الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمْصارِ، لا يُجِيزُونَ رَكْعَةً، والذي قال منهم رَكْعَةً، إنَّما جَعَلَها عندَ شِدَّةِ القِتالِ، والذين رَوَيْنا عنهم صلاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُهم لم يَنْقُصُوا عن رَكْعَتَيْنِ، وابنُ عَبَّاسٍ لم يكنْ ممَّن يَحْضُرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم في غَزَوَاتِه، ولا يَعْلَمُ ذلك إلَّا بالرِّوَايَةِ عن غيرِه، فالأخْذُ بِرِوايَةِ مَن حَضَرَ الصلاةَ وصَلَّاهَا مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أوْلَى.
فصل:
ومتى صَلَّى بهم صلاةَ الخَوْفِ، من غير خَوْفٍ، فصلاتُه وصلاتُهم فاسِدَةٌ؛ لأنَّها لا تَخْلُو من مُفَارِقِ إمامِهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وتارِكِ مُتابَعَةِ إمامِه في ثلاثَةِ أرْكانٍ، أو قاصرٍ لِلصلاةِ مع إتمامِ إمامِهِ، وكلُّ ذلك يُفْسِدُ الصلاةَ، إلَّا مُفارَقَةَ الإِمامِ لغيرِ عُذْرٍ، على اخْتِلافٍ فيه. وإذا فَسَدَتْ صلاتُهم، فَسَدَتْ صلاةُ الإِمامِ؛ لأنَّه صَلَّى إمَامًا بمَن صلاتُه فَاسِدَةٌ، إلَّا أنْ يُصَلِّىَ بهم صلاتَيْنِ كامِلَتَيْنِ؛ فإنَّه تَصِحُّ صلاتُه، وصلاةُ الطَّائِفَةِ الأُولَى، وصلاةُ الثانيةِ تَنْبَنى (33) على ائْتِمامِ المُفْتَرِضِ بالمُتَنَفِّلِ، وقد نَصَرْنَا جَوازَهُ.
317 - مسألة؛ قال: (وَإِذَا كَانَ الْخَوْفُ شَدِيدًا، وَهُمْ فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ، صَلَّوْا رِجَالًا ورُكْبَانًا، إلَى القِبْلَةِ وإلَى غيرِها، يُومِئُونَ إيمَاءً، يَبْتَدِئُونَ تَكْبِيرَةَ الإِحْرَامِ إلَى القِبْلَةِ إنْ قَدَرُوا، أوْ إلى غَيْرِهَا)
.
إمَّا إذا اشْتَدَّ الخَوْفُ، والْتَحَمَ القِتالُ، فلهم أن يُصَلُّوا كيفما أَمْكَنَهم؛ رِجالًا ورُكْبَانًا، إلى القِبْلَةِ إن أمْكَنَهم، وإلى غيرِها إنْ لم يُمْكِنْهم، يُومِئُونَ بالرُّكُوعِ والسُّجُودِ على قَدْرِ الطَّاقَةِ، ويَجْعَلُونَ السُّجُودَ أخْفَضَ من الرُّكُوعِ، ويَتَقَدَّمُونَ ويَتَأَخَّرُونَ، ويَضْرِبُونَ ويَطْعَنُونَ، ويَكِرُّونَ ويَفِرُّونَ، ولا يُؤَخِّرُونَ الصلاةَ عن وَقْتِها. وهذا قولُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ. وقال أبو حنيفةَ، وابنُ أبي لَيْلَى: لا يُصَلِّى مع المُسايَفَةِ، ولا مع المَشْىِ؛ لأنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ يَوْمَ الخَنْدَقِ، وأَخَّرَ الصلاةَ،
(33) في أ، م:"تبنى".
ولأنَّ ما مَنَعَ الصلاةَ في غيرِ شِدَّةِ الخَوْفِ مَنَعَها معه، كالحَدَثِ والصِّياحِ. وقال الشَّافِعِىُّ: يُصَلِّى، ولكن إن تَابَعَ الطَّعْنَ، أو الضَّرْبَ، أو المَشْىَ، أو فَعَلَ ما يَطُولُ، بَطَلَتْ صلاتُه؛ لأنَّ ذلك مِن مُبْطِلاتِ الصلاةِ، أشْبَهَ الحَدَثَ. ولَنا، قولُ اللَّه تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (1)، قال ابنُ عمرَ: فإن كان خَوْفٌ أَشَدُّ من ذلك، صَلَّوْا رِجَالًا قِيَامًا على أقْدَامِهم، ورُكْبانًا مُسْتَقْبِلِى القِبْلَةِ وغيرَ مُسْتَقْبِلِيهَا. مُتَّفَقٌ عليه (2). ورُوِىَ ذلك عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ولأنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بأصْحابِه في غيرِ شِدَّةِ الخَوْفِ، فأمَرَهُم بالمَشْىِ إلى وِجَاهِ العَدُوِّ، ثم يَعُودُونَ لِقَضَاءِ ما بَقِىَ من صَلَاتِهِم، وهذا مَشْىٌ كَثِيرٌ، وعَمَلٌ طَوِيلٌ، واسْتِدْبَارٌ لِلْقِبْلَةِ، وأجازَ ذلك من أجْلِ الخَوْفِ الذي ليس بِشَدِيدٍ، فمع الخَوْفِ الشَّدِيدِ أوْلَى. ومن العَجَبِ أن أبا حنيفةَ اخْتارَ هذا الوَجْهَ دُونَ سائِرِ الوُجُوهِ التي لا تَشْتَمِلُ على العَمَلِ في أثْناء الصَّلَاةِ، وسَوَّغَهُ مع الغِنَى عنه، وإمْكانِ الصلاةِ بِدُونِه، ثم مَنَعَهُ في حالٍ لا يَقْدِرُ إلَّا (3) عليه، وكان العَكْسُ أوْلَى، سِيَّما مع نَصِّ اللَّه تعالى على الرُّخْصَةِ في هذه الحالِ، ولأنَّه مُكَلَّفٌ تَصِحُّ طَهارَتُه، فلم يَجُزْ له إخْلاءُ وَقْتِ الصلاةِ عن فِعْلِهِا، كالمَرِيضِ، ويخُصُّ الشَّافِعِيُّ بأنَّه عَمَلٌ أُبِيحَ من أجْلِ الخَوْفِ، فلم تَبْطُل الصلاةُ به (4)، كاسْتِدْبارِ القِبْلَةِ، والرُّكُوبِ، والإِيماءِ، ولأنَّه لا يَخْلُو عند الحاجَةِ إلى العَمَلِ الكَثِيرِ من أحَدِ (5) ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إمَّا تَأْخِيرُ الصلاةِ عن وَقْتِها، ولا خِلافَ بَيْنَنا في تَحْرِيمِه، أو تَرْكُ القِتالِ وفيه هَلَاكُه، وقد قال اللهُ
(1) سورة البقرة 239.
(2)
أخرجه البخاري، في: باب صلاة الخوف رجالا وركبانا راجل قائم، من كتاب صلاة الخوف، وفى: باب تفسير سورة البقرة، من كتاب التفسير. صحيح البخاري 2/ 18، 6/ 38. ومسلم، في: باب صلاة الخوف، من كتاب صلاة المسافرين. صحيح مسلم 1/ 574. كما أخرجه مالك، في: باب صلاة الخوف، من كتاب صلاة الخوف. الموطأ 1/ 184.
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
سقط من: الأصل، أ.
(5)
في أ، م:"أجل".
تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (6). وأَجْمَعَ المُسْلِمُونَ على أنَّه لا يَلْزَمُه هذا، أو مُتابَعَةُ العَمَلِ لِلْمُتَنازَعِ فيه، وهو جائِزٌ بالإِجْمَاعِ، فَتَعَيَّنَ فِعْلُه وصِحَّةُ الصلاةِ معه. ثم ما ذَكَرَه يبْطُل بالمَشْىِ (7) الكَثِيرِ، والعَدْوِ في الهَرَبِ وغَيْرِه. وأمَّا تَأْخِيرُ الصلاةِ يَوْمَ الخَنْدَقِ، فرَوَى أبو سعيدٍ، أنَّه كان قبلَ نُزُولِ صَلَاةِ الخَوْفِ. ويَحْتَمِلُ أنَّه شَغَلَهُ المُشْركُونَ فَنَسِىَ الصلاةَ، فقد نُقِلَ ما يَدُلُّ على ذلك، وقد ذَكَرْنَاهُ فيما مَضَى (8)، وأَكَّدَهُ أنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وأصْحَابَه لم يكونُوا في مُسايَفَةٍ تُوجِبُ قَطْعَ الصلاةِ. وأمَّا الصِّيَاحُ، والحَدَثُ، فلا حاجَةَ بهم إليه، ويُمْكِنُهم التَّيَمُّمُ، ولا يَلْزَمُ من كَوْنِ الشَّىءِ مُبْطِلًا مع عَدَمِ العُذْرِ أن يُبْطِلَ معه، كَخُرُوجِ النَّجاسَةِ من المُسْتَحاضَةِ، ومَن به سَلَسُ البَوْلِ. وإنْ هَرَبَ من العَدُوِّ هَرَبًا مُباحًا، أو مِن سَيْلٍ، أو سَبُعٍ، أو حَرِيقٍ لا يُمْكِنُه التَّخَلُّصُ منه بِدُونِ الهَرَبِ. فله أن يُصَلِّىَ صلاةَ شِدَّةِ الخَوْفِ، سَوَاءٌ خافَ على نَفْسِه، أو مالِه، أو أهْلِه. والأسِيرُ إذا خافَهم على نَفْسِه إنْ صَلَّى، والمُخْتَفِى في مَوْضِعٍ، يُصَلِّيانِ كيفما أمْكَنَهما. نَصَّ عليه أحمدُ في الأسِيرِ. ولو كان المُخْتَفِى قَاعِدًا لا يُمْكِنُه القِيامُ، أو مُضْجَعًا لا يُمْكِنُه القُعُودُ، ولا الحَرَكَةُ، صَلَّى على حَسَبِ حالِه. وهذا قولُ محمدِ بنِ الحسنِ. وقال الشَّافِعِىُّ: يُصَلِّى ويُعِيدُ. وليسَ بِصَحِيحٍ؛ لأنَّه خائِفٌ صَلَّى على حَسَبِ ما يُمْكِنُه، فلم تَلْزَمْهُ الإِعادَةُ كالهارِبِ. ولا فَرْقَ بين الحَضَرِ والسَّفَرَ في هذا؛ لأنَّ المُبِيحَ خَوْفُ الهَلاكِ، وقد تَسَاوَيا فيه، ومتى أمْكَنَ التَّخَلُّصُ بدون ذلك، كالهارِبِ من السَّيْلِ يَصْعَدُ إلى رَبْوَةٍ، والخائِفِ من العَدُوِّ يُمْكِنُه دُخُولُ حِصْنٍ يَأْمَنُ فيه صَوْلَة العَدُوِّ، ولُحُوقَ الضَّرَرِ (9)، فَيُصَلِّى فيه، ثم
(6) سورة البقرة 195.
(7)
في أ، م:"المشى".
(8)
تقدم في صفحة 298.
(9)
في الأصل: "ضرر".