، ومحبوبه، ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة، وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله فهو دائما مفتقر إلى حقيقة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3).
ولن يخلص العبد من آلام الدنيا ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب لله، بحيث يكون الله هو غاية مراده ونهاية مقصوده، وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله لا يحب شيئًا لذاته إلا لله، ومتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة لا إله إلا الله، ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة لله، وكان فيه من نقص التوحيد والإيمان، فكلما قوى إخلاص دينه لله كملت عبوديته لله واستغناؤه عن الخلق، فمن كان الله يحبه استعمله فيما يحبه، ومحبوبه لا
(1) مفتاح دار السعادة لابن القيم 2/ 441: 440.
(2)
مجموعة التوحيد لابن تيمية (428: 425).
(3)
المصدر السابق.
يفعل ما يبغضه الحق ويسخطه من الكفر والفسوق والعصيان، ومن فعل الكبائر وأصر عليها ولم يتب منها فإن الله يبغض منه ذلك، ومن ظن أن الذنوب لا تضره لكون الله يحبه مع إصراره عليها كان بمنزلة من زعم أن تناول السم لا يضره مع مداومته عليه وعدم تداويه منه بصحة مزاجه، فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب (1).
فاتباع الشريعة والقيام بالجهاد من أعظم الفروق بين أهل محبة الله وأوليائه الذين يحبهم ويحبونه وبين من يدعى محبة الله، فالدين الحق تحقيق العبودية لله بكل وجه وهو تحقيق محبة الله بكل درجة وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه وتكمل محبة الرب لعبده، وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا (2).
فإن من باشر قلبه الإيمان بقيام الله عليه ورؤيته له وتحريمه لما حرم عليه وبغضه له ومقته لفاعله، وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب والجنة والنار عمل بموجب هذا العلم، ومن ظن أنه يقوى ما على ترك المخالفات والمعاصي بدون الإيمان الراسخ الثابت فقد غلط، ومحبة الله هي أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه فإن المحب لمن يحب مطيع.
وأمر الله عز وجل جميع المؤمنين من أولهم إلى آخرهم بالتوبة ولا يستثني من ذلك أحد وعلق فلاحهم بها، قال تعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، وهو سبحانه لمحبته للعفو والتوبة خلق خلقه على صفات وهيئات وأحوال تقتضي توبتهم إليه واستغفارهم وطلبهم عفوه ومغفرته، وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة لقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم.
والله تعالى يحب التوابين والتوبة من أحب الطاعات إليه ويكفي في محبتها شدة فرحه بها، فتأمل محبته سبحانه لهذه الطاعة التي هي أصل الطاعات وأساسها، فإن من زعم أن أحدًا من الناس يستغني عنها ولا حاجة به إليها فقد جهل حق الربوبية ومرتبة العبودية،
(1) مجموعة التوحيد لابن تيمية (428: 438).
(2)
مجموعة التوحيد لابن تيمية (440: 445).